لا نقاش في أنّ محمود درويش (1941- 2008) من أبرز الشعراء العرب في النصف الثاني من القرن العشرين، وهو أكثرهم شهرة وانتشارا؛ ما في ذلك شكّ. هذه المكانة المتميّزة لدرويش ونتاجه، في الشعر العربي الحديث، مردّها إلى موهبة شعريّة فذّة، وأكثر من أربعين سنة من العطاء المتواصل، وجهود مثابرة في تجديد فنّه والارتقاء به دونما توقّف. في غضون هذه العقود الطويلة، شغل درويش مناصب كثيرة، في الصحافة أساسا، إلا أنّ الشعر ظلّ، في نفسه وكتابته، شغله الشاغل وغايته القصوى، وللشعر كرّس جلّ وقته وجهوده، بل كلّ حياته وجهوده في الواقع.
من الطبيعي أنّ اعتباره، في نظر النقّاد والناس جميعا، "شاعر فلسطين"، كان له نصيب في شهرته وانتشاره، ما في ذلك شكّ. إلا أنّ مكانته هذه لم تكن لتغريه بالجمود في مكانه، واجترار منجزاته الفنّية التي توقّعها واستطابها قرّاؤه وسامعوه: "أزمتي في وقت مطالبة بعض قرّائي وبعض جماهير شعري لي بأنْ أثبت في مكاني، في نصّي الذي وجدوا فيه تعبيرا عنهم. عندما خرجت من هذا النصّ كان هناك خطر بأن أفقد قرّائي. لكنّني اخترت ما رأيته صالحا لشعري ومناسبا لاعتباراتي الفنيّة، وكان خياري صائبا. بل عكس احتراما لقرّائي. إذ ليس من حقّنا أن نتكلّم بخفّة عن الجمهور. الجمهور حقّا من شرائح ومستويات ثقافيّة واجتماعيّة مختلفة، لكنّه عندما يذهب إلى أمسية، عندما يمسك القارئ كتابا، أو يقرأ نصّا، فهو يعرف ماذا يفعل وإلى أين يذهب. تطوّر النصّ الشعري هو في الوقت ذاته تطوير للذائقة الشعريّة" .
II
في هذه الفترة الطويلة من الإنتاج، أصدر درويش أكثر من عشرين مجموعة شعرية، بدءا بمجموعة عصافير بلا أجنحة سنة 1960 التي يعتبرها درويش "تعبيرا عن محاولات غير متبلورة"، ولذا فإنّه لا يذكرها عادة بين أعماله، وانتهاء بمجموعته الأخيرة، لا تعتذر عمّا فعلت، في سنة 2004.**
في نظرة تقريبيّة، يمكننا تقسيم الأعمال الشعريّة لدرويش إلى ثلاث مراحل فنيّة متميّزة. في البداية؛ في المرحلة الأولى، كانت قصيدته "واقعيّة"، إلى حدّ ما؛ حاول فيها رسم الوقائع القاسية في الوجود الفلسطيني داخل إسرائيل، بأدوات بسيطة، ونغمة صريحة، ومبانٍ خطابيّة عالية. في تلك المرحلة، لا بدّ من التنويه، كان درويش عضوا في الحزب الشيوعي الإسرائيلي، فتأثّر بلا ريب بالمبادئ الماركسيّة في اعتبارها الشعر، والأدب عامّة، وسيلة ثوريّة ترمي إلى تحفيز الجماهير على طريق التغيير. هذا هو الموقف الذي صوّره، ربّما بشيء من المغالاة، في إحدى قصائده من مجموعة أوراق الزيتون (1964) قائلا:
قصائدنا بلا لونٍ
بلا طعمٍ.. بلا صوتِ!
إذا لم تحمل المصباح من بيتٍ إلى بيتِ!
وإن لم يفهم "البُسَطا" معانيها
فأولى أن نُذرّيها
ونخلدَ نحنُ.. للصمتِ!!
في هذه المرحلة، كانت أشعاره في معظمها " أشعارا مقاتلة" بكلّ معنى الكلمة. فقد كانت قصائده احتجاجا صارخا ضدّ النظام المضطهِد في إسرائيل، فعبّرت عن المأساة المرّة للشعب الفلسطيني بوجه عامّ، لكنّها في الوقت ذاته اصطبغت بمسحة واضحة من الأمل والتفاؤل، كما هو متوقّع من شعر "الواقعيّة الاشتراكيّة". مع ذلك، لم تعدم قصائده "المقاتلة" نغمة غنائيّة أخّاذة، وبالذات حين يتماهى الفرد في المجموع، والحبيبة في الوطن، كما تمثّل ذلك، على سبيل المثال، في واحدة من أشهر قصائده يومذاك، سمّاها "عاشق من فلسطين"، في المجموعة التي تحمل اسم القصيدة المذكورة ذاته، حين يقول فيها:
فلسطينيّة العينين والوشمِ
فلسطينيّة الإسمِ
فلسطينيّة الأحلام والهمِّ
فلسطينيّة المنديل والقدمين والجسمِ
فلسطينيّة الكلمات والصمتِ
فلسطينيّة الصوتِ
فلسطينيّة الميلاد والموتِ
[...]
وباسمك، صحتُ في الوديانْ:
خيول الروم!.. أعرفها
وإن يتبدّل الميدان!
خذوا حذرا..
من البرق الذي صكّته أغنيتي على الصوّانْ
أنا زين الشباب، وفارس الفرسان
أنا. ومحطّم الأوثان.
في سنة 1970، سافر درويش إلى موسكو في بعثة دراسيّة، ومن هناك رحل إلى القاهرة، فكانت تلك في الواقع بداية مرحلة جديدة في حياته وشعره على حدّ سواء. كان لقراره مغادرة إسرائيل، مرّة وإلى الأبد، صدى واسع طبعا في إسرائيل، وفي العالم العربي. لكن ما يهمّنا هنا هو أنّ هذه الخطوة كانت، ما في ذلك شكّ، إيذانا بانتهاء دور "شاعر المقاومة"؛ شاعر الغضب السياسيّ والاجتماعيّ ضدّ الحكم الإسرائيلي، ووقوفه من الآن فصاعدا في مفترق هامّ من حياته الشعريّة: هل يواصل دوره السابق، مردّدا النصوص والثيمات السابقة ذاتها، وقد بدّل موقعه طبعا، أم عليه أن يشقّ طريقا فنّيا جديدا أكثر رقيّا وتعقيدا، رغم ما في هذا الطريق الجديد من أخطار تتهدّد مكانته الشعريّة بين قرّائه ومريديه؟ أو بكلمات درويش نفسه: "كنت في الثامنة والعشرين، وكان ريشي خفيفا، وكنت ذاهبا للمجهول، وأنا لم أنتبه إلى أنّ صورتي، قبلت أو لم تقبل، هي أن أكون مصلوبا في الجليل، وليس من حقّي أن أنزل عن الصليب وأنتعل حذاء وأمشي. فهذا كسْر للصورة، لذلك أشعر أنّ القارئ أكرم منّي وقدّم لي أكثر مما قدّمت له. فهو عندما نسي هذه الجنايات، كان يغفر لي ويحمّلني تبعات الغفران، ولكن كيف؟ هل أن أكون صدى مكرّرا لما كنت؟ هل أحافظ على الصورة القديمة، أم أبحث عن لغة جديدة وقصيدة جديدة؟ وهذا ما فعلت دون أن أحدث القطيعة مع أرض الحنين".
هكذا انتقل شعر درويش إلى مرحلة جديدة، بكلّ ما رافقها من صياغة شعريّة جديدة أيضا. فقد أخذ يبتعد شيئا فشيئا عن المواقف الماركسيّة في الأدب، كما هجر، في الأغلب، الخطابيّة المباشرة التي كان عبّر بها عن الصوت الجماعي للجماهير، وشرع في كتابة شعر فنّي "معقّد" يقوم إلى حدّ بعيد على رموز وموتيفات التوراة والتراثين الإسلامي والمسيحي، وعلى الحضارات القديمة لهذه المنطقة. صحيح أنه واصل تناول القضيّة الفلسطينية في قصائده، إلا أنّ رؤيته غدت أوسع مدى، وتعدّدت في قصيدته الأصوات، المجرّدة منها والمتناصّة، وصولا إلى الصور السورياليّة في بعض الأحيان أيضا.
في مقابلة مطوّلة مع درويش، يذكر الشاعر مدى قراءاته استعدادا لكتابة قصيدته في هذه المرحلة قائلا: "عندما كتبت أحد عشر كوكبا، وهي قصيدة غير طويلة، قرأت قرابة خمسين كتابا عن الأندلس. ولمّا كتبت "الهنديّ الأحمر" قرأت حوالى عشرين كتابا عن تاريخ الهنود الحمر وأدبهم. وقرأت نصوصهم الأدبيّة وخطبهم" .من الجدير بالذكر هنا أنّ القصيدة الدرويشيّة آنذاك، رغم هذا الغنى من "المراجع" الأسطوريّة والتاريخيّة، لم تنفكّ تتدفّق في يسر و"بساطة" في التعبير، على الرغم من هذه الخلفيّة الثقافيّة المدهشة المبثوثة في التناصّات المحكمة التي تشكّل عنصرا فنّيا طاغيا في قصيدته: "مسألة التناصّ أو الإحالات التي أمارسها بوعي تامّ، هي جزء أساسيّ من مشروعي، انطلاقا من أنّه لا توجد كتابة تبدأ "الآن"، ليست هناك أوّل كتابة، أو كتابة تبدأ من بياض، ولا يوجد أصلا تأريخ للشعر. لذلك، كان حريّا في عصر تداخل الثقافات، والمرجعيّات الواضحة والتطوّر الهائل للإبداع الشعريّ، سواء على مستوى العرب قديما أم على مستوى العالم المعاصر، أن تدخل التناصّ، لأنّ الكتابة الآن هي كتابة على ما كُتب. أنت لا تستطيع أن تدخل عالم الشعر هذا برعويات، إذا لم تكتب على الكتابة، فإنّك تُخرج الشعر من كينونته الثقافيّة، فللشعر كيانية ثقافية في الدرجة الأولى، أما السليقة وكيف تعبر الثقافة عن نفسها فهذه مسائل تقنية" .
في سنة 1982 اجتاحت إسرائيل لبنان، فاضطُرّت منظّمة التحرير الفلسطينيّة إلى مغادرة لبنان، ومعها درويش طبعا. على ضوء هذه الأحداث كتب درويش قصيدته المعروفة في مديح الظلّ العالي؛ وهي قصيدة "استثنائيّة" تخالف في فنّها ولهجتها الطابع الغالب لقصائده في هذه الفترة، وذلك ما جعله، في أغلب الظنّ، يسمّيها ""قصيدة تسجيليّة"! القصيدة في غاية الطول، حوالى سبعين صفحة، مكتوبة في خطابيّة عالية من الكامل التفعيلي، لغتها عالية ومباشرة، وكذلك صورها الشعريّة، بحيث يغلب فيها الأنا على كلّ المقوّمات الفنّية الأخرى. إلى هذا الحدّ تبدو القصيدة المذكورة غريبة في هذه المرحلة بحيث تذكّر، إلى حدّ بعيد، بدرويش القديم صاحب قصيدة "بطاقة هويّة" الشهيرة! الشاعر نفسه اعترف أنّ القصيدة نشأت نتيجة توتّر وغضب عارمين بعد الأحداث المذكورة أعلاه، ولا يمكن بأيّ حال من الأحوال اعتبارها "تنازلا" للقارئ بغية التقرّب منه: "أنا لم أقدّم تنازلا لأنّني لم أقدّم نصّا لإرضاء القارئ. فقد كان غضبي وطريقة نظرتي للعالم متطابقة مع نظرة القارئ العادي. وكان غضبي على العالم يحمل استخفافا بالشعر واللغة الشعريّة والجماليّات، لذلك سمّيتها قصيدة تسجيليّة. لقد كانت كميّة غضبي تقول إنّ هناك أوقاتا لا وقت فيها للجماليّات، وهذا طبعا ليس من قبيل التنازل، بل من قبيل التعبير عن رغبة في الانفجار".
في سنة 1995 أصدر درويش مجموعه شعريّة جديدة؛ لماذا تركت الحصان وحيدا؟ فشكّلت تحوّلا جديدا، بل مدهشا في فنّه الشعري، بحيث دشّن مرحلة تجديديّة ثالثة في هذا الفنّ. تمثّل الاتّجاه التجديديّ المذكور في انصراف الشاعر إلى الحفر في الذاكرة الذاتيّة بنظرة فلسفية وجوديّة عميقة. فهو يعود في هذه المجموعة إلى الماضي، منقّبا فيه عن مشاهد طفولته الأولى، عارضا مشاهدها من جديد في سياقات أسطوريّة مركّبة. ولعلّ خير وصف لهذا المنحى الجديد في شعر درويش ما ذكره الناقد السوري صبحي الحديدي، حين يقول: "هذه المجموعة دشّنت طورا جديدا تماما في مشروع درويش الشعري، لأنه هذه المرّة كرّس مجموعة بأسرها لموضوع محوري واحد هو كتابة السيرة، ولأنه أعطى فسحة سخيّة تماما (لعلّها غير مسبوقة في شعره) لصعود "الأنا"، "أنا" الفرد الشاعر في فسيفساء علاقتها بالذات والتاريخ والمكان والزمان، ووقوفها على قدم المساواة مع -أو تفوّقها أحيانا على- التمثيل الإنساني والوطني للذات الجمعيّة".
الإيقاع في قصائد هذه المجموعة هادئ يقترب في أحيان كثيرة من إيقاع النثر السردي، والقصائد حافلة بالحوار والتناصّات التاريخيّة والدينيّة. هذه هي الصياغة الغالبة، بشكل أو بآخر، على مجموعاته التالية كلّها؛ حتّى على مجموعة حالة حصار التي كتبها درويش في رام الله أثناء منع التجوّل المفروض على المدينة من الجيش الإسرائيلي. حتّى هذه المجموعة، بظروف نظمها القاسية، مكتوبة من منظور شخصي إنساني، وفي إيقاع هادئ، تغلب عليه عادة الرؤية الذاتيّة والآيرونيّة المرّة. يمكن القول أخيرا إنّ هذه المجموعة كُتبت في نفس ظروف مديح الظلّ العالي، لكن شتان ما بين درويش ذاك، في بيروت سنة 1983، ودرويش هذا في رام الله سنة 2002!
III
قبل انصرافنا إلى غايتنا الأساسيّة من هذا المقال، حول تحوّلات صورة الأب في شعر درويش، لعلّه يجدر بنا أن نشير إلى أنّ أفرادا آخرين من عائلته أتى الشاعر على ذكرهم في قصائده أيضا. حتّى حين كان في إسرائيل، عاش درويش الشاعر أغلب وقته في مدينة حيفا، بعيدا عن عائلته، كما اعتُقل وسُجن وفُرضت عليه الإقامة الجبريّة غير مرّة. لذا فقد كان طبيعيّا أن يحنّ إلى أهله جميعا: "إنّ لمحمود ضعفا خاصا تجاه البيت... كلّ ما فيه: أمّه، وأبيه، وأخته، وأخيه.. والأشياء الاعتياديّة التي لا يخلو منها بيت.. الباب، والعتبة، والسياج، والموقد، وحبل الغسيل إلخ ..". فحين كان في السجن، في الستينات، كتب لأخته قصيدة مؤثّرة بعنوان "أهديها غزالا"، كما كتب أيضا قصيدته "إلى أمّي" التي لحّنها وغنّاها الفنان اللبناني المعروف مارسيل خليفة، ما أكسبها شهرة استثنائيّة فعلا. إلا أنّ صورة الأمّ لا تكاد تختلف في شعره، وإن اختلفت لغته وصياغاته طبعا: أمّ شرقيّة حنون، تعاني شوقها لولدها الغائب عن عينيها، وتحمل همّه حيثما ارتحل. يفتتح الشاعر قصيدة "إلى أمّي" بهذا البوح الطاغي:
أحنُّ إلى خبز أمّي
وقهوة أمّي
ولمسة أمّي..
وتكبرُ فيَّ الطفولةُ
يومًا على صدر يومِ
وأعشقُ عمري لأنّي
إذا متُّ،
أخجل من دمع أمّي!
هذه الصورة لأمّه لم تتغيّر مع السنين، كما أسلفنا، وإن اختلف الأسلوب والصياغة طبعا. ففي مجموعة لماذا تركت الحصان وحيدا، يصفها درويش بهذه الأسطر الأخّاذة:
أمّي تعدّ أصابعي العشرين عن بعدٍ.
تُمشّطُني بخُصلةِ شعرها الذهبيّ. تبحثُ
في ثيابي الداخليّةِ عن نساءٍ أَجنبيّاتٍ،
وتَرفو جَوْربي المقطوعَ. لم أكبرْ على يَدِها
كما شئنا: أنا وهيَ، افترقنا عند مُنْحَدرِ
الرُّخام..
على هذا النحو بقيت أمّه، بشكل أو بآخر؛ نفس المرأة الجميلة المحِبّة، كما كانت دائما، لم تتغيّر صورتها هي، وإن تغيّرت اللغة والأسلوب في تناولها كما أسلفنا.
IV
إذا كانت أمّ درويش، كما رأينا أعلاه، مثّلت "الوطن" كلّه، باعتبارها مصدرا ثابتا للدفء والحبّ والقلق على ولدها، فإنّ صورة الأب لا تظهر بالألوان ذاتها، ولا تثبت على حالها دونما تغيير أو تبديل على مرّ السنين. درويش نفسه حاول تلمّس الفرق بين الصورتين، كما تجلّى في شعره، بأسلوبه الشعريّ قائلا: "الأمّ هي الأمّ والأب هو الأب. إنّهما بشر. لكنّ كلا منهما يحمل دلالات مختلفة. لا يكفي أن تحمل الأمّ فكرة البقاء المكاني والتاريخي في الأرض الفلسطينيّة. لنقف عند هذه الكناية. كان الآباء عبر التاريخ كثرا والأمّ واحدة. الأمّ ذات هويّة مستقرّة، والآباء متغيّرون. الأرض التي وُلدتُ عليها هي، كما تعلم، ملتقى غزاة وأنبياء، ورسالات وحضارات وثقافات. ولكنّهم عابرون، عبورا يطول أو يقصر. فالأب لم يكنْ واحدا ولانهائيّا ولا دائما. من هنا كان انتسابنا الحضاري والثقافي إلى الأرض، إلى الأمّ. هذا من ناحية. ومن ناحية أخرى أنا من جيل حمّل آباءه مسئولية الرحيل والهجرة لأنهم، الآباء، آباءنا، لم يدافعوا جيدا عن أرضنا، وما زلنا نسألهم عن ذلك، ولا تزال صلتنا بهم ملتبسة بالسجال والخلاف" .
في لغة نثريّة بسيطة، تمثّل الأمّ الفلسطينيّة الحبّ والحماية والاستقرار لأبنائها، أمّا الأب فهو "الزعيم": إنّه المسؤول عن العلاقات الخارجيّة مع العالم الخارجي، والمسؤول أيضا عن حماية الوطن وتأمين مستقبله. بناء على ذلك، فإنّ الأواصر بين الأب والابن، بما فيها تلك بين درويش وأبيه، هي أواصر مركّبة، وفي ذلك ما يفسّر طبعا ظهور صورة الأب في ملامح مختلفة في الفترات المختلفة من شعر درويش. ففي اللقاء ذاته في مجلّة مشارف يصف درويش والده باعتباره إنسانا عاديّا مشغولا بالعمل في الأرض، بعيدا نوعا ما عن أولاده وعن بيته: "كان جدّي هو الأب الحقيقي، بسبب انشغال أبي في التربة وملاحقة الفصول. يخرج في الصباح ويعود في المساء، ويتركنا أنا وإخوتي في رعاية جدّي. كان هو أبانا الحقيقي، يدلّلنا ويأخذنا في نزهات ويصحبنا إلى المدن. أبي ككلّ المزارعين مستغرق في عمله في الأرض حتّى كأنّه قطعة منها" .
صورة الأب هذه، كادحا لتحصيل رزق عياله، تناسب بلا شك ّفلسفة درويش في الفترة الأولى من شاعريّتة، يوم كان عضوا في الحزب الشيوعي الإسرائيلي، عاملا في صحافته الحزبيّة أيضا، قبل مغادرته إسرائيل. هكذا نجده في قصيدته الشهيرة "بطاقة هويّة"، التي غدت أشبه بمانيفست سياسي في نظر معظم الفلسطينيين في إسرائيل، يشير إلى خلفيّته "البروليتاريّة"، وإن كان يعلن فخره، في الوقت ذاته، بتراث جدّه بالذات، لا بتراث والده:
أبي.. من أسرة المحراثِ
لا من سادةٍ نُجُبِ
وجدّي كان فلاحًا
بلا حسبٍ..ولا نسبِ!
يعلّمني شموخ الشمس قبل قراءة الكتبِ
في قصيدة أخرى، سمّاها "ثلاث صور"، يكرّس الشاعر "الصورة" الثالثة لوصف أبيه، فيصوّره مرّة أخرى كادحا، يجد صعوبة كبرى في إعالة أولاده الكثر:
كان أبي
كعهده، محمّلا متاعبا
يطارد الرغيف أينما مضى..
لأجله.. يصارع الثعالبا
ويصنع الأطفال..
والتراب..
والكواكبا..
[...]
ووالدي. كعهده.
يسترجع المناقبا
ويفتل الشواربا!
ويصنع الأطفالَ..
والترابَ
والكواكبا!
في هذه القصيدة هناك، أيضا، نقد "ناعم" لأب لا يشغله من مصير العائلة سوى توفير الرغيف لأفرادها، فيما يواصل إنتاج الأطفال وتفتيل الشوارب!
في هذه الفترة ذاتها، أفرد درويش لوالده قصيدة أخرى بكاملها أسماها "أبي"، يبدو فيها الأب ثانية فلاحا، يصارع الصخور، شديد الإيمان بالله، رغم مشاكله ومتاعبه، كأنما هو أيّوب الراضخ لقدره. وفي نهاية القصيدة يوصي الأب ولده بالبقاء في الوطن، وعدم الهجرة إلى بلاد أخرى غيرها:
غضَّ طرْفًا عن القمرْ
وانحنى يحضن الترابَ
وصلّى..
لسماء بلا مطرْ،
ونهاني عن السفرْ!
[...]
وأبي قال مرّة:
الذي ما له وطنْ
ما له في الثرى ضريحْ
.. ونهاني عن السفرْ!
في القصيدة ذاتها، تتردّد غير مرّة جملة "غُضَّ طرفًا عن القمر"، وهي نصيحة يقدّمها الأب لابنه أيضا، بما تحمله من دلالة على أنّ الأب بعيد عن الأمل والطموح، راضٍ بنصيبه المرّ، كما هي حال النبيّ أيّوب المؤمن الصابر في الحكاية الدينيّة المعروفة!
نخلص إلى القول إنّه خلال هذه المرحلة الأولى من شعر درويش، حين كان في إسرائيل، في صفوف الحزب الشيوعي، بدا الأب فلاحا كادحا يصارع الأرض والصخور لكي يوفّر القوت لعائلته، متحلّيا بالصبر، راضيا بقسمته، متمسّكا بأرض آبائه وأجداده، لا يلتفت إلى الهجرة ومغادرة الوطن. لكن من ناحية أخرى نلمح مع ذلك بعض النقد الناعم لأب لا يبالي بكثرة الأولاد الذين يأتي بهم إلى هذا العالم، ولا يعرف للطموح سبيلا! بذلك نجد شيئا من عدم الدقّة في الزعم بأنّ درويش يعرض، في هذه الفترة، شخص والده بريئا من كلّ عيب، لا تشوبه شائبة، كما رأى الناقد المصري رجاء النقاش!
V
في المرحلة الثانية، بعد رحيل درويش من إسرائيل، تحرّر الشاعر من البيئة والعقيدة الشيوعيّتين، وغدا وطنيّا فلسطينيّا مستقلا، بكلّ معنى الكلمة. الآن غدا الشاعر حرّا في كتابة كلّ ما يريد دونما خشية من الرقيب الإسرائيلي أو من نقد "الرفاق" في الحزب أو الصحيفة. هذا التحوّل الكبير جعله يعيد النظر في صورة أبيه، وجيل أبيه كلّه، فيتناوله من منظور قوميّ جديد، لا يتّصل بالشيوعيّة من قريب أو بعيد. هكذا أخذ درويش في "محاسبة" أبيه، على المستويين الشخصي والقومي على حدّ سواء، ذاكرا مقاومة الجيل المذكور للإنجليز من ناحية أولى، موجّها في الوقت ذاته النقد لأبيه في المستويين المذكورين.
لن نعرض هنا طبعا للقصائد التي يظهر فيها أبوه، لا كيانا مستقلا بل عنوانا للخطاب لا أكثر، يتلو الشاعر على مسامعه، بصوته الذاتيّ أو الجماعيّ، مأساة فلسطين عبر التاريخ، كما هي الحال في "حجر كنعاني في البحر الميّت"، أو في قصيدة أخرى بعنوان "أنا يوسف يا أبي"، التي يمكن اعتبارها قصيدة أليجوريّة تمثّل الشعب الفلسطيني بين "الأشقّاء" العرب. ذلك أنّ الأب، هنا، ليس موضوعة القصيدة، في آخر الأمر، ما في ذلك شكّ، لأنه لا يقوم إلا بدور شخصيّة هامشيّة لا تحظى بمكانة في القصيدة ذات شأن، ولا تقوم بغير العنوان أو المتلقّي لكلمات الشاعر الابن.
أوّل التفات إلى الأب يستحقّ الذكر، في هذه المرحلة، نجده في قصيدة طويلة بعنوان "قصيدة الأرض"، حيث يشكّل شهر آذار محورا مركزيا يندرج فيه وصف الطالبات الخمس اللواتي "وقفن على باب مدرسة ابتدائيّة، واشتعلن مع الورد والزعتر البلديّ"، في شهر الانتفاضة، واستفاقة الطبيعة في هذا الشهر من بداية الربيع، بالإضافة طبعا إلى ولادة الشاعر نفسه في هذا الشهر:
وفي شهر آذار، قبل ثلاثين عاما وخمس حروب،
وُلدتُ على كومة من حشيش القبور المضيء.
أبي كان في قبضة الإنجليز. وأمّي تربّي جديلتها
وامتدادي على العشب.
على هذا النحو تعرض القصيدة، في سياق واحد، لولادة الشاعر نفسه في هذا الشهر، ولاعتقال الإنجليز الأب في الوقت ذاته، وهي معلومة من السيرة الذاتيّة للشاعر سوف تعود إلى الظهور لاحقا.
بعد وفاة والد درويش، كتب الشاعر أيضا قصيدة طويلة خصّه بها، أسماها ربّ الأيائل يا أبي.. ربّها. في هذه القصيدة، يتحدّث الشاعر بضمير المتكلّم إلى والده الذي يظهر، فيها، مرّة بضمير المخاطب وأخرى بضمير الغائب. يصعب القول إنّها قصيدة رثاء فعلا، بالمعنى المعروف، إذ تشكّل في الواقع حسابا عسيرا لوالده، مكتوبا بأسلوب تصويريّ حادّ!
تجدر بنا الإشارة هنا إلى أنّ عددا من القسمات الشخصيّة في حياة درويش تبدّت جليّة في هذه القصيدة: شجرة الخرّوب على الشارع الرئيسي قرب قرية البروة، بلدة درويش، صلْب البريطانيّين لأبيه على شوك الصبّار، وقد وردت هذه الواقعة مرّتين أيضا في مجوعته الشعريّة لماذا تركت الحصان وحيدا؟، تفاني والده في خدمة الأرض، الوارد سابقا، وأخيرا وصف أبيه بأنّه "خجول"، وهذه الواقعة وردت هنا في القصيدة مرّتين، وكان الشاعر ذكرها أيضا في المقابلة المنشورة في مجلّة مشارف.
أوّل نقدَ لدرويش أباه كان نقدا شخصيّا: فهو يتّهمه بعدم تقريب ولده إليه، عدم تشجيع ابنه على النضال والتضحية، أو حتّى رعاية ابنه، كما هو دأبه مع حقول السمسم والذرة:
[...] كم أبعدتني
عمّا أحاول أن أكون ولا أكون.. وأنت تدري
أني أريد فوائد الأزهار، قَبْلَ الملح. كم قرَّبْتَني
من نجمة العبث البعيدة، يا أبي. لِمَ لمْ تقُلْ لي مَرَّة
في العمر: يا ابني!.. كي أطير إليكَ بعد المدرسةْ؟
لِمَ لمْ تحاول أن تربِّيني كما رَبَّيتَ حقلك سمسمًا، ذُرَةً، وحنطةْ
[...]
وانسَ انصرافي عن خيولك يا أبي واغفر لأعرف ذكرياتي
أَنتَ الذي خَبَّأْتَ قلبك يا أبي عني، فآوتني حياتي
في ما أَرى من كائناتٍ لا تُكَوِّنُ كائناتي..
والآن تسحبني أْبوِّتك القصيَّةُ من يديَّ ومن شتائي
ثمّ إنّه يتّهم أباه بالنّظر إلى أرضه السليبة من بعيد، وهي تُسرق، دونما حراك، إلى أن يعود منها إلى بيته قبل الظلام:
.. متداخلا في صوفه البنيّ، متَّكئا على درج الشجرْ
يرنو إلى فردوسه المفقود، خلف يديه، يرمي ظلَّه
فوق التراب – ترابه ويشدُّه.. يصطاد زهرة أقحوانْ
بعباءة الظلّ المراوغ. أيُّ صيّاد يغافل سارقَ الأَشجارِ!
أيّ أبٍ أبي! يرمي نِبالَ الظلّ نحو ترابه
المسروق..يخطف منه زهرة أقحوانْ!
ويعود قبل الليل [ ...].
الشكوى الأخرى للشاعر، يرفعها في وجه والده، هي انشغاله بالعمل في الأرض، بحيث منعه ذلك من تعليم ابنه عن "التاريخ في أيّامه"، وعن الغزاة الذين احتلّوا هذه الأرض منذ فجر التاريخ:
[...] كم جيش جديد سوف يحتلّ الزمانْ
يأتون كي يتحاربوا فينا.. همُ الأمراءُ، والشهداءُ نحنُ
يأتون، يبنون القلاع على القلاع، ويذهبون، ونحنُ نحْن
لكنّ هذا الوحش يسرق جلدنا وينام فيه فوق خَيْش فراشنا
ويعضُّنا، ويصيح من وَجَع الحنين إلى عيون الأقحوانْ
إنّها شكوى أخرى يرفعها الشاعر إلى أبيه، شاكيا فيها كتمان حبّ الأب لولده؛ ما يجعل الشاعر "يلتجئ إلى القمر" بعيدا عنه:
[...] شاهدت قلبي يا أبي
وأضعت قلبك يا أبي، خبّأته عنّي طويلا، فالتجأتُ إلى القمرْ
قل لي: أُحبّك، قبل أن تغفو.. فينهمر المطرْ
هكذا نرى بوضوح أنّ المزايا ذاتها؛ من تفان في العمل في الأرض، "فتخضرّ الحقول"، لتحصيل الرزق للعائلة، غدت اليوم، بعد أن مجّدها الشاعر في المرحلة "الماركسيّة" الأولى، مدعاة للوم والذمّ، لأنّها انصراف عن النضال في سبيل استعادة الأرض "المسروقة"، وفي سبيل القيم القوميّة الكبرى. حتى في هذه القصيدة "الرثائيّة" لأبيه انصرف الشاعر إلى "محاسبة" هذا الأب، وجيله أيضا؟، متجاوزا التقاليد، ربّما، في قصيدة يُفترض فيها أن تكون قصيدة "رثاء" لوالده!
VI
في المرحلة الثالثة، بعد رحيل الشاعر من بيروت، أصدر درويش مجموعة شعريّة جديدة أسماها لماذا تركت الحصان وحيدًا؟. يمكننا، إذا توسّعنا في دلالة المصطلح، اعتبار هذه المجموعة، كما ألمحنا سابقا، نوعا من السيرة الذاتيّة الشعريّة. ذلك أنّ العناصر السيرذاتيّة، فيها تشكّل مقوّما ثيماتيّا بارزا، وإن كان من الصعب أحيانا الحكم فيما إذا كانت هذه العناصر مستقاة كلّها من حياة الشاعر فعلا، أو هو تبنّاها من حياة الشعب الفلسطيني سنة 1948. من هذه العناصر السيرذاتيّة الواضحة: ولادة الشاعر في آذار، كنيسة قرية البروة التي بقيت شاهدا على القرية التي كانت هناك ذات يوم، شجرة الخرّوب على الشارع الرئيسي المارّ بقرب القرية، الرحيل إلى لبنان مرورا بمنطقة الجليل، تلّة نابوليون بونابرت قرب عكّا.. إلى غير ذلك. تلك عناصر يسهل على القارئ العاديّ تعرّفها دون عناء، وإن كان من الضروري الإشارة هنا إلى أنّ هذه العناصر الواقعيّة تطلّ أحيانا في سياق فرد، بل في جملة واحدة أيضا، إلى جانب عناصر تاريخيّة وأسطوريّة تتبدّى جليّة في الإلماعات الكثيرة إلى التوراة والتراثين المسيحي والإسلامي، ما يجعل هذه المجموعة ملحمة فلسطينيّة حافلة فعلا. يصف درويش نفسه هذه "الخلطة" العجيبة من الذاتي والتاريخي والأسطوري في المجموعة المذكورة، على النحو التالي: "على الفلسطيني أن يمرّ بالأسطورة ليصل إلى المألوف. أنا شاعر، وأنا أولا شاعر التفاصيل الإنسانية المألوفة. لكنني كنت دائمُا في سجال مع مبدأ التكوين. سجال أوقعني في البحث عن كتابة أسطورية للواقع اليومي أو الراهن الفلسطيني. من اليومي إلى الأسطوري. هذه الدورة لا تتم إلا بالعودة إلى أصلها. فهي من اليومي العادي إلى الأسطوري، فاليومي العادي البسيط مجددا. حتى في قمة استعاراتي الأسطورية كان هاجسي الفعلي كتابة البسيط والمألوف والعادي. همي أن أؤنسن النص الفلسطيني. ليست الأسطورة دائمًا مضادة للإنسان، ليست دائمًا كذلك. إنها هنا وجه لصراع ثقافي على كتابة نفس المكان. نكتب نحن الشعراء الفلسطينيين على مسمع من سفر التكوين، على مسمع من الأسطورة التامة والنهائية والمكرسة. [...] في مجموعتي الأخيرة لماذا تركت الحصان وحيدا؟ أعود إلى كلّ أغنياتي. إلا أنّ هذه الأغاني في تراكمها واتصالها ذات نبرة أسطوريّة. يعني أنّ الكتاب في مجموعه، إذا تمّت قراءته دفعة واحدة وبصورة متصلة، غناء ملحمي أسطوري يحمل اليومي في تفاصيله. نحن في حيرة لأننا في حال تاريخية نبدو فيها وكأننا محرومون من الماضي، وأحد الدوافع الإستراتيجية للكتابة الأسطورية محاولة إلقاء القبض على الماضي المرشح لأن ينقطع تمامًا عن أي صيرورة تاريخية".
في هذا السياق الأوتوبيوغرافي، إلى حدّ بعيد، يحتلّ أبو الشاعر بطبيعة الحال مساحة ذات شأن. فالأب هنا يبدو ممثّلا للحكمة والعدل بارزا، رغبة ربّما في تعويضه عن الصورة الجافية التي رسمها له ابنه الشاعر سابقا. كأنّما يعطي الشاعر بذلك "المتّهم" فرصة للدفاع عن نفسه، بطرح مقولاته بكلماته هو. على هذا النحو، تحفل المجموعة بمقاطع كثيرة في مواقف حواريّة بين الأب وابنه، من فترات مختلفة في حياتهما، مكتوبة وفقا للتقاليد القصصيّة، بحيث يتمكّن الأب من طرح "روايته" هو عن الأحداث التي أدّت إلى الهزيمة والرحيل في عام 1948.
فالأب هو من يقود ولده، والعائلة طبعا، إلى المنفى اللبناني، وهو أيضا من يقرّر العودة بهم إلى الوطن، وإن كان يتجنّب الإجابة عن تساؤلات ابنه في سبب رحيلهم عن الوطن في الماضي:
تحسَّسَ مفتاحَهُ مثلما يتحسَّسُ
أَعضاءه، واطمأَنَّ. وقال لَهُ
وهما يعبران سياجا من الشوكِ:
يا ابني تذكَّرْ! هنا صَلَبَ الانجليزُ
أَباك على شَوْك صبّارة ليلتين،
ولم يعترف أَبدًا. سوف تكبر يا
ابني، وتروي لمن يَرِثون بنادقَهمْ
سيرةَ الدم فوق الحديد...
ـ لماذا تركت الحصان وحيدًا
ـ لكي يُؤْنسَ البيتَ، يا ولدي،
فالبيوتُ تموتُ إذا غاب أصحابها..؟
كذلك يقدّم الأب، في هذه المجموعة، روايته هو عن الهزيمة في الحرب: كان للعدوّ تفوّق عسكريّ واضح، ما أدّى أخيرا إلى انتصاره عليهم، ورحيلهم عن البلاد:
ـ هل تُكَلّمُني يا أَبي؟
ـ عقدوا هدنة في جزيرة رودوس،
يا ابني!
ـ وما شأننا نحن، ما شأننا يا أبي؟
ـ وانتهى الأمرُ...
ـ كم مرّةً ينتهي أمرُنا يا أبي؟
ـ إنتهى الأمر. قاموا بواجبهم:
حاربوا ببنادقَ مكسورةٍ طائرات العدوّ.
وقمنا بواجبنا، وابتعدنا عن الزَّنْزَلَخْتِ
لئلا نُحرّكَ قُبَّعَةَ القائد العسكريّ.
وبعنا خواتم زوجاتنا ليصيدوا العصافير
يا ولدي!
تحفل هذه المجموعة بذكريات الطفولة البعيدة؛ ذكريات من قرية الشاعر والوطن، وبالحوارات المستفيضة بين الابن وأبيه، لكن ليس من شأننا هنا، في هذا المقال، أن نعرض لها بالتفصيل، رغم ما في ذلك، لا ننكر، من إغراء وإمتاع! مع ذلك، هناك ثلاث ملاحظات أخيرة لا بدّ لنا من تأكيدها:
1) في مجموعة لماذا تركت الحصان وحيدًا؟ يبدو كأنّما والد الشاعر هو من
اقترح وقاد الهجرة إلى لبنان، ومن حمل ولده على كتفيه، أيضا، في طريق العودة من لبنان إلى الوطن. إلا أنّ الجدّ بالذات هو من كان في الواقع مسؤولا عن رحيلهم إلى لبنان كما صرّح الشاعر نفسه:
* جدّك خرج معكم؟
- هو الذي أخرجنا. وكبقيّة الفلسطينيّين الذين خرجوا كان يظنّ أنّ الهجرة
مؤقّتة، وأنّها ليست أكثر من إخلاء الأرض للمعارك والجيوش فترة يعود بعدها إلى بلده وأرضه...
2) في بداية طريق العودة من لبنان، كان والد الشاعر من حمل ابنه على كتفيه،
حينما أحسّ الابن بالتعب، ولم يعد قادرا على السير. إلا أنّ الوضع يتغيّر
لاحقا: يعرق الأب ويأخذ منه التعب، فيقترح عليه ابنه هذه المرّة أن يحمله،
وبذلك ينتهي المشهد، بما في ذلك من دلالة رمزيّة واضحة إلى أنّ جيل الشباب، جيل المستقبل، هو في آخر الأمر من سيعيد الفلسطينيّين إلى وطنهم:
ـ يا أبي، هل تَعِبت
أرى عرقًا في عيونك؟
ـ يا ابني تعبتُ... أَتحمِلُني؟
ـ مثلما كنتَ تحملني يا أبي،
وسأحمل هذا الحنين
إلى
أوَّلي وإلى أَوَّلِهْ
وسأقطع هذا الطريق إلى
آخري... وإلى آخِرِهْ!
3) عرضنا في هذا المقال إلى الجانب الثيماتي من القصيدة الدرويشيّة فحسب. لكن لا شكّ في أنّ الجانب الفنّي لشعره؛ من مبنى محكم، وإيقاع مراوغ، وتناصّ
غنيّ مركّب، ولغة مفتوحة على جهات شتّى؛ هذه جميعها جديرة بالنظر الطويل العميق الذي لا نقدر عليه في هذا الإطار هنا.
ختاما، يمكننا القول إن صورة الأب هذه في شعر درويش، بخلاف صورة الأمّ الثابتة في جوهرها، عكست في تحوّلاتها المذكورة مراحل واضحة في شعره، فكانت المرآة المثلى لتطوّر هذا الشعر في خطّ صاعد أبدا!
تحوّلات الأب في شعر محمود درويش
بقلم : بروفسور سليمان جبران
1
لا نقاش في أنّ محمود درويش (1941- 2008) من أبرز الشعراء العرب في النصف الثاني من القرن العشرين، وهو أكثرهم شهرة وانتشارا؛ ما في ذلك شكّ. هذه المكانة المتميّزة لدرويش ونتاجه، في الشعر العربي الحديث، مردّها إلى موهبة شعريّة فذّة، وأكثر من أربعين سنة من العطاء المتواصل، وجهود مثابرة في تجديد فنّه والارتقاء به دونما توقّف. في غضون هذه العقود الطويلة، شغل درويش مناصب كثيرة، في الصحافة أساسا، إلا أنّ الشعر ظلّ، في نفسه وكتابته، شغله الشاغل وغايته القصوى، وللشعر كرّس جلّ وقته وجهوده، بل كلّ حياته وجهوده في الواقع.
من الطبيعي أنّ اعتباره، في نظر النقّاد والناس جميعا، "شاعر فلسطين"، كان له نصيب في شهرته وانتشاره، ما في ذلك شكّ. إلا أنّ مكانته هذه لم تكن لتغريه بالجمود في مكانه، واجترار منجزاته الفنّية التي توقّعها واستطابها قرّاؤه وسامعوه: "أزمتي في وقت مطالبة بعض قرّائي وبعض جماهير شعري لي بأنْ أثبت في مكاني، في نصّي الذي وجدوا فيه تعبيرا عنهم. عندما خرجت من هذا النصّ كان هناك خطر بأن أفقد قرّائي. لكنّني اخترت ما رأيته صالحا لشعري ومناسبا لاعتباراتي الفنيّة، وكان خياري صائبا. بل عكس احتراما لقرّائي. إذ ليس من حقّنا أن نتكلّم بخفّة عن الجمهور. الجمهور حقّا من شرائح ومستويات ثقافيّة واجتماعيّة مختلفة، لكنّه عندما يذهب إلى أمسية، عندما يمسك القارئ كتابا، أو يقرأ نصّا، فهو يعرف ماذا يفعل وإلى أين يذهب. تطوّر النصّ الشعري هو في الوقت ذاته تطوير للذائقة الشعريّة" .
محمود درويش
II
في هذه الفترة الطويلة من الإنتاج، أصدر درويش أكثر من عشرين مجموعة شعرية، بدءا بمجموعة عصافير بلا أجنحة سنة 1960 التي يعتبرها درويش "تعبيرا عن محاولات غير متبلورة"، ولذا فإنّه لا يذكرها عادة بين أعماله، وانتهاء بمجموعته الأخيرة، لا تعتذر عمّا فعلت، في سنة 2004.**
في نظرة تقريبيّة، يمكننا تقسيم الأعمال الشعريّة لدرويش إلى ثلاث مراحل فنيّة متميّزة. في البداية؛ في المرحلة الأولى، كانت قصيدته "واقعيّة"، إلى حدّ ما؛ حاول فيها رسم الوقائع القاسية في الوجود الفلسطيني داخل إسرائيل، بأدوات بسيطة، ونغمة صريحة، ومبانٍ خطابيّة عالية. في تلك المرحلة، لا بدّ من التنويه، كان درويش عضوا في الحزب الشيوعي الإسرائيلي، فتأثّر بلا ريب بالمبادئ الماركسيّة في اعتبارها الشعر، والأدب عامّة، وسيلة ثوريّة ترمي إلى تحفيز الجماهير على طريق التغيير. هذا هو الموقف الذي صوّره، ربّما بشيء من المغالاة، في إحدى قصائده من مجموعة أوراق الزيتون (1964) قائلا:
قصائدنا بلا لونٍ
بلا طعمٍ.. بلا صوتِ!
إذا لم تحمل المصباح من بيتٍ إلى بيتِ!
وإن لم يفهم "البُسَطا" معانيها
فأولى أن نُذرّيها
ونخلدَ نحنُ.. للصمتِ!!
في هذه المرحلة، كانت أشعاره في معظمها " أشعارا مقاتلة" بكلّ معنى الكلمة. فقد كانت قصائده احتجاجا صارخا ضدّ النظام المضطهِد في إسرائيل، فعبّرت عن المأساة المرّة للشعب الفلسطيني بوجه عامّ، لكنّها في الوقت ذاته اصطبغت بمسحة واضحة من الأمل والتفاؤل، كما هو متوقّع من شعر "الواقعيّة الاشتراكيّة". مع ذلك، لم تعدم قصائده "المقاتلة" نغمة غنائيّة أخّاذة، وبالذات حين يتماهى الفرد في المجموع، والحبيبة في الوطن، كما تمثّل ذلك، على سبيل المثال، في واحدة من أشهر قصائده يومذاك، سمّاها "عاشق من فلسطين"، في المجموعة التي تحمل اسم القصيدة المذكورة ذاته، حين يقول فيها:
فلسطينيّة العينين والوشمِ
فلسطينيّة الإسمِ
فلسطينيّة الأحلام والهمِّ
فلسطينيّة المنديل والقدمين والجسمِ
فلسطينيّة الكلمات والصمتِ
فلسطينيّة الصوتِ
فلسطينيّة الميلاد والموتِ
[...]
وباسمك، صحتُ في الوديانْ:
خيول الروم!.. أعرفها
وإن يتبدّل الميدان!
خذوا حذرا..
من البرق الذي صكّته أغنيتي على الصوّانْ
أنا زين الشباب، وفارس الفرسان
أنا. ومحطّم الأوثان.
في سنة 1970، سافر درويش إلى موسكو في بعثة دراسيّة، ومن هناك رحل إلى القاهرة، فكانت تلك في الواقع بداية مرحلة جديدة في حياته وشعره على حدّ سواء. كان لقراره مغادرة إسرائيل، مرّة وإلى الأبد، صدى واسع طبعا في إسرائيل، وفي العالم العربي. لكن ما يهمّنا هنا هو أنّ هذه الخطوة كانت، ما في ذلك شكّ، إيذانا بانتهاء دور "شاعر المقاومة"؛ شاعر الغضب السياسيّ والاجتماعيّ ضدّ الحكم الإسرائيلي، ووقوفه من الآن فصاعدا في مفترق هامّ من حياته الشعريّة: هل يواصل دوره السابق، مردّدا النصوص والثيمات السابقة ذاتها، وقد بدّل موقعه طبعا، أم عليه أن يشقّ طريقا فنّيا جديدا أكثر رقيّا وتعقيدا، رغم ما في هذا الطريق الجديد من أخطار تتهدّد مكانته الشعريّة بين قرّائه ومريديه؟ أو بكلمات درويش نفسه: "كنت في الثامنة والعشرين، وكان ريشي خفيفا، وكنت ذاهبا للمجهول، وأنا لم أنتبه إلى أنّ صورتي، قبلت أو لم تقبل، هي أن أكون مصلوبا في الجليل، وليس من حقّي أن أنزل عن الصليب وأنتعل حذاء وأمشي. فهذا كسْر للصورة، لذلك أشعر أنّ القارئ أكرم منّي وقدّم لي أكثر مما قدّمت له. فهو عندما نسي هذه الجنايات، كان يغفر لي ويحمّلني تبعات الغفران، ولكن كيف؟ هل أن أكون صدى مكرّرا لما كنت؟ هل أحافظ على الصورة القديمة، أم أبحث عن لغة جديدة وقصيدة جديدة؟ وهذا ما فعلت دون أن أحدث القطيعة مع أرض الحنين".
هكذا انتقل شعر درويش إلى مرحلة جديدة، بكلّ ما رافقها من صياغة شعريّة جديدة أيضا. فقد أخذ يبتعد شيئا فشيئا عن المواقف الماركسيّة في الأدب، كما هجر، في الأغلب، الخطابيّة المباشرة التي كان عبّر بها عن الصوت الجماعي للجماهير، وشرع في كتابة شعر فنّي "معقّد" يقوم إلى حدّ بعيد على رموز وموتيفات التوراة والتراثين الإسلامي والمسيحي، وعلى الحضارات القديمة لهذه المنطقة. صحيح أنه واصل تناول القضيّة الفلسطينية في قصائده، إلا أنّ رؤيته غدت أوسع مدى، وتعدّدت في قصيدته الأصوات، المجرّدة منها والمتناصّة، وصولا إلى الصور السورياليّة في بعض الأحيان أيضا.
في مقابلة مطوّلة مع درويش، يذكر الشاعر مدى قراءاته استعدادا لكتابة قصيدته في هذه المرحلة قائلا: "عندما كتبت أحد عشر كوكبا، وهي قصيدة غير طويلة، قرأت قرابة خمسين كتابا عن الأندلس. ولمّا كتبت "الهنديّ الأحمر" قرأت حوالى عشرين كتابا عن تاريخ الهنود الحمر وأدبهم. وقرأت نصوصهم الأدبيّة وخطبهم" .من الجدير بالذكر هنا أنّ القصيدة الدرويشيّة آنذاك، رغم هذا الغنى من "المراجع" الأسطوريّة والتاريخيّة، لم تنفكّ تتدفّق في يسر و"بساطة" في التعبير، على الرغم من هذه الخلفيّة الثقافيّة المدهشة المبثوثة في التناصّات المحكمة التي تشكّل عنصرا فنّيا طاغيا في قصيدته: "مسألة التناصّ أو الإحالات التي أمارسها بوعي تامّ، هي جزء أساسيّ من مشروعي، انطلاقا من أنّه لا توجد كتابة تبدأ "الآن"، ليست هناك أوّل كتابة، أو كتابة تبدأ من بياض، ولا يوجد أصلا تأريخ للشعر. لذلك، كان حريّا في عصر تداخل الثقافات، والمرجعيّات الواضحة والتطوّر الهائل للإبداع الشعريّ، سواء على مستوى العرب قديما أم على مستوى العالم المعاصر، أن تدخل التناصّ، لأنّ الكتابة الآن هي كتابة على ما كُتب. أنت لا تستطيع أن تدخل عالم الشعر هذا برعويات، إذا لم تكتب على الكتابة، فإنّك تُخرج الشعر من كينونته الثقافيّة، فللشعر كيانية ثقافية في الدرجة الأولى، أما السليقة وكيف تعبر الثقافة عن نفسها فهذه مسائل تقنية" .
في سنة 1982 اجتاحت إسرائيل لبنان، فاضطُرّت منظّمة التحرير الفلسطينيّة إلى مغادرة لبنان، ومعها درويش طبعا. على ضوء هذه الأحداث كتب درويش قصيدته المعروفة في مديح الظلّ العالي؛ وهي قصيدة "استثنائيّة" تخالف في فنّها ولهجتها الطابع الغالب لقصائده في هذه الفترة، وذلك ما جعله، في أغلب الظنّ، يسمّيها ""قصيدة تسجيليّة"! القصيدة في غاية الطول، حوالى سبعين صفحة، مكتوبة في خطابيّة عالية من الكامل التفعيلي، لغتها عالية ومباشرة، وكذلك صورها الشعريّة، بحيث يغلب فيها الأنا على كلّ المقوّمات الفنّية الأخرى. إلى هذا الحدّ تبدو القصيدة المذكورة غريبة في هذه المرحلة بحيث تذكّر، إلى حدّ بعيد، بدرويش القديم صاحب قصيدة "بطاقة هويّة" الشهيرة! الشاعر نفسه اعترف أنّ القصيدة نشأت نتيجة توتّر وغضب عارمين بعد الأحداث المذكورة أعلاه، ولا يمكن بأيّ حال من الأحوال اعتبارها "تنازلا" للقارئ بغية التقرّب منه: "أنا لم أقدّم تنازلا لأنّني لم أقدّم نصّا لإرضاء القارئ. فقد كان غضبي وطريقة نظرتي للعالم متطابقة مع نظرة القارئ العادي. وكان غضبي على العالم يحمل استخفافا بالشعر واللغة الشعريّة والجماليّات، لذلك سمّيتها قصيدة تسجيليّة. لقد كانت كميّة غضبي تقول إنّ هناك أوقاتا لا وقت فيها للجماليّات، وهذا طبعا ليس من قبيل التنازل، بل من قبيل التعبير عن رغبة في الانفجار".
في سنة 1995 أصدر درويش مجموعه شعريّة جديدة؛ لماذا تركت الحصان وحيدا؟ فشكّلت تحوّلا جديدا، بل مدهشا في فنّه الشعري، بحيث دشّن مرحلة تجديديّة ثالثة في هذا الفنّ. تمثّل الاتّجاه التجديديّ المذكور في انصراف الشاعر إلى الحفر في الذاكرة الذاتيّة بنظرة فلسفية وجوديّة عميقة. فهو يعود في هذه المجموعة إلى الماضي، منقّبا فيه عن مشاهد طفولته الأولى، عارضا مشاهدها من جديد في سياقات أسطوريّة مركّبة. ولعلّ خير وصف لهذا المنحى الجديد في شعر درويش ما ذكره الناقد السوري صبحي الحديدي، حين يقول: "هذه المجموعة دشّنت طورا جديدا تماما في مشروع درويش الشعري، لأنه هذه المرّة كرّس مجموعة بأسرها لموضوع محوري واحد هو كتابة السيرة، ولأنه أعطى فسحة سخيّة تماما (لعلّها غير مسبوقة في شعره) لصعود "الأنا"، "أنا" الفرد الشاعر في فسيفساء علاقتها بالذات والتاريخ والمكان والزمان، ووقوفها على قدم المساواة مع -أو تفوّقها أحيانا على- التمثيل الإنساني والوطني للذات الجمعيّة".
الإيقاع في قصائد هذه المجموعة هادئ يقترب في أحيان كثيرة من إيقاع النثر السردي، والقصائد حافلة بالحوار والتناصّات التاريخيّة والدينيّة. هذه هي الصياغة الغالبة، بشكل أو بآخر، على مجموعاته التالية كلّها؛ حتّى على مجموعة حالة حصار التي كتبها درويش في رام الله أثناء منع التجوّل المفروض على المدينة من الجيش الإسرائيلي. حتّى هذه المجموعة، بظروف نظمها القاسية، مكتوبة من منظور شخصي إنساني، وفي إيقاع هادئ، تغلب عليه عادة الرؤية الذاتيّة والآيرونيّة المرّة. يمكن القول أخيرا إنّ هذه المجموعة كُتبت في نفس ظروف مديح الظلّ العالي، لكن شتان ما بين درويش ذاك، في بيروت سنة 1983، ودرويش هذا في رام الله سنة 2002!
III
قبل انصرافنا إلى غايتنا الأساسيّة من هذا المقال، حول تحوّلات صورة الأب في شعر درويش، لعلّه يجدر بنا أن نشير إلى أنّ أفرادا آخرين من عائلته أتى الشاعر على ذكرهم في قصائده أيضا. حتّى حين كان في إسرائيل، عاش درويش الشاعر أغلب وقته في مدينة حيفا، بعيدا عن عائلته، كما اعتُقل وسُجن وفُرضت عليه الإقامة الجبريّة غير مرّة. لذا فقد كان طبيعيّا أن يحنّ إلى أهله جميعا: "إنّ لمحمود 'ضعفا' خاصا تجاه البيت... كلّ ما فيه: أمّه، وأبيه، وأخته، وأخيه.. والأشياء الاعتياديّة التي لا يخلو منها بيت.. الباب، والعتبة، والسياج، والموقد، وحبل الغسيل إلخ ..". فحين كان في السجن، في الستينات، كتب لأخته قصيدة مؤثّرة بعنوان "أهديها غزالا"، كما كتب أيضا قصيدته "إلى أمّي" التي لحّنها وغنّاها الفنان اللبناني المعروف مارسيل خليفة، ما أكسبها شهرة استثنائيّة فعلا. إلا أنّ صورة الأمّ لا تكاد تختلف في شعره، وإن اختلفت لغته وصياغاته طبعا: أمّ شرقيّة حنون، تعاني شوقها لولدها الغائب عن عينيها، وتحمل همّه حيثما ارتحل. يفتتح الشاعر قصيدة "إلى أمّي" بهذا البوح الطاغي:
أحنُّ إلى خبز أمّي
وقهوة أمّي
ولمسة أمّي..
وتكبرُ فيَّ الطفولةُ
يومًا على صدر يومِ
وأعشقُ عمري لأنّي
إذا متُّ،
أخجل من دمع أمّي!
هذه الصورة لأمّه لم تتغيّر مع السنين، كما أسلفنا، وإن اختلف الأسلوب والصياغة طبعا. ففي مجموعة لماذا تركت الحصان وحيدا، يصفها درويش بهذه الأسطر الأخّاذة:
أمّي تعدّ أصابعي العشرين عن بعدٍ.
تُمشّطُني بخُصلةِ شعرها الذهبيّ. تبحثُ
في ثيابي الداخليّةِ عن نساءٍ أَجنبيّاتٍ،
وتَرفو جَوْربي المقطوعَ. لم أكبرْ على يَدِها
كما شئنا: أنا وهيَ، افترقنا عند مُنْحَدرِ
الرُّخام..
على هذا النحو بقيت أمّه، بشكل أو بآخر؛ نفس المرأة الجميلة المحِبّة، كما كانت دائما، لم تتغيّر صورتها هي، وإن تغيّرت اللغة والأسلوب في تناولها كما أسلفنا.
IV
إذا كانت أمّ درويش، كما رأينا أعلاه، مثّلت "الوطن" كلّه، باعتبارها مصدرا ثابتا للدفء والحبّ والقلق على ولدها، فإنّ صورة الأب لا تظهر بالألوان ذاتها، ولا تثبت على حالها دونما تغيير أو تبديل على مرّ السنين. درويش نفسه حاول تلمّس الفرق بين الصورتين، كما تجلّى في شعره، بأسلوبه الشعريّ قائلا: "الأمّ هي الأمّ والأب هو الأب. إنّهما بشر. لكنّ كلا منهما يحمل دلالات مختلفة. لا يكفي أن تحمل الأمّ فكرة البقاء المكاني والتاريخي في الأرض الفلسطينيّة. لنقف عند هذه الكناية. كان الآباء عبر التاريخ كثرا والأمّ واحدة. الأمّ ذات هويّة مستقرّة، والآباء متغيّرون. الأرض التي وُلدتُ عليها هي، كما تعلم، ملتقى غزاة وأنبياء، ورسالات وحضارات وثقافات. ولكنّهم عابرون، عبورا يطول أو يقصر. فالأب لم يكنْ واحدا ولانهائيّا ولا دائما. من هنا كان انتسابنا الحضاري والثقافي إلى الأرض، إلى الأمّ. هذا من ناحية. ومن ناحية أخرى أنا من جيل حمّل آباءه مسئولية الرحيل والهجرة لأنهم، الآباء، آباءنا، لم يدافعوا جيدا عن أرضنا، وما زلنا نسألهم عن ذلك، ولا تزال صلتنا بهم ملتبسة بالسجال والخلاف" .
في لغة نثريّة بسيطة، تمثّل الأمّ الفلسطينيّة الحبّ والحماية والاستقرار لأبنائها، أمّا الأب فهو "الزعيم": إنّه المسؤول عن العلاقات الخارجيّة مع العالم الخارجي، والمسؤول أيضا عن حماية الوطن وتأمين مستقبله. بناء على ذلك، فإنّ الأواصر بين الأب والابن، بما فيها تلك بين درويش وأبيه، هي أواصر مركّبة، وفي ذلك ما يفسّر طبعا ظهور صورة الأب في ملامح مختلفة في الفترات المختلفة من شعر درويش. ففي اللقاء ذاته في مجلّة مشارف يصف درويش والده باعتباره إنسانا عاديّا مشغولا بالعمل في الأرض، بعيدا نوعا ما عن أولاده وعن بيته: "كان جدّي هو الأب الحقيقي، بسبب انشغال أبي في التربة وملاحقة الفصول. يخرج في الصباح ويعود في المساء، ويتركنا أنا وإخوتي في رعاية جدّي. كان هو أبانا الحقيقي، يدلّلنا ويأخذنا في نزهات ويصحبنا إلى المدن. أبي ككلّ المزارعين مستغرق في عمله في الأرض حتّى كأنّه قطعة منها" .
صورة الأب هذه، كادحا لتحصيل رزق عياله، تناسب بلا شك ّفلسفة درويش في الفترة الأولى من شاعريّتة، يوم كان عضوا في الحزب الشيوعي الإسرائيلي، عاملا في صحافته الحزبيّة أيضا، قبل مغادرته إسرائيل. هكذا نجده في قصيدته الشهيرة "بطاقة هويّة"، التي غدت أشبه بمانيفست سياسي في نظر معظم الفلسطينيين في إسرائيل، يشير إلى خلفيّته "البروليتاريّة"، وإن كان يعلن فخره، في الوقت ذاته، بتراث جدّه بالذات، لا بتراث والده:
أبي.. من أسرة المحراثِ
لا من سادةٍ نُجُبِ
وجدّي كان فلاحًا
بلا حسبٍ..ولا نسبِ!
يعلّمني شموخ الشمس قبل قراءة الكتبِ
في قصيدة أخرى، سمّاها "ثلاث صور"، يكرّس الشاعر "الصورة" الثالثة لوصف أبيه، فيصوّره مرّة أخرى كادحا، يجد صعوبة كبرى في إعالة أولاده الكثر:
كان أبي
كعهده، محمّلا متاعبا
يطارد الرغيف أينما مضى..
لأجله.. يصارع الثعالبا
ويصنع الأطفال..
والتراب..
والكواكبا..
[...]
ووالدي. كعهده.
يسترجع المناقبا
ويفتل الشواربا!
ويصنع الأطفالَ..
والترابَ
والكواكبا!
في هذه القصيدة هناك، أيضا، نقد "ناعم" لأب لا يشغله من مصير العائلة سوى توفير الرغيف لأفرادها، فيما يواصل إنتاج الأطفال وتفتيل الشوارب!
في هذه الفترة ذاتها، أفرد درويش لوالده قصيدة أخرى بكاملها أسماها "أبي"، يبدو فيها الأب ثانية فلاحا، يصارع الصخور، شديد الإيمان بالله، رغم مشاكله ومتاعبه، كأنما هو أيّوب الراضخ لقدره. وفي نهاية القصيدة يوصي الأب ولده بالبقاء في الوطن، وعدم الهجرة إلى بلاد أخرى غيرها:
غضَّ طرْفًا عن القمرْ
وانحنى يحضن الترابَ
وصلّى..
لسماء بلا مطرْ،
ونهاني عن السفرْ!
[...]
وأبي قال مرّة:
الذي ما له وطنْ
ما له في الثرى ضريحْ
.. ونهاني عن السفرْ!
في القصيدة ذاتها، تتردّد غير مرّة جملة "غُضَّ طرفًا عن القمر"، وهي نصيحة يقدّمها الأب لابنه أيضا، بما تحمله من دلالة على أنّ الأب بعيد عن الأمل والطموح، راضٍ بنصيبه المرّ، كما هي حال النبيّ أيّوب المؤمن الصابر في الحكاية الدينيّة المعروفة!
نخلص إلى القول إنّه خلال هذه المرحلة الأولى من شعر درويش، حين كان في إسرائيل، في صفوف الحزب الشيوعي، بدا الأب فلاحا كادحا يصارع الأرض والصخور لكي يوفّر القوت لعائلته، متحلّيا بالصبر، راضيا بقسمته، متمسّكا بأرض آبائه وأجداده، لا يلتفت إلى الهجرة ومغادرة الوطن. لكن من ناحية أخرى نلمح مع ذلك بعض النقد الناعم لأب لا يبالي بكثرة الأولاد الذين يأتي بهم إلى هذا العالم، ولا يعرف للطموح سبيلا! بذلك نجد شيئا من عدم الدقّة في الزعم بأنّ درويش يعرض، في هذه الفترة، شخص والده بريئا من كلّ عيب، لا تشوبه شائبة، كما رأى الناقد المصري رجاء النقاش!
V
في المرحلة الثانية، بعد رحيل درويش من إسرائيل، تحرّر الشاعر من البيئة والعقيدة الشيوعيّتين، وغدا وطنيّا فلسطينيّا مستقلا، بكلّ معنى الكلمة. الآن غدا الشاعر حرّا في كتابة كلّ ما يريد دونما خشية من الرقيب الإسرائيلي أو من نقد "الرفاق" في الحزب أو الصحيفة. هذا التحوّل الكبير جعله يعيد النظر في صورة أبيه، وجيل أبيه كلّه، فيتناوله من منظور قوميّ جديد، لا يتّصل بالشيوعيّة من قريب أو بعيد. هكذا أخذ درويش في "محاسبة" أبيه، على المستويين الشخصي والقومي على حدّ سواء، ذاكرا مقاومة الجيل المذكور للإنجليز من ناحية أولى، موجّها في الوقت ذاته النقد لأبيه في المستويين المذكورين.
لن نعرض هنا طبعا للقصائد التي يظهر فيها أبوه، لا كيانا مستقلا بل عنوانا للخطاب لا أكثر، يتلو الشاعر على مسامعه، بصوته الذاتيّ أو الجماعيّ، مأساة فلسطين عبر التاريخ، كما هي الحال في "حجر كنعاني في البحر الميّت"، أو في قصيدة أخرى بعنوان "أنا يوسف يا أبي"، التي يمكن اعتبارها قصيدة أليجوريّة تمثّل الشعب الفلسطيني بين "الأشقّاء" العرب. ذلك أنّ الأب، هنا، ليس موضوعة القصيدة، في آخر الأمر، ما في ذلك شكّ، لأنه لا يقوم إلا بدور شخصيّة هامشيّة لا تحظى بمكانة في القصيدة ذات شأن، ولا تقوم بغير العنوان أو المتلقّي لكلمات الشاعر الابن.
أوّل التفات إلى الأب يستحقّ الذكر، في هذه المرحلة، نجده في قصيدة طويلة بعنوان "قصيدة الأرض"، حيث يشكّل شهر آذار محورا مركزيا يندرج فيه وصف الطالبات الخمس اللواتي "وقفن على باب مدرسة ابتدائيّة، واشتعلن مع الورد والزعتر البلديّ"، في شهر الانتفاضة، واستفاقة الطبيعة في هذا الشهر من بداية الربيع، بالإضافة طبعا إلى ولادة الشاعر نفسه في هذا الشهر:
وفي شهر آذار، قبل ثلاثين عاما وخمس حروب،
وُلدتُ على كومة من حشيش القبور المضيء.
أبي كان في قبضة الإنجليز. وأمّي تربّي جديلتها
وامتدادي على العشب.
على هذا النحو تعرض القصيدة، في سياق واحد، لولادة الشاعر نفسه في هذا الشهر، ولاعتقال الإنجليز الأب في الوقت ذاته، وهي معلومة من السيرة الذاتيّة للشاعر سوف تعود إلى الظهور لاحقا.
بعد وفاة والد درويش، كتب الشاعر أيضا قصيدة طويلة خصّه بها، أسماها ربّ الأيائل يا أبي.. ربّها. في هذه القصيدة، يتحدّث الشاعر بضمير المتكلّم إلى والده الذي يظهر، فيها، مرّة بضمير المخاطب وأخرى بضمير الغائب. يصعب القول إنّها قصيدة رثاء فعلا، بالمعنى المعروف، إذ تشكّل في الواقع حسابا عسيرا لوالده، مكتوبا بأسلوب تصويريّ حادّ!
تجدر بنا الإشارة هنا إلى أنّ عددا من القسمات الشخصيّة في حياة درويش تبدّت جليّة في هذه القصيدة: شجرة الخرّوب على الشارع الرئيسي قرب قرية البروة، بلدة درويش، صلْب البريطانيّين لأبيه على شوك الصبّار، وقد وردت هذه الواقعة مرّتين أيضا في مجوعته الشعريّة لماذا تركت الحصان وحيدا؟، تفاني والده في خدمة الأرض، الوارد سابقا، وأخيرا وصف أبيه بأنّه "خجول"، وهذه الواقعة وردت هنا في القصيدة مرّتين، وكان الشاعر ذكرها أيضا في المقابلة المنشورة في مجلّة مشارف.
أوّل نقدَ لدرويش أباه كان نقدا شخصيّا: فهو يتّهمه بعدم تقريب ولده إليه، عدم تشجيع ابنه على النضال والتضحية، أو حتّى رعاية ابنه، كما هو دأبه مع حقول السمسم والذرة:
[...] كم أبعدتني
عمّا أحاول أن أكون ولا أكون.. وأنت تدري
أني أريد فوائد الأزهار، قَبْلَ الملح. كم قرَّبْتَني
من نجمة العبث البعيدة، يا أبي. لِمَ لمْ تقُلْ لي مَرَّة
في العمر: يا ابني!.. كي أطير إليكَ بعد المدرسةْ؟
لِمَ لمْ تحاول أن تربِّيني كما رَبَّيتَ حقلك سمسمًا، ذُرَةً، وحنطةْ
[...]
وانسَ انصرافي عن خيولك يا أبي واغفر لأعرف ذكرياتي
أَنتَ الذي خَبَّأْتَ قلبك يا أبي عني، فآوتني حياتي
في ما أَرى من كائناتٍ لا تُكَوِّنُ كائناتي..
والآن تسحبني أْبوِّتك القصيَّةُ من يديَّ ومن شتائي
ثمّ إنّه يتّهم أباه بالنّظر إلى أرضه السليبة من بعيد، وهي تُسرق، دونما حراك، إلى أن يعود منها إلى بيته قبل الظلام:
.. متداخلا في صوفه البنيّ، متَّكئا على درج الشجرْ
يرنو إلى فردوسه المفقود، خلف يديه، يرمي ظلَّه
فوق التراب – ترابه ويشدُّه.. يصطاد زهرة أقحوانْ
بعباءة الظلّ المراوغ. أيُّ صيّاد يغافل سارقَ الأَشجارِ!
أيّ أبٍ أبي! يرمي نِبالَ الظلّ نحو ترابه
المسروق..يخطف منه زهرة أقحوانْ!
ويعود قبل الليل [ ...].
الشكوى الأخرى للشاعر، يرفعها في وجه والده، هي انشغاله بالعمل في الأرض، بحيث منعه ذلك من تعليم ابنه عن "التاريخ في أيّامه"، وعن الغزاة الذين احتلّوا هذه الأرض منذ فجر التاريخ:
[...] كم جيش جديد سوف يحتلّ الزمانْ
يأتون كي يتحاربوا فينا.. همُ الأمراءُ، والشهداءُ نحنُ
يأتون، يبنون القلاع على القلاع، ويذهبون، ونحنُ نحْن
لكنّ هذا الوحش يسرق جلدنا وينام فيه فوق خَيْش فراشنا
ويعضُّنا، ويصيح من وَجَع الحنين إلى عيون الأقحوانْ
إنّها شكوى أخرى يرفعها الشاعر إلى أبيه، شاكيا فيها كتمان حبّ الأب لولده؛ ما يجعل الشاعر "يلتجئ إلى القمر" بعيدا عنه:
[...] شاهدت قلبي يا أبي
وأضعت قلبك يا أبي، خبّأته عنّي طويلا، فالتجأتُ إلى القمرْ
قل لي: أُحبّك، قبل أن تغفو.. فينهمر المطرْ
هكذا نرى بوضوح أنّ المزايا ذاتها؛ من تفان في العمل في الأرض، "فتخضرّ الحقول"، لتحصيل الرزق للعائلة، غدت اليوم، بعد أن مجّدها الشاعر في المرحلة "الماركسيّة" الأولى، مدعاة للوم والذمّ، لأنّها انصراف عن النضال في سبيل استعادة الأرض "المسروقة"، وفي سبيل القيم القوميّة الكبرى. حتى في هذه القصيدة "الرثائيّة" لأبيه انصرف الشاعر إلى "محاسبة" هذا الأب، وجيله أيضا؟، متجاوزا التقاليد، ربّما، في قصيدة يُفترض فيها أن تكون قصيدة "رثاء" لوالده!
VI
في المرحلة الثالثة، بعد رحيل الشاعر من بيروت، أصدر درويش مجموعة شعريّة جديدة أسماها لماذا تركت الحصان وحيدًا؟. يمكننا، إذا توسّعنا في دلالة المصطلح، اعتبار هذه المجموعة، كما ألمحنا سابقا، نوعا من السيرة الذاتيّة الشعريّة. ذلك أنّ العناصر السيرذاتيّة، فيها تشكّل مقوّما ثيماتيّا بارزا، وإن كان من الصعب أحيانا الحكم فيما إذا كانت هذه العناصر مستقاة كلّها من حياة الشاعر فعلا، أو هو تبنّاها من حياة الشعب الفلسطيني سنة 1948. من هذه العناصر السيرذاتيّة الواضحة: ولادة الشاعر في آذار، كنيسة قرية البروة التي بقيت شاهدا على القرية التي كانت هناك ذات يوم، شجرة الخرّوب على الشارع الرئيسي المارّ بقرب القرية، الرحيل إلى لبنان مرورا بمنطقة الجليل، تلّة نابوليون بونابرت قرب عكّا.. إلى غير ذلك. تلك عناصر يسهل على القارئ العاديّ تعرّفها دون عناء، وإن كان من الضروري الإشارة هنا إلى أنّ هذه العناصر الواقعيّة تطلّ أحيانا في سياق فرد، بل في جملة واحدة أيضا، إلى جانب عناصر تاريخيّة وأسطوريّة تتبدّى جليّة في الإلماعات الكثيرة إلى التوراة والتراثين المسيحي والإسلامي، ما يجعل هذه المجموعة ملحمة فلسطينيّة حافلة فعلا. يصف درويش نفسه هذه "الخلطة" العجيبة من الذاتي والتاريخي والأسطوري في المجموعة المذكورة، على النحو التالي: "على الفلسطيني أن يمرّ بالأسطورة ليصل إلى المألوف. أنا شاعر، وأنا أولا شاعر التفاصيل الإنسانية المألوفة. لكنني كنت دائمُا في سجال مع مبدأ التكوين. سجال أوقعني في البحث عن كتابة أسطورية للواقع اليومي أو الراهن الفلسطيني. من اليومي إلى الأسطوري. هذه الدورة لا تتم إلا بالعودة إلى أصلها. فهي من اليومي العادي إلى الأسطوري، فاليومي العادي البسيط مجددا. حتى في قمة استعاراتي الأسطورية كان هاجسي الفعلي كتابة البسيط والمألوف والعادي. همي أن أؤنسن النص الفلسطيني. ليست الأسطورة دائمًا مضادة للإنسان، ليست دائمًا كذلك. إنها هنا وجه لصراع ثقافي على كتابة نفس المكان. نكتب نحن الشعراء الفلسطينيين على مسمع من سفر التكوين، على مسمع من الأسطورة التامة والنهائية والمكرسة. [...] في مجموعتي الأخيرة لماذا تركت الحصان وحيدا؟ أعود إلى كلّ أغنياتي. إلا أنّ هذه الأغاني في تراكمها واتصالها ذات نبرة أسطوريّة. يعني أنّ الكتاب في مجموعه، إذا تمّت قراءته دفعة واحدة وبصورة متصلة، غناء ملحمي أسطوري يحمل اليومي في تفاصيله. نحن في حيرة لأننا في حال تاريخية نبدو فيها وكأننا محرومون من الماضي، وأحد الدوافع الإستراتيجية للكتابة الأسطورية محاولة إلقاء القبض على الماضي المرشح لأن ينقطع تمامًا عن أي صيرورة تاريخية".
في هذا السياق الأوتوبيوغرافي، إلى حدّ بعيد، يحتلّ أبو الشاعر بطبيعة الحال مساحة ذات شأن. فالأب هنا يبدو ممثّلا للحكمة والعدل بارزا، رغبة ربّما في تعويضه عن الصورة الجافية التي رسمها له ابنه الشاعر سابقا. كأنّما يعطي الشاعر بذلك "المتّهم" فرصة للدفاع عن نفسه، بطرح مقولاته بكلماته هو. على هذا النحو، تحفل المجموعة بمقاطع كثيرة في مواقف حواريّة بين الأب وابنه، من فترات مختلفة في حياتهما، مكتوبة وفقا للتقاليد القصصيّة، بحيث يتمكّن الأب من طرح "روايته" هو عن الأحداث التي أدّت إلى الهزيمة والرحيل في عام 1948.
فالأب هو من يقود ولده، والعائلة طبعا، إلى المنفى اللبناني، وهو أيضا من يقرّر العودة بهم إلى الوطن، وإن كان يتجنّب الإجابة عن تساؤلات ابنه في سبب رحيلهم عن الوطن في الماضي:
تحسَّسَ مفتاحَهُ مثلما يتحسَّسُ
أَعضاءه، واطمأَنَّ. وقال لَهُ
وهما يعبران سياجا من الشوكِ:
يا ابني تذكَّرْ! هنا صَلَبَ الانجليزُ
أَباك على شَوْك صبّارة ليلتين،
ولم يعترف أَبدًا. سوف تكبر يا
ابني، وتروي لمن يَرِثون بنادقَهمْ
سيرةَ الدم فوق الحديد...
ـ لماذا تركت الحصان وحيدًا
ـ لكي يُؤْنسَ البيتَ، يا ولدي،
فالبيوتُ تموتُ إذا غاب أصحابها..؟
كذلك يقدّم الأب، في هذه المجموعة، روايته هو عن الهزيمة في الحرب: كان للعدوّ تفوّق عسكريّ واضح، ما أدّى أخيرا إلى انتصاره عليهم، ورحيلهم عن البلاد:
ـ هل تُكَلّمُني يا أَبي؟
ـ عقدوا هدنة في جزيرة رودوس،
يا ابني!
ـ وما شأننا نحن، ما شأننا يا أبي؟
ـ وانتهى الأمرُ...
ـ كم مرّةً ينتهي أمرُنا يا أبي؟
ـ إنتهى الأمر. قاموا بواجبهم:
حاربوا ببنادقَ مكسورةٍ طائرات العدوّ.
وقمنا بواجبنا، وابتعدنا عن الزَّنْزَلَخْتِ
لئلا نُحرّكَ قُبَّعَةَ القائد العسكريّ.
وبعنا خواتم زوجاتنا ليصيدوا العصافير
يا ولدي!
تحفل هذه المجموعة بذكريات الطفولة البعيدة؛ ذكريات من قرية الشاعر والوطن، وبالحوارات المستفيضة بين الابن وأبيه، لكن ليس من شأننا هنا، في هذا المقال، أن نعرض لها بالتفصيل، رغم ما في ذلك، لا ننكر، من إغراء وإمتاع! مع ذلك، هناك ثلاث ملاحظات أخيرة لا بدّ لنا من تأكيدها:
1) في مجموعة لماذا تركت الحصان وحيدًا؟ يبدو كأنّما والد الشاعر هو من
اقترح وقاد الهجرة إلى لبنان، ومن حمل ولده على كتفيه، أيضا، في طريق العودة من لبنان إلى الوطن. إلا أنّ الجدّ بالذات هو من كان في الواقع مسؤولا عن رحيلهم إلى لبنان كما صرّح الشاعر نفسه:
* جدّك خرج معكم؟
- هو الذي أخرجنا. وكبقيّة الفلسطينيّين الذين خرجوا كان يظنّ أنّ الهجرة
مؤقّتة، وأنّها ليست أكثر من إخلاء الأرض للمعارك والجيوش فترة يعود بعدها إلى بلده وأرضه...
2) في بداية طريق العودة من لبنان، كان والد الشاعر من حمل ابنه على كتفيه،
حينما أحسّ الابن بالتعب، ولم يعد قادرا على السير. إلا أنّ الوضع يتغيّر
لاحقا: يعرق الأب ويأخذ منه التعب، فيقترح عليه ابنه هذه المرّة أن يحمله،
وبذلك ينتهي المشهد، بما في ذلك من دلالة رمزيّة واضحة إلى أنّ جيل الشباب، جيل المستقبل، هو في آخر الأمر من سيعيد الفلسطينيّين إلى وطنهم:
ـ يا أبي، هل تَعِبت
أرى عرقًا في عيونك؟
ـ يا ابني تعبتُ... أَتحمِلُني؟
ـ مثلما كنتَ تحملني يا أبي،
وسأحمل هذا الحنين
إلى
أوَّلي وإلى أَوَّلِهْ
وسأقطع هذا الطريق إلى
آخري... وإلى آخِرِهْ!
3) عرضنا في هذا المقال إلى الجانب الثيماتي من القصيدة الدرويشيّة فحسب. لكن لا شكّ في أنّ الجانب الفنّي لشعره؛ من مبنى محكم، وإيقاع مراوغ، وتناصّ غنيّ مركّب، ولغة مفتوحة على جهات شتّى؛ هذه جميعها جديرة بالنظر الطويل العميق الذي لا نقدر عليه في هذا الإطار هنا.
ختاما، يمكننا القول إن صورة الأب هذه في شعر درويش، بخلاف صورة الأمّ الثابتة في جوهرها، عكست في تحوّلاتها المذكورة مراحل واضحة في شعره، فكانت المرآة المثلى لتطوّر هذا الشعر في خطّ صاعد أبدا!
يتم الاستخدام المواد وفقًا للمادة 27 أ من قانون حقوق التأليف والنشر 2007، وإن كنت تعتقد أنه تم انتهاك حقك، بصفتك مالكًا لهذه الحقوق في المواد التي تظهر على الموقع، فيمكنك التواصل معنا عبر البريد الإلكتروني على العنوان التالي: info@ashams.com والطلب بالتوقف عن استخدام المواد، مع ذكر اسمك الكامل ورقم هاتفك وإرفاق تصوير للشاشة ورابط للصفحة ذات الصلة على موقع الشمس. وشكرًا!