تنوعت الردود حول الموقف التركي بين ناقد ومُهلل، ولذلك أظن أن هناك حاجة لقراءة موضوعية للموقف التركي وقراءاته في سياقاته المختلفة والحكم عليه، وفي هذا السياق أظن أنه لا يمكن الحديث عن فوز بالضربة القاضية للطرفين، هناك نقاط ومكاسب وتنازلات وحسابات من كلا الطرفان، ولكن كفة النقاط لحد معين ترجح لكفة الاتراك إذا ما قسنا الامر ليس فقط في سياق القضية الفلسطينية.. ففي سياق رفع الحصار بالفعل كان هناك خيبة أمل لحد معين، ولكن الحديث هنا عن الاتفاق بالمجمل.
ولكن لكي نقيّم الموقف التركي والاتفاقية التي تمت يجب أن تكون المنطلقات واحدة، وعليه احببت ايضاح النقاط التالية:
1. الواقعية السياسية والمبدئية: احد مكونات اتخاذ القرار في أي شيء هو المبادئ، التي يحملها الانسان او الدول، والامر الثاني هو الواقع الموجود.. في سياق الاتفاق، الواقع السياسي التركي ليس بأحسن احواله وأظن أن تركيا مبدئياً مساندة للقضية الفلسطينية ولنضال الفلسطينيين وكان ذلك من اساطيل الحرية، استقبال قيادات حماس والوقوف ضد اسرائيل في وقت الحرب وغيره ولكن الواقع السياسي الدولي والاقليمي ليس بصالحها أبداً والدليل على ذلك هو التفجيرات التي هزت تركيا ناهيك عن العلاقات المتوترة مع دول الجوار واوروبا وروسيا.
2. الاولويات: هل تركيا اولوياتها في هذه المرحلة فك حصار الفلسطينيين، ام التخفيف من الضغط عليها ومن العلاقات المتأزمة مع عدة دول في المنطقة.. هذا سؤال يمكن أن يجيب عليه الاتراك، واظن باتفاقهم اجابوا عليه لصالح الأولوية التركية.. (وهذا ليس بالضرورة معيباً للأتراك).
3. الدول الوطنية ومفهوم الأمة: أظن انه ما زال يسيطر على الدول الحديثة مفهوم الدولة الوطنية، وبالتالي الأهم في الية اتخاذ القرار هو ما ينفع الدولة الوطنية وتركيا بقيادة العدالة والتنمية حاولت زيادة بُعد الأمة ولكنها لم تستطع او لم تُرد تطبيقه بشكل كامل لأسباب عدة. وبالمناسبة، وفي سياق النقد العربي الذاتي، نحن نعيب على الدول العربية علاقتها مع اسرائيل ولا نعيب بذات الحجم على تركيا، يمكن لافتقاد البعض مفهوم الامة ويمكن أن يكون ذلك لأن تركيا العدالة والتنمية جاءت بعد بناء العلاقات مع اسرائيل ومن الصعب قطعها واتخاذ موقف دراماتيكي. كما أن ذلك ممكن أن يعود لكون تركيا العدالة والتنمية تؤمن بالفعل بالسلام وفق حل الدولتين وتتعامل معه، وبالتالي يجب أن يكون موقفنا منصفاً ضد او مع تركيا في هذا السياق وليس عاطفياً.
4. القضية الفلسطينية كمنطلق: وهنا اتحدث عن نظرتنا نحن لأولويات الدولة التركية، هل نقيّم الاتفاق على أساس ما يهم الفلسطينيين العرب أم ما يهم الاتراك، وهذا سؤال جداً جداً مهم ويمكن أن يجرنا لنقاشات عميقة. فاذا كان منطلقناللتقييم هو ما يتعلق ويهم الفلسطينيين فقط فلماذا لم تناصر جُل الشعوب بشار الاسد ونصر الله وهم وقفوا لحد معيّنمع الفلسطينيين.. لأنه هناك اولويات وسياقات حسابات أخرى، ولأن الامر ليس بهذه البساطة وفيه من التعقيد ما فيه، وفيه من صراع الاولويات ما فيه فلا يمكن التفكير بهذه البساطة.
كما أن التفكير فقط بأن القرار يجب أخذه بما يهم الاتراك فقط سيء، كذلك أخذه بما يهم الفلسطينيين فقط، هو كذلك سيء.
5. تخفيف ظروف السجن: الادعاء أن الاتفاق يخفف ظروف السجن للفلسطينيين ولا يلبّي حاجات الفلسطينيين بشكل كاملهو ادعاء صحيح، نعم، لا يلبيها كاملة.. ولكن من المهم أخذ الاتفاق كحزمة واحدة مع الظروف الاقليمية والدولية يمكن أن يكون هذا افضل ما وصل اليه الاتراك وفق موازناتهم المختلفة.. والتخفيف عن الفلسطينيين بحد ذاته أمر مهم جدا جداً كما أنه يدعم نضالهم فبدون وضع معيشي افضل للناس لن يكون هناك قدرة على الصمود كما أن الوضع الانساني بحد ذاته مهم، ويجب أن لا ننتقص منه، ولا ننسى أن الاتراك شاركوا قيادات حماس الاتفاق من خلال زيارة مشعل،وكما أن السجين يسعى لحريته الكاملة كذلك هو لديه سلم مطالب واهداف منها تحسين ظروف اعتقاله.. ولكن اتفق بالمقابل أن هذا ليس أفضل شيء يريده هذا السجين..
6. تقييم موقف الاتراك وفق مطالبهم ومطالب الاسرائيليين: الاتراك ارادوا الاعتذار والتعويض وفك الحصار وقد وحصلوا على اثنتين والثالثة بشكل جزئي (بالمناسبة الاعتذار بالدبلوماسية الدولية يكون بكلمات منتقاة ولا يكون مباشراً كما أن التعويض اقرار بحصول جريمة اسرائيلية) والاسرائيليون لم يريدوا كل ذلك.. وكانوا يريدوا طرد حماس وقسم منهم ارادوا الحصول على جنود مأسورين.
بالمحصلة وبالأخذ بعين الاعتبار الظروف الاقليمية والواقعية السياسية وبأخذ المتغيرات والاولويات.. يمكن أن نقول صحيح انه لم يكن فك كامل للحصار (التسهيلات والمساعدات ممكن أن تساهم جداً في تيسير حياة الفلسطينيين في القطاع) وهذا يقلل جداً من الاتفاق ولكنه أفضل من لا شيء وبمعايير النقاط (وتقييم الاتفاق في الظروف الراهنة التي تعيشها تركيا والمنطقة) يمكن ان نقول ان هناك 55% نجاح للأتراك الى 60% مقابل 45% للإسرائيليين، ولو كان الاتفاق في ظروف أخرى يمكن أن يحوز على علامة أخرى.
الامتحان الحقيقي هو بالتطبيق وما يتبع الاتفاق من عمل على الارض، ولا أظن أنه سيكون شكل العلاقة ودية بين البلدان، وانما حفظ المصالح لكل دولة والتعامل مع الاخر يكون وفق هذه المصالح..
للتذكير لا يمكن تشبيه المواقف التركية والخطوات التركية اتجاه القضية الفلسطينية والعربية بالمواقف العربية المتخاذلة ولكن بالمقابل يجب عدم رفع سقف التوقعات من تركيا وقيادتها والظن أنها المخلّص والدولة الاسلامية المثالية، بل دوله لها سلبياتها وايجابياتها وحساباتها الذاتية والدولية.. ويجب التفكير بموضوعية اتجاه تركيا ومواقفها.. ووجوب نقدها كما يجب ذكر الايجابيات وكل ذلك في سياقاته المناسبة