هاني المصري للشمس صباح اليوم لاثنين حول مؤتمر فرنسا مرة أخرى، تعود المبادرة الفرنسية إلى الحياة بعد أن طُرِحَت وجُمّدت في العام 2014، لأنّها لم تحظ بتأييد من الولايات المتحدة ودول أوروبية وازنة، ولأن الفلسطينيين والعرب فضلوا طرح مشروعهم الخاص في مجلس الأمن الذي اقترب من نصّ المشروع الفرنسي، إلا أنه لم يتمكن من الحصول على الأصوات التسعة اللازمة لعرضه على التصويت، وذلك برغم كل ما انطوى عليه من مرونة وتنازلات.
ومرة أخرى، يستمرّ بيع الوهم وشراء الوقت من خلال الترحيب الفلسطيني الحماسي بالمبادرة الفرنسية برغم عدم اتضاح معالمها. فهل ستكون مبادرة لتحديد أسس ومرجعية «عملية السلام» وإقرارها في مجلس الأمن، أم للدعوة إلى عقد مؤتمر على غرار «مؤتمر أنابوليس»، أم إلى تشكيل آلية دولية تضمّ، إضافة إلى أطراف الرباعية الدولية، دولًا عربية وإقليمية وأجنبية أخرى، أم ستكون مبادرة لطرح مشروع قرار في مجلس الأمن حول الاستيطان؟
ووفق ما أفادت مصادر متطابقة وما جاء في التصريحات الفرنسية، فإن الأمر لم يُحسَم بعد، خصوصًا بعدما فشل مشروع القرار العربي الذي لا يزال طرياً في الأذهان. والوضع منذ ذلك الفشل بات أسوأ، ولا يُنبئ بوجود فرصة حقيقية لإقرار قرار في مجلس الأمن منسجم مع القانون الدولي وقرارات الأمم المتحدة حول أسس التسوية، أو إطلاق مؤتمر دولي أو تشكيل آلية دولية موسّعة عن اللجنة الرباعية، يكون هدفهما إعطاء غطاء لاستئناف المفاوضات ومواكبتها.
وقد كررت فرنسا تعهّدها بالاعتراف بالدولة الفلسطينية في حال فشل مبادرتها، وهذا أمر جيد. لكنه يمكن أن يتم بعد أسابيع عدة أو أشهر، أو بعد عام أو اثنين أو أكثر. وعندها قد تكون الانتخابات الفرنسية قد أُجريت، وليس من الضرورة أن يلتزم الرئيس القادم بوعد الرئيس الحالي، وفي هذه الأثناء تكون إسرائيل واصلت مصادرة الأراضي وتكثيف الاستيطان والتهويد والعدوان واستكمال خلق الحقائق على الأرض التي تجعل إمكانية قيام الدولة الفلسطينية أبعد وأبعد.
لماذا لا تعترف فرنسا الآن بالدولة الفلسطينية التزامًا بتصويت البرلمان الفرنسي منذ سنوات عدة على ذلك، كجزء من مبادرة تهدف إلى حشد دولي للضغط على إسرائيل للالتزام بإقامة دولة فلسطينية وفق قرار الجمعية العام للأمم المتحدة الذي اعترف بفلسطين كدولة «مراقبة»؟
إن الغموض والتردّد اللذين يكتنفان التحرك الفرنسي يصب في النهاية لمصلحة استئناف المفاوضات من دون مرجعية ملزمة، وبمواكبة دولية شكلية لمدة عام ونصف. وهذا إن حدث يجعل المبادرة نوعًا من اللعب بالوقت الضائع، وتجنب اعتماد مسار جديد مختلف عن مسار المفاوضات الثنائية برعاية أميركية أو دولية شكلية، برغم إدراك فرنسا والعالم كله بأن تجديد الصيغ الفاشلة السابقة محكوم عليه بالفشل، فضلًا عن أن المؤتمر الدولي آلية إجرائية، وأنه لا يمكن أن ينجح ما لم تكن له مرجعية واضحة ملتزمة بالقانون الدولي وقرارات الأمم المتحدة، وعلى رأسها القرار الذي يعترف بالدولة الفلسطينية المراقبة.
لذا، فإذا أرادت فرنسا أن تأخذ إسرائيل والعالم كله مبادرتها على محمل الجد؛ فعليها أن تسلك طريق الضغط على إسرائيل والولايات المتحدة، وليس مجرد محاولة للتهدئة وتقطيع الوقت إلى حين انتهاء عام إجراء الانتخابات الأميركية التي تنشغل فيه إدارة واشنطن، وتصبح مثل البطة العرجاء، خصوصًا بعدما أعلنت منذ أشهر أنها ليست بوارد بذل جهود لاستئناف المفاوضات، وأن أقصى ما يمكن عمله هو السعي لخفض التوتر، ومنع انحراف الوضع نحو مزيد من المجابهة الفلسطينية - الإسرائيلية ونحو انهيار السلطة التي تحتاج إلى دعم وتسهيلات.
ومن الأفضل للقيادة الفلسطينية بدلًا من إضاعة عام أو اثنين وراء سراب جديد، أن تدرك أنّ فرنسا لن تكون ملكية أكثر من الملك. فإذا لم يكن الموقف الفلسطيني قويًا وواضحًا وموحدًا وقادرًا على الحصول على دعم عربي ثم دولي، فإن فرنسا ستنسحب كما انسحبت في المرة السابقة، أو تكتفي بممارسة جهد ساهم في منع أو تأخير تبني الفلسطينيين مساراً جديداً، كلّما تأخروا في تبنّيه ضاعت قضيتهم وحقوقهم أكثر.
على القيادة الفلسطينية أن تكفّ عن إطلاق مبادرات عدة في الوقت نفسه، تؤخذ مواقفها على محمل الجد. عليها أن تركز جهودها كما أعلنت مؤخرًا على عرض مشروع قرار في مجلس الأمن حول الاستعمار الاستيطاني لتأكيد أنه غير شرعي وغير قانوني، ومطلوب اجتثاثه، كما جاء في قرارات دولية سابقة، على أن ينص القرار على انطباق اتفاقيات «جنيف الأربعة» على الأراضي المحتلة العام 1967.
هذا القرار ـ إن حصلنا عليه - يُعيدنا إلى المكانة القانونية والسياسية التي كنّا فيها بخصوص الاستيطان قبل أوسلو، وهو قرار له فرصة للمرور في مجلس الأمن، لأن إدارة أوباما قد ترغب بوضع بصمة قبل رحيلها. كما أنّ العالم ضاق ذرعًا بالاستيطان، وبحاجة إلى عمل شيء لإنقاذ ما تبقى من حل الدولتين، خصوصًا في ظل تآكل السلطة وتراجع شعبيتها واشتداد معركة الخلافة برغم عدم وضوح آلية انتقال السلطة إذا استقال الرئيس أو وافته المنية.
لا يمكن إحياء العظام وهي رميم، ولا يجب إحياء ما سميت «عملية السلام»، لأنها استخدمت للتغطية على استمرار الاحتلال والاستيطان والعدوان، خصوصًا في الوقت الذي تكشر فيه الحكومة الإسرائيلية عن أنيابها، وتحاول توظيف ما يجري في المنطقة من دمار وإرهاب وتقسيم للبلدان العربية وإحياء للمذهبية والطائفية لمصلحة استكمال مقوّمات استكمال إقامة إسرائيل الكبرى.
إن تحرّك فرنسا أمر جيد بدليل غضب الحكومة الإسرائيلية، ولكن رفض إسرائيل ليس دليلًا كافيًا على أن «مبادرة الإليزيه» ستحمل شيئًا طيبًا، فهي قد تكون حركة بلا بركة ولتبرئة النفس وإضاعة الوقت إذا لم تتوفر الشروط المعروفة لنجاحها، والخلل ليس عند فرنسا وإنما عندنا، فلا أحدَ يعرف ماذا نريد وكيف سنحققه في ظل الضعف والتوهان والانقسام والانشغال بمعارك شخصية وجانبية.
للاستماع للمقابلة كاملة