بقلم: هاني المصري
لم يكن شيئًا هينًا ظهور فيروس "كورونا" في أواخر العام 2019، وانتشاره مثل النار في الهشيم، إذ قَلَبَ في بضعة أشهر العالم كله رأسًا على عقب، فهو جعل الإنسان حتى في الدول التي تعدّ نفسها متقدمة، يشعر بحدوث نهاية العالم، ويقف أمامه قلقًا عاجزًا حزينًا، لا يفهم كيف حصل هذا الوضع، ومتى وكيف سينتهي، وكم ستكون الخسائر الفادحة، وهل سينهض من جديد؟
ولكن كورونا ليس حدثًا مستحيلًا توقّع حدوثه، فهناك فيروسات قبله، مثل الأنفلونزا الإسبانية التي خلّفت عشرات الملايين من الضحايا، و"سارس"، و"أيبولا"، و"إنفلونزا الطيور" وغيرها.
ينطبق على ما نراه اليوم ما أشارت إليه الدراسات المستقبلية، وتحديدًا منهجية السيناريوهات، من احتمال وقوع سيناريو يطلق عليه بعض العلماء "سيناريو اللعنة"، وهو قليل الاحتمال، أو حتى نادر الحدوث (احتمالية حدوثه لا تزيد عن 5%)، ولكنه إذا حدث يحدث تغييرًا كبيرًا. وبالتالي، فإن عالم ما بعد فيروس كورونا سيكون مختلفًا عمّا قبله.
لم تكن عاصفة الكورونا لتُحْدِث هذا الزلزال الذي ضرب أركان الأرض الأربعة، لو كان هناك نظام عالمي يحتكم إلى أسس ناظمة عادلة، وقيادة تحتكم إلى مصلحة البشرية والقيم الإنسانية والأخلاقية. فنحن نعيش في عالم ظالم وحشي استغلالي يسعى فيه الأقوياء المتحمسين وراء الأرباح والسلطة فقط. عالم أصبح منذ زمن بلا قيادة، تسوده شريعة الغاب. فمنذ سنوات، وتحديدًا منذ هبوب رياح التطرف والمحافظين الجدد والليبرالية الجديدة المتوحشة والتيارات اليمينية الشعبوية في أميركا والعديد من بلدان العالم، التي حملت مؤخرًا دونالد ترامب إلى سدة الرئاسة الأميركية، استكمل هذا التيار تنفيذ الانقلاب على النظام العالمي القديم الذي حكم العالم منذ انتهاء الحرب العالمية الثانية، وبدأ ينهار بعد انهيار الاتحاد السوفييتي وحل محلّ النظام ثنائي القطبية نظامًا أحادي القطبية تحت سيطرة الولايات المتحدة.
ثم تبنى هذا النظام العولمة التي حولت العالم إلى قرية صغيرة تحت قيادته، وانتهى بعد أن بدأت الأرض تميد من تحت أقدامه إلى الانقلاب عليها طارحًا الحمائية، التي جعلت شعارات مثل "أميركا أولًا" هي الأولوية، أما بقية العالم فليذهب إلى الجحيم.
وأمام تراجع دورها العالمي، تسعى الولايات المتحدة بكل ثقلها لوقف بزوغ وتزايد إرهاصات نشوء ثنائية أو تعددية قطبية. فتقدم الصين، تحديدًا، يمثل تهديدًا متزايدًا للسيطرة الأميركية الانفرادية بعد أن حققت الصين في العقود الماضية ما يشبه المعجزة بتقدمها الهائل، إذ باتت تهدد الولايات المتحدة بفقدان سيطرتها الانفرادية على العالم. لذا، عملت واشنطنقبل ترامب، وتعمل بعده بصورة أشد، على وقف زحف التنين الأصفر، وستعمل كل ما تستطيع لوقف هذه العملية.
في هذا السياق والأجواء، وجدنا تربة خصبة لنظرية المؤامرة لتفسير وباء كورونا، فهناك من يقول إن الصين تقف وراءه لتحقق هدفها بقيادة العالم، وهناك أطراف أكثر بكثير، خصوصًا في منطقتنا وعندنا في فلسطين والبلدان العربية، تقول إن أميركا تقف وراء زرع الفيروس، وانتشاره، وتحويله إلى وباء عالمي، من أجل وقف زحف الصين نحو قيادة العالم، وتطبيقًا لنظرية توماس مالتوس للحد من الاكتظاظ السكاني المتسارع.
من يدعي أن فيروس كورونا من فعل أميركي أو صيني أو غيرهما عليه أن يثبت بالبيّنة والبرهان. أما إطلاق التهم من دون دلائل فلا يكفي، ويعكس عدم المسؤولية.
لقد وجد أنصار نظرية المؤامرة ضالتهم، وعززها تصريح منسوب للمرشد الإيراني علي خامنئي، وآخر منسوب إلى مسؤول بالخارجية الصينية يُحمّل جنودًا أميركيين مسؤولية زرع الفيروس في مدينة ووهان الصينية، ولم يغير اعتقادهم نفي صادر من الخارجية الصينية على لسان غين شوان، مؤكدًا فيه أن مصدر سلالة كورونا يجب أن يحدده العلماء، إضافة إلى رفض رضا ملك زاده، مساعد وزير الصحة الإيراني، نظرية المؤامرة القائلة إن تفشي فیروس کورونا كان في سياق "حرب بيولوجية".
وبالفعل، أصدر 27 عالمًا من أبرز علماء الصحة في العالم بيانًا تضمن موقفهم بأن مصدر الفيروس البر، وليس فعل بشري، وهذا ما يجب أن نتعامل على أساسه إلى أن يثبت العكس .
لا شك بأن التاريخ كله شهد مؤامرات لا حصر لها، كما شهد حروب إبادة مثلما حصل مع الهنود الحمر وحرب الأفيون، ولكن التاريخ كله ليس مؤامرة، ولا يمكن تفسير كل حدث أو كل الأحداث وفقًا لنظرية المؤامرة من دون توفر الدلائل والحقائق والبراهين، التي من دونها تكون المؤامرة نوعًا من إسقاط التمنيات أو المواقف السياسية على الواقع. فلا يكفي العداء للولايات المتحدة واعتبار ما تقوم به من فظائع ومؤامرات بحق البشرية؛ برهانًا نظريًا أو دليلًا عمليًا على وقوع المؤامرة اليوم.
وبعدما أصبح فيروس كورونا وباء عالميًا يجتاح ويصيب كل البلدان من دون تمييز، ويسبب خسائر فادحة يصعب تقديرها وصلت إلى الترليونات، وخصوصًا للصين والولايات المتحدة والدول الأقوى، فيجب الكف عن ادعاء المؤامرة. وتكمن خطورة نظرية المؤامرة في أنها تحرف الأنظار عن حقيقة ما يجري، وضرورة فهم إمكانياته وتداعياته واحتمالاته والعوامل المؤثرة فيه، والأهم تنشرُ العجز وتحولُ دون البحث الجاد والعلمي في أسبابه، وكيفية الانتصار عليه.
لا يعني عدم صلاحية نظرية المؤامرة لتفسير ما يجتاح العالم الآن، أن كورونا ليس مادة لاستخدام السياسيين الذين أفسدوا السياسة، ويريدون إفساد الصحة، كما لا يعني عدم توظيفها ضد خصومهم السياسيين. لذا، لاحظنا كيف استخدمت واشنطن الوباء لتصفية حسابها مع بكين من خلال إطلاق اسم "فيروس ووهان" و"الفيروس الصيني" عليه، ومن خلال تحميل الصين المسؤولية أمام العالم عنه كما ظهر في إدانة الإجراءات الصينية "القاسية" بعزل إجباري لعشرات الملايين من الصينيين، إلى جانب تصريح روبرت أوبراين، مستشار الأمن القومي الأميركي، حول أن الصين كانت بطيئة في مكافحة الفيروس، ما كلف العالم شهرين كان يمكن أن يستعد خلالهما لمنع انتشار المرض، وكذلك تصريح مايك بومبيو، وزير الخارجية، الذي أشار إلى أن البيانات المنقوصة من الصين أدت إلى عرقلة الرد الأميركي على تفشي كورونا.
في المقابل، اعتبرت بكين هذه الأكاذيب نوعًا من "الفيروس السياسي"، ومحاولة للتهرب من الاستخفاف الأميركي بالفيروس، لدرجة عدّ ترامب الأنفلونزا أخطر من كورونا، قبل أيام قليلة من إعلانه حالة الطوارئ بأميركا، وتخصيص 50 مليار دولار لمكافحته، لأن الصين كانت باعتراف منظمة الصحة العالمية شفافة، وزوّدت العالم عندما تحققت مما يجري بالمعلومات أولًا بأول. نعم، حصل تأخير أدى إلى معاقبة كل المسؤولين في المدينة وبعض المسؤولين الأعلى منهم، ولكن تم بسرعة تجاوز الخلل.
لقد انقسمت دول العالم بين فريقين، الأول أعطى الأولوية لحياة البشر مثل الصين، وكوريا الجنوبية، وسنغافورة، وإيران، والنرويج، وإيطاليا بعد أن تداركت الاستخفاف الذي دفعت ثمه، ومحاصرة الوباء في بيت لحم بفلسطين. أما الثاني، فأعطى الأولوية للاقتصاد، مثل فرنسا وبريطانيا وأميركا وإسرائيل.
كما شهد العالم تناولًا متناقضًا مع هذا الوباء، بين من هوّن واستخف بالأمر في البداية، ثم هوّل به لتبرير التقاعس والتقصير، وعدم جاهزية النظام الصحي وإجراءات الوقاية في دول غنية وقوية، وتعدّ الأولى في العالم كله.
كما لا يمكن تجاهل محاولات شركات، وخاصة التي لها علاقة بصناعة الأدوية، الترويج لأدوية قديمة وأخرى جديدة. ولم يخلُ الأمر من قيام رجال الدين بتصوير أن ما يحدث عقاب للصين أو لهذه الدولة أو تلك لعدم إيمانها بالله، مع أن الوباء اخترق كل البلدان، واستهدف المؤمنين والملحدين وأنصار الديانات الثلاثة والبوذيين، ولم يشفع للمسلمين ولا للمسيحيين واليهود.
النقطة الأخيرة التي لا بد من التوقف عندها في هذا المقال هي المبالغات التي من شأنها ترويع العالم بقصد أو بدون قصد، كما ظهر في تصريح المستشارة الألمانية أنغيلا ميركل بأن 60-70% من الألمان سيصابون بالفيروس. وهذا ما أكده رئيس الحكومة البريطانية، الذي ذهب مستشاره إلى أبعد من ذلك دفاعًا عن أولوية الاقتصاد على منع انتشار الوباء بقوله بضرورة تمكين الوباء من الانتشار، لضمان استمرار العجلة الاقتصادية، لأن انتشاره سيوفر مناعة جماعية لمعظم البريطانيين من الذين سيصابون ومعظمهم سيشفى منه، أما نسبة 20% من المصابين من كبار السن والمرضى فيجب تأمين معالجة العدد الأقصى منهم، والباقي يكون فداء لبلده. وكرر نفس الفكرة مسؤول إسرائيلي سابق.
وجاء في تقرير نُشِرَ في صحيفة "نيويورك تايمز" أن السيناريو الأسوأ إصابة 160-214 مليون أميركي بالفيروس، ووفاة 200 ألف-1.7 مليون. ويتردد كذلك أن الإصابات في الضفة الغربية وقطاع غزة ستبلغ ربع مليون إصابة، 12500 منهم بحاجة إلى علاج، و800 بحاجة إلى عناية مكثّفة.
ويفسّر كل هذه الأرقام المرعبة التي يستند فيها السياسيون إلى أطباء وباحثين ومراكز بحثية، ولكن لتوظيفها لأغراض سياسية، أنها تضع أسوأ السيناريوهات التي يمكن أن تحدث أو لا تحدث، ولا يعني ذلك أنها ستحدث حتمًا، بل يمكن قطع الطريق عليها إذا أُخِذَ بالأسباب الكفيلة بمنع حدوثها.
لو لم تنجح الصين وكوريا الجنوبية وسنغافورة في هزيمة كورونا لانطلى التهويل بتفشي الفيروس، ولصدقنا دعاة بث الذعر في العالم بحجة الشفافية بالحديث عن إصابة معظم البشر بالفيروس اللعين. وبدلًا من أن تعترف هذه الدول بأنها سقطت بهذا الاختبار سقوطًا مدويًا، في وقت كان بمقدورها منع انتشار الفيروس لو كانت مستعدة، أو مكافحته بشكل أفضل، تقوم بالترويع للتغطية على عيوبها وتقصيرها، وإعطائها الأولوية للاقتصاد.
لقد سقطت البلدان المتقدمة بالاختبار لأنها إما لم تبنِ جهازًا صحيًا متقدمًا مثلما حصل في الولايات المتحدة، حيث يقاوم ترامب حتى الآن إقامة نظام للتأمين الصحي، أو لم تبنِ نظامًا صحيًا يناسب انتشار الأوبئة، وتعاملت باستهتار، لدرجة أن وزير الصحة الفرنسي قال بأن الفيروس لن يصل إلى فرنسا، في حين فضّلت إيطاليا الحفاظ على المواسم السياحية والرياضية على حياة البشر، لدرجة انهيار النظام الصحي، ووصول الأطباء إلى مرحلة الاختيار بين المريض الذي له أولوية للحياة وبين من يموت. أما إسرائيل ففضّلت إجراء الانتخابات على الاعتراف بالإصابات ومكافحة الوباء.
لم تستعد البلدان المتقدمة لمكافحة وباء كان من المتوقع حدوثه، ولم تستعد لمساعدة الدول النامية، رغم أن هناك فيروسًا يظهر كل بضعة أعوام، وفضلت أن تغض النظر عن هذه الأولوية، وتدفع للاعب كرة القدم أو لعارضة الأزياء أو لممثل السينما ملايين الدولارات ولا تدفع للعلماء إلا الفتات، وهذا لا يوفر أحسن الفرص والظروف لعمل أفضل الأبحاث التي لو أعطي القائمون عليها التمويل اللازم والتشجيع الضروري، لكان أمكن الوصول إلى مصل قادر على توفير المناعة من فيروس سارس وغيره من الفيروسات، وهذا كان سيمكّن بسرعة من إيجاد لقاح يمنع الإصابة، وترياق يشفي من يصاب.
يواصل النظام العالمي انهياره من دون أن يُولَدَ بعد النظام العالمي الجديد، الذي سيرى النور عاجلًا أم آجلًا، ونأمل أن يكون أفضل من سابقه، ولا بد من العمل لكي يحدث ذلك، ولكن إلى حين حدوثه لا بد من عمل كل ما يمكن، للحفاظ على البشرية وتقليل الخسائر، من تعاون عالمي لم يتوفر حتى الآن. فهذا الفيروس ينتشر ويهدد الجميع دون تمييز، وسيعاود الهجوم مرة أخرى، ويمكن أن تظهر منه أجيال جديدة وفيروسات جديدة أكثر فتكًا بالبشر إذا لم يتعاونوا لهزيمته ومنعه من مواصلة الانتشار.