مارس البشر على مرّ الزمان الكثير من المحرمات وكان من أكثرها إثارة للدهشة أكل بعضهم لحوم بعض، تماما كما هو شائع لدى الحيوانات.
وهناك أدلة متزايدة تشير إلى أن البشر لم يتجنبوا هذا الفعل الشنيع طوال الوقت، خاصة بعد أن اكتشف علماء الآثار عظاما بشرية متآكلة في كهف غوف (Gough) في سومرست في المملكة المتحدة وفي مناطق أخرى من أوروبا. وتشير الأدلة إلى أنها بقايا وليست عظاما مدفونة.
وفي عام 1903 تم الكشف عن بقايا عظام بشرية لرجل داخل كهف غوف في منطقة شيدر في سومرست، وهو ما عرف بأقدم هيكل عظمي بريطاني كامل يعود لحوالي 7150 سنة قبل الميلاد وقد سمي بـ "رجل شيدر". وما يميز "رجل شيدر" هي وجود آثار للعنف على عظامه، حيث يعتقد الباحثون أن هناك احتمال أنه كان وجبة غذاء لآخرين، إلا أن ذلك لم يُثبت بالدليل القاطع، وفي السنوات الأخيرة تم اكتشاف بقايا عظمية بشرية مختلفة أخرى في الكهف، وفي العام 2015، أعلن علماء الآثار أنها بقايا ناتجة عن افتراسهم من قبل غيرهم وليست جثثا مدفونة.
وقالت سيلفيا بيلو من متحف لندن الوطني، وأحد أعضاء فريق البحث: "لقد وجدنا أدلة غير قابلة للشك لجثث تعرّضت للتهشيم والتقطيع والمضغ بالإضافة إلى سحق للعظام الاسفنجية وتكسير للعظام بغية استخراج النخاع منها".
ومنذ بدء عمليات التنقيب والحفريات في كهف غوف عام 1992، قامت سيلفيا وباقي زملائها من عداد الفريق بتحليل العلامات والآثار الباقية من سكان الكهف خلال عصور ما قبل التاريخ، فوجدوا أن هذه العظام تعود إلى ما قبل 15 ألف عام.
وبالنظر إلى أن عملية الدفن لم يكن معمولا بها آنذاك ، فقد كانت الفرضية الأقرب إلى الحقيقة هي أن سكان هذا الكهف قد أكل بعضهم بعضا وذلك باعتبار أن هذه الآثار لم تكن مكتشفة بعد عندما وجد علماء الآثار بقايا بشرية أخرى في أماكن مختلفة تبدو وكأنها عوملت كما القمامة العادية.
ولم تكن تلك العظام المكتشفة لبالغين فقط، بل شملت ايضا بقايا عظام لطفل يبلغ من العمر ثلاث سنوات ولاثنين من الصبيان، وفقا لتقرير هيئة الإذاعة البريطانية "بي بي سي".
وبطبيعة الحال ليس أكل البشر بعضهم لبعض بالفرضية التي يميل علماء الآثار والأنثروبولوجيا إلى إثباتها بسهولة أو ببساطة. فهي في الواقع أمر غير مريح بالنسبة لهم لأن هذا الافتراض يشير إلى جانب مظلم من جوانب الطبيعة البشرية، فضلا عن الصعوبة الكبيرة في إثباته.
ومن أصعب الجزئيات إثباتا القدرة على التفريق بين العظام المتآكلة نتيجة لقضمها كونها طعاما وبين العظام المنزوعة اللحم بعد الموت نتيجة لطقوس ما كان معمولا بها آنذاك. لذلك عمل الباحثون على العثور على علامات واضحة للمضغ مثل آثار الأسنان البشرية أو آثار السحق لاستخراج ومص النخاع، وهو ما عثر عليه فريق البحث في كهف شيدر.
وما يعزز هذه الفرضية هو عثور باحثين ألمان على علامات عضّ وقطع على عظام النياندرتال تعود لـ 45 ألف عام في غوييت ببلجيكا، وهذه العلامات مشابهة لآثار العض على عظام حيوانات أخرى، مما يشير إلى أن النياندرتال تغذوا بعضهم على بعض.
ورغم ما توصل إليه فريق البحث من أدلة لم تتضح بعد الأسباب الكامنة وراء أكل البشر بعضهم لبعض، لكن العلماء يرجحون أن الظروف القاسية أو بعض الطقوس والشعائر كانت وراء قيام البشر بأكل بعضهم لحم بعض.
المصدر: "ساينس ألرت"