الاستسلام بين المذلة والبصيرة: قراءة في مواقف الشعوب من الاحتلال والهزيمة

الاستسلام بين المذلة والبصيرة: قراءة في مواقف الشعوب من الاحتلال والهزيمة

الاستسلام كلمة تحمل من المرارة ما لا تحمله القواميس، ومن الوطأة ما لا تحتمله النفوس. هي الكلمة التي تُختَصر فيها لحظات الانكسار، وتهوي بها الأعلام، وتُطوى بها خرائط الطموحات. لكنها، في بعض اللحظات، قد تكون بُعد نظر لا جبنًا، وبذرة بناء لا انهيارًا.


ما بين مقولة عمر المختار الخالدة: "نحن لن نستسلم، ننتصر أو نموت... وعليكم أن تحاربوا الجيل القادم"، وبين خطاب إمبراطور اليابان هيروهيتو المذعن لشروط الاحتلال الأميركي بعد هيروشيما وناجازاكي، تتأرجح فلسفة الاستسلام بين رفض مبدئي مقدّس، وبين قرار عقلاني مدروس يُنقذ ما يمكن إنقاذه.



عمر المختار... رمزية الرفض المطلق


في ليبيا، رفض عمر المختار أن يركع أمام جنرال الاحتلال الإيطالي رودولفو غراتسياني. لم يكن المختار يرى في الاستسلام خيارًا، بل خيانة للأرض والكرامة والدم. مات مشنوقًا، لكن كلماته بقيت تتردد في أجيال لاحقة، حاربت ثم انهارت في فوضى أهلية وسياسية بعد عقود. لم تسقط مقولة المختار، لكنها لم تحمِ ليبيا أيضًا من لعنة ما بعد الاستقلال: حكم الفرد، والانقلابات، والتدخلات الأجنبية.





هيروهيتو... الهزيمة التي بَنَت اليابان


في الجهة المقابلة من العالم، وفي توقيت تاريخي قاتم، وقف الإمبراطور الياباني هيروهيتو ليقول لشعبه، بلغة لم يعتادوا سماعها من "إلههم الحي": لقد هُزمنا. تنازل هيروهيتو عن هالته الإلهية، ورضخ أمام شروط الجنرال الأميركي دوجلاس مكارثر. لم يكن هذا الاستسلام بلا ثمن. كانت طوكيو مدمرة، واليابان جريحة. لكن النتيجة، بعد عقود قليلة، كانت انتفاضة حضارية داخلية صنعت اليابان التي نعرفها اليوم: قوة صناعية، وتكنولوجية، ومجتمع لا يشبه ماضيه العسكري الإمبراطوري.





ألمانيا النازية... من أنقاض برلين إلى هندسة الاتحاد الأوروبي


في أوروبا، سقطت ألمانيا النازية بعد حربٍ خلّفت عشرات الملايين من القتلى. لم يكن استسلام برلين عام 1945 مجرّد توقيع على وثيقة، بل انتحار سياسي وفكري لنظام فاشي دموي. لكن الألمان، رغم الإذلال والتقسيم والاحتلال، نظروا إلى الهزيمة على أنها فرصة لتطهير الذات، وإعادة بناء الأمة. خرجت ألمانيا من الأنقاض لتقود لاحقًا واحدة من أقوى التكتلات الاقتصادية والسياسية في العالم: الاتحاد الأوروبي.



سورية وليبيا... الاستبسال بلا أفق


وبينما انتقلت اليابان وألمانيا من مرحلة الذل إلى النهضة، غرقت سورية وليبيا، اللتان قاومتا الاستعمار كما فعل المختار وسلطان باشا الأطرش، في دوامة الانقلابات والحروب الأهلية.

في سورية، ورث البعث طموحات التحرير، لكن حولها إلى أداة للسيطرة الداخلية، حتى باتت المقاومة تُختزل في شعارات جوفاء لا تتعدى جدران الفساد والقمع.

أما ليبيا، التي قاتلت المستعمر الإيطالي ببسالة، انتهت إلى زعامة فردية قاتلة، ثم إلى انهيار الدولة وصراع الميليشيات.


اللافت أن كِلا البلدين لم يُواجها هزيمة صريحة من محتل أجنبي، لكنهما لم ينجوا من خراب الداخل. فهل كان من الأفضل لو تمت إعادة قراءة اللحظة السياسية بعد الاستقلال بنظرة عقلانية شبيهة بما فعلته ألمانيا أو اليابان؟ هل كان يجب فصل الكرامة عن العناد؟


الاستسلام كفعل سياسي، لا كخيانة وطنية


في الجوهر، الاستسلام ليس فعلًا واحدًا. هناك من يستسلم خوفًا أو ذلًا، وهناك من يستسلم تكتيكًا، لإنقاذ ما يمكن إنقاذه، ولتفادي كارثة أعظم.

الهزيمة العسكرية لا تعني نهاية الأمة، لكن الهزيمة الأخلاقية والتاريخية تقع حين تستمر الأنظمة في وهم الانتصار وتغرق شعوبها في الدماء والدمار.

في معارك اليوم، حيث تفرض المعادلات العسكرية والسياسية الكبرى نفسها، يصبح من المشروع السؤال: هل من الشجاعة أن تستمر دولة أو منظمة ضعيفة عسكريًا في حرب خاسرة، فقط لأنها ترفض الاعتراف بالهزيمة؟ أم أن الشجاعة الحقيقية تكمن في وقف النزف، والمضي نحو إعادة بناء الذات، ولو عبر لحظة انكسار؟


الشعوب لا تموت... لكنها تحتاج إلى فرصة


عمر المختار كان يعلم أن الكفاح لا يُقاس بيوم أو جيل، بل هو مشروع طويل النفس. قالها: "سيحاربكم الجيل القادم". لكنه لم يكن ليرضى أن يُستعمل اسمه لاحقًا لتبرير الفوضى والانقسام.

في المقابل، هيروهيتو، الذي خضع مرغَمًا، لم يُعد اليابان بعصا سحرية، بل ترك للشعب أن يقرر، ويتجاوز جراحه، ويفتش في المستقبل عن مكان جديد.

اليوم، تُترك للشعوب حرية أن تختار: بين مقاومة لا تنتهي، ودماء لا تجف، أو استسلامٍ يُؤسس لنهضة تحفظ الكرامة على المدى البعيد.


الاستسلام لا يكون نهاية الطريق... أحيانًا، يكون بدايته.

يتم الاستخدام المواد وفقًا للمادة 27 أ من قانون حقوق التأليف والنشر 2007، وإن كنت تعتقد أنه تم انتهاك حقك، بصفتك مالكًا لهذه الحقوق في المواد التي تظهر على الموقع، فيمكنك التواصل معنا عبر البريد الإلكتروني على العنوان التالي: info@ashams.com والطلب بالتوقف عن استخدام المواد، مع ذكر اسمك الكامل ورقم هاتفك وإرفاق تصوير للشاشة ورابط للصفحة ذات الصلة على موقع الشمس. وشكرًا!

phone Icon

احصل على تطبيق اذاعة الشمس وكن على
إطلاع دائم بالأخبار أولاً بأول

Download on the App Store Get it on Google Play