ابتزاز اللوبي الاسرائيلي للساسة والسياسيين الاميركيين امر مسلم به، بل يذهب الى ابعاد مهينة في بعض المحطات
أصدر مركز الأبحاث الأميركية تقريره الذي تناول العلاقة بين ادارة الرئيس أوباما وتل أبيب، كما يتحدث عن وجهة التحولات الداخلية الأميركية، معتبراً أن انتقاد قادة اسرائيل للرئيس الأميركي لا يعني خسارة تلقائية في الإنتخابات الأميركية. فيمايلي نص التقرير:
ابتزاز اللوبي الاسرائيلي للساسة والسياسيين الاميركيين امر مسلم به، بل يذهب الى ابعاد مهينة في بعض المحطات. السيناتور اليهودي عن الحزب الديموقراطي شاك شومر، يتقدم كنصل السهم محاولات تخريب الاتفتاح الاميركي على ايران، ثمرة للمتغيرات الدولية ومساعي اميركا تقليص خسائرها الكونية، من موقعه المؤثر وبالغ الأهمية في عضويته بلجنة الشؤون الخارجية في مجلس الشيوخ ونفوذه الوسع في اوساط الجالية اليهودية. ثمة من ينكر ذاك الواقع والتحولات بالتزامن مع صعود قوى اقليمية، وتنامي قلقلها لا سيما دول الخليج العربي، التي فرضتها "استدارة" الاستراتيجية الاميركية الكونية بعيدا عن سياسة القطب الاوحد والاملاءات السياسية السابقة.
التهويل من قدرات ايران المتنامية اضحى "العفريت" الذي يؤرق القوى الاقليمية، سيما وان اسرائيل تدرك بدقة انشغال سورية في محنتها الداخلية، ومصر تشهد ايضا تحولات جارية تعيق قدرتهما معا على التحدي الفعال للهيمنة "الاسرائيلية" في المدى المنظور، بصرف النظر عن برود الالتزام باتفاقيات كامب ديفيد. ايران بالنسبة لاسرائيل هي العدو الماثل، عززها تصريحات متتالية لبعض اركان الاسرة السعودية بذات المضمون.
تصدعات في مسلمات سابقة
يدرك قادة اسرائيل وجهة التحولات الداخلية في الساحة الاميركية، وما تشكله من زعزعة الاعتماد والاستناد التلقائي على دعم لا محدود، شعبيا ومؤسسات حكومية. وبرز في الآونة الاخيرة بعض الامتعاض العلني داخل صفوف الجالية اليهودية نتيجة "استعداء وتحدي" بنيامين نتنياهو الادارة الاميركية بعيدا عن الكياسة الديبلوماسية وتنكرا لدور التابع للاستراتيجية الاميركية في الاقليم، كما يعتقد البعض. وقد اصاب الفرضية والمسلمات السابقة بعض الاهتزاز، سيما وان اصطفاف ودعم الجالية اليهودية والحزب الديموقراطي للسياسة الاسرائيلية بدى عليها بعض التصدع، ولا نقول نهائي.
ادرك الرئيس اوباما مبكرا ان المضي في ابرام اتفاق "مؤقت" مع ايران سيسبب له متاعب داخلية، بعضها من تيارات داخل الحزب الديموقراطي جنبا الى جنب مع معسكر الحرب والمحافظين الجدد، وما يمثلونه من مصالح ونفوذ. اللافت ان الاتفاق المؤقت لم يثر ردة فعل معارضة شاملة ومنظمة داخل اوساط الجالية اليهودية، كما درجت العادة، بل شكل فالقا لشق معارضتها على الرغم من رفض نتنياهو وحكومته للاتفاق جملة وتفصيلا.
اضحى الاستخفاف والاحتقار المتبادل بين الرئيس اوباما ونتنياهو مادة دسمة للصحافيين ومتابعين الشأن العام، والتي برزت على الملأ منذ بضع سنوات في احدى زيارات بنيامين نتنياهو لواشنطن، رافقها رصد بعض المراقبين مغادرة اوباما لقاءه المقرر مع نتنياهو والانصراف لتناول الطعام مع عائلته، بغض النظر عن دقة الرواية، الا انه ينطوي عليها مؤشرات ستطبع علاقتهما المضطربة لاحقا. بعد بضعة اشهر على تلك الحادثة، "ثأر نتنياهو" بوقاحة فاقعة بازداء النصح لاوباما في لقاء صحافي مشترك بالبيت الابيض مذكرا مضيفه بسياسة اسرائيل الثابتة حول الاستمرار ببناء المستوطنات وان "عمق اسرائيل قبل عام 1967 لم يتعدى 9 أميال (14.5 كلم) والتي لم تكن حدودا لارساء السلام، بل لشن حروب متتالية."
وتدنت العلاقة الثنائية مجددا في اواخر عام 2011 حينما نقل عن الرئيس الفرنسي السابق، نيكولا ساركوزي، قوله لاوباما "لا استطيع استساغة نتنياهو؛ فهو كذاب ومراوغ،" ورد اوباما عليه بالقول "انا مضطر للتعامل معه بوتيرة اكبر مما كان عليك القيام به."
انتقاد قادة اسرائيل لا يعني خسارة تلقائية في الانتخابات الاميركية
في ازمنة سابقة، كان نقد زعيم اسرائيلي علنا كفيل بترك تداعيات سياسية على مستقبل الرئيس الاميركي وخسارته لجولة الانتخابات المقبلة. اما الرئيس اوباما فقد فاز بولاية رئاسية ثانية بجدارة امام مرشح عن الحزب الجمهوري، ميت رومني، تربطه صداقة شخصية متينة بنتنياهو. وتفوق اوباما على رومني آنئذ بالفوز باصوات الولايات التي تقطنها جاليات يهودية كبرى: نيويورك، فلوريدا وبنسلفانيا.
يجدر التوقف امام ظاهرة انتقاد اوباما لبنيامين نتنياهو والفوز باغلبية الاصوات اليهودية في آن معا.
عدة عوامل تتحكم بذلك ذات ابعاد سياسية واجتماعية، لعل اهمها التحولات التي أثرت على اصوات الناخبين اليهود والجالية اليهودية بشكل أعم. من المفارقة ان الناخبين المؤيدين لاسرائيل يتواجدون بكثافة داخل اوساط الكنائس الانجيلية في الولايات الجنوبية تحديدا الاشد انحيازا لاسرائيل مما قد يجده المرء داخل مراكز التجمع والتعبد اليهودية – كما اشار عدد من استطلاعات الرأي في رصد تلك الظاهرة، ابرزها معهد "بيو" الذي افاد ان تطورا ما طرأ على مشاعر "اليهودي الاميركي العادي .. باستثناء اليهود الارثوذكس" من مختلف قضايا الشرق الاوسط.
ومضى الاستطلاع بالقول ان اليهودي الاميركي يعاني ازمة هوية يهوديته، واضحى منخرطا في البوتقة الاميريكية بصورة اكبر من انتمائه كيهودي. واضاف استطلاع "بيو" ان نحو 71% من اليهود من غير الارثوذوكس يتزاوجون باقران من غير اليهود، وزهاء 65% منهم لا يلتزمون بالشعائر اليهودية وارتياد الكنس؛ مما يؤشر على تباين واضح في "دعمهم الاعمى لاسرائيل."
وفيما يتعلق بآراء اليهود الاميركيين من اسرائيل، افاد "بيو" ان نحو 61% من اليهود يعتقدون بفعالية حل الدولتين "تعيشان بسلام جنبا الى جنب،" بينما اعرب نحو 54% من اليهود عن اعتقادهم بثبات معدلات الدعم لاسرائيل كدولة يهودية؛ وانتقاد زهاء 31% منهم الولايات المتحدة لما يعتقدونه بفتور دعمها لاسرائيل. الارقام المشار اليها تشكل صدمة للمشاعر السابقة طيلة عقود متتالية "بالدعم الاعمى واللامحدود لاسرائيل، والتي شهدت اشبه ما يكون بالتماهي بين السياسات الاسرائيلية وتوجهات الغالبية الساحقة من اليهود الاميركيين، والذي من بين مزاياه واعتباراته تحدر غالبية اليهود في اميركا من اصول اوروبية، اواسط وشرق اوروبا بالتحديد، على غرار معظم المستعمرين اليهود في فلسطين المحتلة. يذكر ان عددا لا باس به من يهود اوروبا هاجر الى فلسطين بهدف استعمارها منذ نهاية القرن الثامن عشر، اتوا من اراضي الامبراطورية الروسية القيصرية.
من ضمن العوامل التي ادت الى بعض التحولات الكبرى في العقدين الماضيين تباعد الفجوة بين اليهود السفارديم، الآتين من البلدان العربية، واليهود الاشكناز المهاجرين من دول اوروبية واميركية، وتشدد الاراء في المعسكرين. فالمسألة الدينية والتفسير اللغوي لها ومواكبتها مع متطلبات العصر ساهمت في اتساع الهوة بين الطرفين. فاليهودي الاميركي جنح بعيدا عن الالتزام الثابت بالتقاليد اليهودية القائمة على الانعزال والتشدد، مقابل تزمت وتشدد قادة اسرائيل وتمسكهم بحرفية النصوص الدينية. استطلاع معهد "بيو" افاد ان ميل اليهود الاميركيين نحو عدم الايمان والتشكيك بوجود بالخالق بلغ نحو ثلاثة اضعاف ازاء الفرد الاميركي العادي من المسألة عينها.
أثر السرديات التوراتية والاسقاطات الدينية
ثبات نفوذ المتشددين المتدينين من اليهود في الحكومات الاسرائيلية المتعاقبة اسهم في ابتعاد العلمانيين من اليهود الاميركيين عن السرديات التوراتية الكلاسيكية، ربما بفضل اسهامات المؤرخ شلومو ساند في كتابه "اختراع الشعب اليهودي،" (اصدار 2010) وكتاباته اللاحقة بذات المغزى ولماذ لم يعد يشعر بيهوديته، سبقه العلماني "يسرائيل شاحاك" في كتاباته الناقدة للاساطير اليهودية وخرافتها؛ وكذلك روجيه غارودي في كراسه "الاساطير المؤسسة للسياسة الاسرائيلية؛ "وتوكيدا على مقولة كارل ماركس في اسهامه "حول المسألة اليهودية،" 1843 ، نقتطف اشهر ما ورد فيه: "لا يجب أن نبحث عن سر اليهودي في دينه، بل فلنبحث عن سر الدين في اليهودي الواقعي ... ما هو الأساس العملي لليهودية؟ المصلحة العملية والمنفعة الشخصية...،" ويضيف الكراس: "المال هو إله إسرائيل المطماع... هذا هو الإله الحقيقي لليهود... وقومية اليهودي الوهمية هي قومية التاجر، قومية رجل المال."
تيار اليهود العلمانيين اقترب اكثر من سياسة مرنة تبناها بعض اقطاب الحزب الديموقراطي حول مسائل الشرق الاوسط، التي لا تبتعد عن جوهر السياسة الاميركية الثابة واولويتها في حماية اسرائيل، واثمر تنظيم مواز للوبي اسرائيلي تحت مظلة "جي ستريت،" يدين بالولاء لاسرائيل، ويحبذ انتهاج توجهات اكثر حرفية من المتشددين، وفاز بدعم اوساط يهودية معتبرة.
التحول اليهودي نحو الحزب الجمهوري
من خصائص الحزب الديموقراطي ان تراثه التاريخي يضعه في سياق متسامح وعلماني اكبر مقارنة مع خصمه الحزب الجمهوري – مع التأكيد ان الحزبين يتنافسان على تمثيل مصالح ذات الطبقة الرأسمالية بحماس منقطع النظير. ورأى البعض في امتعاض مندوبي مؤتمر الحزب الديموقراطي، 2012 لاعادة ترشيح الرئيس اوباما، من محاولة الزام المؤتمر بنقل السفارة الاميركية من مقرها في تل ابيب الى القدس مؤشرا على نفاذ صبر القاعدة الحزبية من سيطرة الخطاب الموالي لاسرائيل، وابتعادا عن روحية انفتاح الحزب – مقارنة بنقيض ذلك داخل اروقة المؤتمر العام للحزب الجمهوري الذي انعقد في فترة زمنية قريبة.
التقرب من كنه المستويات الحالية المؤيدة لاسرائيل تشير الى انها تجد ارضيتها الخصبة بين اوساط اليهود الارثوذوكس، لاسباب عقائدية واساطير تلمودية – والذين ربما يميلون الى دعم الحزب الجمهوري بوضوح اكبر؛ وكذلك بين الانجيليين من المسيحيين البروتوستانت الذين يمثلون حجر الرحى في دعم اسرائيل على الساحة الاميركية.
وقد دلت احصائيات معهد "بيو" على توفر نسبة دعم من بين البيض الانجيليين تمثل "ضعف مثيلتها بين اوساط اليهود،" 82% مقابل 40%، سيما لناحية الاعتقاد بأن "الرب منح الارض لاسرائيل." ويضيف "بيو" ان تلك الارقام تدل ايضا على تدني نسبة الايمان بالخالق بين اوساط اليهود 72%، مقارنة مع ايمان كافة الانجيليين تقريبا بوجود الخالق. واردف المعهد انه فيما يخص اعتقاد البعض بمنح الرب الارض لاسرائيل، فان نسبة اليهود متدنية ايضا اذ بلغت 55% مقابل 82% بين اوساط الانجيليين.
وعليه، استنادا الى استطلاعات "بيو" باستطاعة المرء استنتاج تأييد عدد اكبر من الانجيليين البيض البروتوستانت (69%) لسياسة اميركية تحابي اسرائيل أعلى من تلك بين اوساط اليهود الاميركيين (54%).
تداعيات الهجوم على مركز التجارة العالمي، 11 سبتمبر 2001، اسهمت في ميل المزيد من الانجيليين البروتوستانت البيض لتأييد سياسة اميركية مناهضة للعرب والمسلمين، لاعتقادهم ان الاعتداءات التي قيل ان تنظيم القاعدة وراءها كانت اعتداء على الهوية المسيحية بقدر ما كانت اعتداءا على الاراضي والمعالم الاميركية. وعزز خطل هذا الرأي هجمات قام بها متشددون من الجماعات الاسلامية المختلفة ضد المسيحيين في كل من مصر وسورية، مما فسح المجال مجددا لاسرائيل استغلال تلك الفجوة لصالحها وتعزيز اواصرها بمجموع المسيحيين الانجيليين.
ولاء الحزام الانجيلي اقوى
في المستوى السياسي، يتم ترجمة وتجسيد تلك المشاعر الى تأييد وجهة نظر اسرائيل دون مناقشة في اغلب الاحيان، سيما وان غالبية الانجيليين يظهرون نظرة اخف تفاؤلا من اليهود فيما يتعلق بآفاق التسوية السياسية للقضية الفلسطينية. واعربت اقلية من الانجيليين البيض، 42%، عن اعتقادها بقيام تعاون ما بين دولة فلسطينية واسرائيل، مقابل اعتراض 50% منهم؛ ودعم نحو 61% من اليهود لحل الدولتين.
تلك الارهاصات والتحولات الاجتماعية لم تغب عن اهتمامات القيادات الاسرائيلية، يجسدها الحفاوة النسبية التي يتلقاها بنيامين نتنياهو في ترحاله اينما حل على الولايات المتحدة وتصدر شبكة البث المسيحية للتلفزيون لاجراء مقابلات معه، مما يوفر له منصة لمخاطبة قاعدة مؤيديه من الانجيليين. يضاف الى ذلك عامل نشأته في الولايات المتحدة واتقانه مخاطبتها بسلاسة والتواصل مع القيم والعادات الاجتماعية السائدة.
في المحصلة العامة، يمكننا القول ان تحولا قد طرأ على المشهد السياسي الاميركي نحو اسرائيل. في السابق رافق المواقف السياسية العلنية المؤيدة لاسرائيل امتيازات سياسية لا سيما في ولايات اساسية: نيويورك، فلوريدا، بنسلفانيا، نيوجيرسي وولايات اخرى في الساحل الشرقي. في المقابل، حظيت تلك المواقف المؤيدة لاسرائيل بدعم وتأييد القاعدة الانتخابية في ولايات الوسط الشمالي الزراعية والولايات الجنوبية، معقل العنصرية سابقا والنفوذ الانجيلي راهنا.
هذا لا يعني بالضرورة ان سياسة تأييد الانجيليين البيض لاسرائيل هي ملاصقة للسياسات الاسرائيلية، بقدر ما كانت توجهات اليهود الاميركيين السياسية مرتبطة بالسياسة الاسرائيلية او ارتباط سياسة الحزب الديموقراطي بالسياسة الاسرائيلية. ما ينطوي على هذا التحول هو الاقرار بان النظرة الخارجية للسياسة الاميركية ينبغي عليها ادراك نقاط التقاطع والاختلاف بين القضايا التي تهم الانجيليين المسيحيين والسياسة الاسرائيلية.
التعليقات المنشورة لا تعبر عن رأي "الشمس" وانما تعبر عن رأي اصحابها.