" بين الدوالي " تعبير يستحضر أغنية تراثية " بين الدوالي الكرم العالي" , تأخذنا بعيدا الى أيام الطفولة التي كنا فيها نستظل تحت كروم العنب من سطوة القيظ . وتقفز امامي الفنانة ميادة مصري وهي تنسج من ذكريات طفولتها الممهورة باحاديث الجدة معرضا شكلت فيه ورقة الدوالي المادة التي تحتضن بداخلها المضمون . ذلك الورق الذي سكنته ميادة بكل جوارحها واستنهضته بكل حمل من حنين الى " اللمة " الارض . ففي لوحات ميادة مصري نرى ورق الدوالي قد شكل خلفية للأفق اللوني المطرز بالخيط والكلمة بحيث نكاد لا نراه وهو يحلق ما بين الضوء والظل , ما بين الحضور والغياب1. فورق الدوالي هو الارضية \ الاصل لوجود الصورة الشخصية , وهو الارض الصلبة للخيط كموتيف للتطريز الفلسطيني \ التراث ,وهو الارض الصلبة للتشكيلة اللونية , لتشكل معا ثلاثية الارض \الام \ الوطن .
والفنانة ميادة مصري كما قالت ليفي عدة جلسات بانها مولعة بالأكلة الشعبية " ورق العنب " ,وهي تعدها بنفسها . وكما تحتاج اكلة ورق العنب اللذيذة جهد المرأة , وفن اليدين باللف , وفي التتبيل بالبهارات , تلك الخلطة التي تستدعي الذوق , والتي يمتزج فيها حس المرأة مع خبرتها ,فان اللوحات في هذا المعرض احتاجت بدورها لمسيرة من التجربة الخبرة . وكعاملة مختبر اجرت الفنانة ميادة مصري تجارب عديدة على ورقة التين اولا ,ثم على ورقة الدوالي باعتبارها الاقرب الى نفسها , وكونها مطواعة في التشكيل ,لقربها من النجمة الخماسية حسب راي الفنانة , بعد ذلك تعبر ورقة الدوالي تجارب التجفيف , التلوين , التفكيك , كعملية البناء والهدم واعادة التركيب من جديد في محاولة صياغة عالم \هوية جديدة , وفي هذه المرحلة نرى ان ورقة الوالي وقطبة التطريز الكلمة , ثلاثة رموز تمر في مرحلة الاختزال والتجريد ,فالتجريد عند ميادة لا يقتصر على رموز الطبيعة , وانما تمر جميع الرموز في مرحلة التبسيط والتجريد , فتكتفي الفنانة احيانا بقطبة واحدة من قطب التطريز الفلسطيني , وتكبرها وتعيد صياغتها بلون واسلوب جديدين . وتختزل الفنانة تجربتها في مزج وتجريد الرموز في كلمة " اقرا " 2 . التي كتبت على ورق الدوالي . كلمة (اقرا ) وهي كلمة مستمدة من النص الديني , توظفها ميادة كنص استقرائي للفن والسياسة . حيث تدعو الفنانة المشاهد لقراءة اللوحة , لا لمشاهدتها بالعين (عين الراس ), فقط , وانما مشاهدتها بعين القلب ,اذ عليه ان يغوص بين الفروع والاوراق والالوان ليرى ما "بين الدوالي " فالكلمة (اقرا ) المكتوبة على السطح هي كلمة واضحة المعنى , ولكن من وراء المعنى الظاهر هناك معنى باطني لا نصل اليه الا بعد ان تتم قراءة اللوحة . حين يتضح للمشاهد ان الدوالي تسكن ما وراء الكلمة , وما وراء الخيط واللون ,ويتضح وجه التراث \ الماضي , وتتمازج اللغة \الارض \ الام . وقد تعامل مع رمز "الدوالي " " شجرة الدالية " فنانون فلسطينيون وغير فلسطينيين , كالفنان نبيل عناني , حيث رسم الفنان نبيل عناني المرأة الفلسطينية مع الثوب الفلسطيني داخل هالة 3 (محراب ) مشكل من فرع دالية يحيط بالمرأة ويضفي عليها حالة من القدسية التي تربط المرأة بالأرض , وتشكل نفس الثلاثية التي ذكرتها اعلاه . الا اننا ,نرى كل وحدة على حدة , في حين تتناول الفنانة ميادة مصري الرمز المختزل في ورق العنب كمادة اولا, وكرمز ثانيا , لذا تتجمع المعاني كلها ممزوجة ومتناغمة ومندغمة في لوحة تجريدية بحيث يكبر المعنى ويصبح من الاستحالة فصل الرموز عن بعضها البعض , فلو قمنا بإزالة رمز واحد فإننا نعرض اللوحة الى التحطيم . لان الارض \الام\ا التاريخ \اللغة , كلها وحدة واحدة تشكل الوطن الكلي بما يحتضنه من معان ظاهرة ومستورة .
في لوحة طولية نرى مقطعين مزدانين بأشكال مثلثات , في المقطع الاول نرى مثلثات صغيرة وفي المقطع الثاني مثلثات كبيرة , رسمت بدرجات اللون الاخضر , ويضفي تحديد المثلثات بالخطوط السوداء تشكيل بعدين باللوحة ينتج تفاوت الدرجات اللونية والتناقض ما بين الاشكال الهندسية والخلفية البنية , بحيث تخلق نوع من الايهام بارتفاع المثلثات عن الخلفية رغم الاسلوب التجريدي العام الذي يطغى على اللوحة , وفي حين كان شكل المثلث رمز ضمن رموز اخرى في الطرز الفلسطيني التقليدي, وتفرد له الفنانة حيزا وجوديا , بحيث يستدعي لدى المتلقي اشكال الخيام . وكذا الصبو للارتفاع كإحالة ماضوية مستمدة من تراث الفراعنة وشعوب اخرى. اختارت ليكون شكلا لمعابدها.
وفي عمل اخر، وهو عبارة عن عمل منشأي، نرى لوحة طولية مقسمة لعشرة مقاطع، ويضم كل مقطع تسع مربعات. في الثلاثة مقاطع الأولى تظهر أشكال لولبية (spirals)) وهو احد الأشكال التي تظهر في التطريز الفلسطيني وكذلك في فولكلور شعوب أخرى. أما المربعات في باقي المقاطع في العمل المنشأي (instillation) فهي ملونة باللون الرمادي، وبدرجات الأزرق الموشح بالأبيض. إن الاختلاف اللوني يوهم المشاهد بالعمق الناتج عن اللعب باللون الغامق مقابل الفاتح. ما تحت المربعات وهي التي تحيل للبلاط، تختفي أوراق الدوالي التي تعيدنا الإلهام لهذا العمل والأعمال الأخرى وهي – "عريشة الدوالي
وقد استحوذت ورقة الدوالي على الفنانة ميادة مصري شعوريا وذهنيا خلال مشوارها الفني من سنة 2000-1998 حتى استحال وجه الفنانة نفسها الى بوترية على شكل ورقة دوالي . عندها فقط تصالحت الفنانة مع الموتيف (ورقة الدوالي ) لتسكنها نفسها التي قالت شيئا مما قيل "بين الدوالي ".