"أنت على خطأ.. إذاً أنا على صواب!!"
على الرغم من شيوع حديث النبي صلى الله عليه وسلم: (كل ابن آدم خطاء، وخير الخطائين التوابون)، إلا أن معظم الناس -إلا من رحم ربي- لا يتصور نفسه مخطئاً، ولا يستسيغ فكرة الاعتراف بالخطأ، ناهيك عن إصلاحه.
فالخطأ يرتبط بالتفكير وباتخاذ القرار، والذي يترتب عليه حسن أو سوء التصرف، والتفكير يرتبط بالذات بصورة يصعب معها التعامل بحيادية أو فض الاشتباك بينهما، وكما يقول ديكارت: "أنا أفكر إذاً أنا موجود"، فإذا أراد أحدهم أن يقنعك بأن تفكيرك محدود أو غير صحيح أو متسرع أو.... فإنه سيصطدم لا محالة بصورتك عن نفسك والتي تراها أنت كما تحب أن تراها لا كما هي في الحقيقة، أو هكذا يحدث غالباً. ومازلنا في حاجة لتعلم فنون تأكيد الذات والتي من بينها الاعتراف بالخطأ، كما الدفاع عن الحق.
ولقد رصد د. إدوارد دي بونو -أحد الناشطين في مجال أبحاث التفكير والإدراك، رئيس مؤسسة البحث المعرفي ببريطانيا (The cognitive Research Trust)- العديد من أخطاء التفكير المنطقية، والتي يتسبب فيها قصور إدراك المرء عن استيعاب كل ما يحيط بالمشكلة أو الموضوع الذي يفكر فيه، وعلى الرغم من تأكيد د. دي بونو أن التفكير الفعال ليس هو فقط التفكير المتحرر من الأخطاء المنطقية، إلا أنه يؤكد أيضاً على صعوبة تعريف التفكير الماهر بطريقة واضحة ومحددة؛ ولذلك فمن الأيسر تحري الأخطاء المنطقية وتجنب الوقوع فيها، ومن ثم التدريب على اكتساب مهارات تفكير مساعدة (إن السيارة التي تقاد ببراعة لا يعني أنها تسير في الاتجاه الصحيح إذ قد يكون فاتها منعطف مهم..).
ومن أهم ما ذكره د. دي بونو في كتابه "تعليم التفكير"، تسعة أخطاء غالباً ما ندمن الوقوع بأحدها أو أكثر، وسواء أخطأنا بوعي أو بغير وعي، فإنه نادراً ما يستطيع أحدنا التراجع أو الاعتراف بأنه كان مخطئاً:
(1) التحيز والنظرة الجزئية:
إن النظرة الجزئية أو الضيقة تعد إلى حد بعيد، الخطأ الرئيس في التفكير، وهو خطأ في الفهم وقصور في الإدراك. وفي هذه الحالة ينظر من يفكر إلى جزء من الموقف فحسب، ويقيم حجته على أساس ذلك، وفي الحقيقة فإنه من السهل أن يصر المرء على وجهة نظر معينة -متعمداً كان أو غير متعمد- طالما أنه يستطيع أن يشيد حجة متسقة منطقياً يعتمد عليها في إقناع الآخرين، ويصعب -إن لم يكن يستحيل- غالباً اكتشاف الخطأ ما لم يكن هناك إلمام بجميع جوانب الموضوع.
(2) السلم الزمني:
ويعتبر هذا الخطأ حالة خاصة للنظرة الجزئية، حيث يركز المرء على شريحة زمنية ضيقة، غالباً ما تكون قريبة.. ويبدو هذا الخطأ واضحاً حين نحاول توقع نتائج الأحداث، فكثيراً ما تتغير نتائج الحدث الواحد بعد مرور فترة من الزمن، فما يبدو إيجابياً ومرضياً في نتائجه القريبة قد لا يكون كذلك على المدى البعيد، والعكس صحيح.
(3) التمركز حول الذات:
وهو أن تتركز المساحة الجزئية للإدراك على الذات، وإذا كان هناك مبرر للتمركز حول الذات، من منطلق أن الغرض من التفكير الشخصي يكمن في إفادة المرء نفسه لمواجهة الحياة بفاعلية.
فإن الخطأ لا يقع إلى حدٍ بعيد في عناية المرء بمصالحه، بل في عجزه عن رؤية بقية الموقف. وإذا كان بوسع المرء أن يرى الموقف بطريقة أشمل ثم يعود للتمركز حول ذاته فإنه في هذه الحالة سيكون صائباً في تفكيره غير أنه أنانياً في أخلاقه.
(4) العجرفة والغرور:
يبرز خطأ الغرور حينما يبدو تفسير منطقي واضحاً لأمرٍ ما، ويؤخذ هذا التفسير حينئذ على إنه صحيح.. ويكمن الخطأ في أن الرضا عن التفسير المبدئي يعوق البحث عن أية تفسيرات أخرى، برغم إمكانية وجود تفسيرات أخرى قد تتجاوز التفسير الأول وربما تفضله. ويوجد سببان لهذا النوع من الخطأ بالغ الأهمية:
أولهما؛ أنه لا يبدو خطأً على الإطلاق إذ غالباً ما يكون كافياً ومُرضياً.
والثاني هو وجود طريقة منطقية لتبريره مما يعوق البحث عن طرق أخرى.
ويمكننا القول إن تقدم العلم يعود فقط إلى العلماء الذين هيئوا أنفسهم لعدم الرضا عن التفسير الأقرب، وكرسوا جهودهم للبحث عن تفسيرات أخرى.
(5) الحكم الأولي:
وينتج حين يستخدم التفكير لا للوصول إلى الحكم وإنما لمناصرة حكم تم إصداره سلفاً، على أساس من التحيز أو العاطفة أو الاعتقاد أو التكتل الاجتماعي. ومما يؤسف له أن المدارس تشجع هذه العادة؛ إذ يُدرب التلميذ على إبراز وجهة نظره في أول المقالة كي يستخدم بقية المقالة في الدفاع عن وجهة النظر هذه.
وليس الخطأ في إصدار حكم ابتدائي ولكن الخطأ في توجه العقل نحو خلق حجج متسقة منطقياً لدعم هذا الحكم، ومن سمات العقل أنه إذا لم يجد ما يشغله فإنه يندفع إلى صياغة الأحكام متأثراً بالبعد العاطفي "أحبذ كذا أو لا أحبذه".. بينما يحتاج المرء إلى مزيد من السعة في الإدراك لتمحيص الموقف والتعامل مع الحكم الابتدائي كنقطة عبور للحكم النهائي.
(6) الحكم المناوئ:
وهو التأكيد على صدق الحجة بإبراز خطأ منطقي في الحجة المعارضة، لنصل إلى القول: أنت على خطأ ومن ثم فإني على صواب.
فالخطأ المنطقي في حجة أي امرئ لا يزيد عن كونه خطأً منطقياً لتلك الحجة، ولا يعني بأية حال ضرورة صحة الحجة المعارضة.. والواقع يشهد أن أغلب الخلافات التي تحدث وتتسع بين الأفراد، تنتج وتستمر بسبب سوء توجه الحوار بين الأطراف المختلفة، فكل منهم ينبري لإبراز أخطاء الآخرين معتبراً أن ذلك كافياً لتأكيد صحة موقفه، على الرغم من احتمال أن يكون الجميع على خطأ، أو الجميع على صواب ولكن من وجهات نظر مختلفة، وهو مسلكاً يصب في إطار الكِبر الذي نهى عنه ديننا الحنيف، والذي عرفه النبي صلى الله عليه وسلم، بقوله: (الكبر هو درء الحق وغمط الناس).
(7) تضمين الذات:
إن الحاجة إلى أن تكون على صواب طوال الوقت، هي الهدف الأكثر قوة في تحديد اتجاه التفكير، من بين معظم الأهداف الأخرى؛ إذ يستخدم المرء تفكيره كي يحافظ على صواب موقفه، ثم يعتقد به. ويجد أحدنا صعوبة بالغة في الاعتراف بأن تفكيره خطأ حتى بينه وبين نفسه -على الرغم من كثرة ترديدنا للحكمة القائلة بأن الاعتراف بالحق فضيلة- كما يجد الصعوبة نفسها في الاعتراف بأن تفكير غيره على صواب.. فالتفكير يستخدم لدعم الأنا لا لاستكشاف آفاق الموضوع.
ولذلك يغلب على التفكير الافتقار التام للموضوعية، برغم أن بناء الأفكار قد يكون منطقياً ومتسلسلاً لدى المفكرين الماهرين إلا أن الإدراك منحاز بشكلٍ كبير.
(8) خطأ المقدار (الخطأ الكمي):
وهو واحد من الأخطاء الرئيسية في الإدراك، فعلى سبيل المثال دعاوى الإعلانات عن "المعقمات تقتل الجراثيم"؛ فالجراثيم تؤثر في بقايا الطعام وتسبب رائحة الفم، فإذا استخدمت معقماً في غسيل الفم فسيكون نفسك ألطف.
ويبدو هذا كله منطقياً تماماً، إلا أنه خاطئ تماما من وجهة نظر كمية؛ فالمعقم ينحل سريعاً في الفم بحيث لا يمكنه قتل الجراثيم إلا لدقيقة واحدة على الأكثر، أما الجراثيم فتتضاعف بسرعة لتعويض نفسها.. وعلى أية حال فإن تركيز المعقم الذي يقتل الجراثيم في أنبوب الاختبار يختلف كثيراً عن تركيزه في الفم. وبالتالي فلا يمكن للمرء الكشف عن الخطأ إلا إذا توفر لديه مجال واسع للإدراك يتيح له الحكم على الحجة المطروحة.
(9) التطرف:
إن عادة التطرف تنتج إلى حد ما من اعتيادنا التعامل مع مفاهيم وتعريفات مطلقة، فما أن يدخل شيء ما في إطار التعريف حتى يجري التعامل معه بطريقة مماثلة لكل ما هو في ذلك الإطار.
وربما لاحظ بعضنا كيف تسيطر تلك الأحكام العامة والمفاهيم المطلقة على الكثير من حواراتنا وتشكل رؤانا، فكل الألمان متكبرون، وكل اليابانيين مخترعون مبدعون، وكل من لم يدرس بالجامعة غير مثقف.. وفي الحقيقة كل ما بدأ بـ "كل أو جميع" يحمل جانباً من الخطأ في التفكير، ونادراً ما يثبت صوابه. ويحضرني قول الله تبارك وتعالى في سورة النساء: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ إِذَا ضَرَبْتُمْ فِي سَبِيلِ اللّهِ فَتَبَيَّنُواْ وَلاَ تَقُولُواْ لِمَنْ أَلْقَى إِلَيْكُمُ السَّلاَمَ لَسْتَ مُؤْمِناً تَبْتَغُونَ عَرَضَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا فَعِندَ اللّهِ مَغَانِمُ كَثِيرَةٌ كَذَلِكَ كُنتُم مِّن قَبْلُ فَمَنَّ اللّهُ عَلَيْكُمْ فَتَبَيَّنُواْ إِنَّ اللّهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيراً} النساء: 94.
فقد نهى الله تعالى عن إطلاق حكماً عاماً على البشر، حتى فيما يتعلق بقضايا الإيمان، فليس كل من يلقي السلام من الأعداء يلقيه تقية أو مخافة القتل، وإنما قد يكون مؤمناً يكتم إيمانه كما كان الصحابة من قبل.. ولولا مخافة الإطالة على القارئ الكريم لاستفضت في ربط كل ما يتعلق بالتفكير السليم بما يدعوه إليه ديننا الحنيف.
وينبغي حين نتحدث عن أخطاء التفكير أن نحذر الخلط بين قصور الإدراك وافتقار المعرفة، فالإدراك ليس مثيلاً للمعرفة؛ وإنما هو طريق النظر في المعرفة المتوافرة، وهو أيضاً طريق توجيه الانتباه، لما هو أكثر من المعرفة المتوافرة.
فعيوب التفكير لا تقع غالباً في قصور المعرفة، بل في قصور الطريقة التي ننظر بها إلى الأمور؛ فإذا نظرنا إلى الموقف بأسلوب يتمركز حول الذات، فقد اخترنا أن نفعل ذلك، وإذا افترضنا واثقين أن تفسيراً معقولاً يستبعد أي تفسير آخر، فإننا اخترنا الحكم بذلك.
وقبل أن أختتم طرحي لما سرده د. دي بونو في كتابه، ينبغي التأكيد على أن التحرر من الأخطاء المنطقية لا يعني وحده مهارة التفكير.. وإنما يعني تجاوز ذلك إلى تنمية سعة الإدراك وتطوير مهارات تفكير