قصة المماليك – خلفية تاريخية
محمد زكريا توفيق
ظلت دولة المماليك، البحرية والبرية، تشكل أكبر قوة عالمية، من عام 1250 إلى عام 1517م. حكمت مصر، وبنت امبراطورية عظمى. عاشت مدة أطول من عمر الامبراطورية البريطانية.
جل حكامها وسلاطينها، كانوا في الأصل صبيان. يتم شراؤهم من سهول جنوب روسيا، ثم ينخرط كل منهم في الجيش مباشرة، للتعلم والتدريب تحت إشراف أحد أمراء الجيش. بمرور الوقت، سيطر هؤلاء المماليك على الجيش، لكنهم تركوا شؤون الدولة الداخلية، للقادرين المدنيين غيرهم ، من المصريين والسوريين .
الفرسان المماليك، هم أعظم فرسان عرفهم العالم في تاريخه. تركوا لنا أعظم الآثار المعمارية، في شكل عمائر وقصور ومساجد ليس لها مثيل، منها مسجد السلطان حسن، الذي ليس له مثل في العالم.
نقص الموارد الاقتصادية، بسبب اكتشاف رأس الرجاء الصالح، وتحول التجارة بعيدا عن مصر، بالإضافة إلى الصراع السياسي على السلطة، كان سبب سقوط دولتهم، وهي مشكلة تشبه مشاكلنا المعاصرة.
في القرن السابع الميلادي، كان العالم القديم الممتد من حدود الهند إلى حوض البحر المتوسط، منقسما إلى جزءين: جزء يتبع الامبراطورية الرومانية الشرقية (بيزنطة)، وجزء يتبع دولة الفرس، العراق وإيران وأفغانستان.
إنها مأساة إنسانية حقا، أن نجد مثل هاتين القوتين العظمتين، لا يقنعان بما لديهما من ثروة وجاه. لكن بسبب الطمع والجشع، وربما الخوف أيضا، نجدهما كانا دائما في حالة حرب ساخنة أو باردة فيما بينهما.
من عام 602م إلى عام 628م، وهما في حرب طاحنة مميته. لم يجنحا للسلم، إلا بعد أن خارت قواهما معا واستهلكا وأوشكا على الإفلاس.
في هذا الوقت، ولد النبي محمد في مكة عام 570م. الجزيرة العربية بصحرائها مترامية الأطراف، لم تكن مطمعا لأي القوتين العظمتين، لذلك لم تكن تتبع أيا منهما.
بدأ النبي محمد في نشر دعوته عام 613م. عند وفاته عام 632م، كان الإسلام ينتشر في كل ربوع الجزيرة العربية. بعد وفاة النبي بسنة واحدة، قام العرب بمهاجمة القوتين العظمتين، وهما في حالة إجهاد، بعد حروب دامت 26 سنة.
خلال 80 سنة فقط، أزيلت امبراطورية الفرس بالكامل ، ووصلت الجيوش الإسلامية إلى الهند. بلغت شمالا، جبال القوقاز. ثم قام المسلمون بدحر جيوش بيزنطه، ودفعها إلى ما وراء جبال طوروس جنوب تركيا. قاموا أيضا باكتساح شمال أفريقيا. عبرت جيوشهم جبل طارق، وقاموا باحتلال إسبانيا، ثم غزوا جنوب فرنسا.
كانت المدينة هي عاصمة الامبراطورية الإسلامية الوليدة. في عام 661م، نقلت العاصمة إلى دمشق. في عهد الدولة الأموية، التي كانت حدودها تمتد من المحيط الأطلسي، إلى جنوب الصين.
في عام 750م، طرد العباسيون الأمويين من الخلافة، ونقلوا عاصمة ملكهم إلى بغداد، التي بناها الخليفة المنصور. الأمويون (661-750م)، كانوا محاربين غزاة. لكن عصر العباسيين، كان عصر الثروة والحضارة الإسلامية. بغداد، أصبحت أغنى مدينة في العالم. مثل مدينة الإسكندرية أيام حكم البطالمة.
الخليفة العباسي المتوكل، كان يمتلك 4000 جارية. القصور كانت مفروشة بالطنافس ومزينة بالثريات والحدائق الغناء والنوافير الرخامية. الخليفة كان حاكم العالم، لا يمكن أن يكون غير ذلك.
كان الرجال والنساء، يغطون في الذهب والجواهر. أسلحتهم مطلية بالذهب ومرصعة بالأحجار الكريمة. أعمدة القصور والأسقف والحيطان، كانت منقوشة بماء الذهب والفضة. الفارس منهم، كان سيفه وخنجره وسرجه ومهمازه ولجامه، مطلي بالذهب ومرصع بالجواهر. هذا يذكرنا بشعر المتنبي الذي يمدح به سيف الدولة، ويقترح عمل حدوة حصانه من الذهب الخالص:
تركتُ السرى خلفي لمن قل مالُه**وأنعلتُ أفراسي بنعماك عسجدا. (العسجد هو الذهب).
كما يحدث بالنسبة لكل إمبراطورية في التاريخ، وبدون استثناء، الثراء والجاه والسلطة، يتبعهم انحلال واسترخاء وحب المتعة وكره الكفاح والحرب. في البداية، بدأ العباسيون في تجنيد جنود مرتزقة من شرق فارس. بعد ذلك، بدأوا في تجنيد عساكر من قبائل الرعاة الأتراك، الذين كانوا يرومون السهول شمال البحر الأسود وحوض بحر قزوين.
هؤلاء الرعاه الجلاف المحبون للقتال، كانوا يعيشون معظم وقتهم على ظهور الخيل. لهم مهارة فائقة في رمي النبال، حتى وهم فوق ظهر الخيل وهي تركض بأقصى سرعتها. كان الخلفاء العباسيون منبهرين بقدرة وكفاءة هؤلاء الجنود الأتراك، الذي من الصعب هزيمتهم في أية حرب.
الخليفة العباسي المعتصم (832-842م)، كان لديه جيش عظيم من هؤلاء المرتزقة الأتراك. بمثل هذا الجيش، أمكنه هزيمة الدولة البيزنطية بالكامل. الخليفة المعتصم كان رجلا قويا، يتميز بشخصية مسيطرة.
لذلك، كان جيشه، من المرتزقة الأتراك، يدين له بالولاء الكامل. لم يكن أحد يدري، أنها بداية عصر الجنود المرتزقة الذي استمر أكثر من 1000 سنة. كونوا خلالها امبراطورية عظيمة.
بينما كان المعتصم يتعامل مع جيشه العظيم، المكون من المرتزقة الأتراك، بسهولة. الخلفاء الذين أتوا بعده، الواثق والمتوكل، كانا ضعيفين. الجنود الأتراك الأجلاف، كانوا يعاملونهم بقليل من الاحترام والتقدير.
في عام 861م، قُتِل الخليفة المتوكل في قصره على أيدي حرسه الخاص. ليس بهدف تغيير نظام الحكم إلى الأفضل، أو البحث عن حكومة مثالية، وإنما مجرد صراع داخل القصور على السلطة.
كان الخليفة المتوكل، المفتون لدرجة الجنون بمحظية يونانية، قد عين ابنه المنتصر خليفة له. لكن المحظية اليونانية، نجحت في اقناعه بتخطي ولي العهد، ابنه الأكبر "المنتصر"، وتعيين بدلا منه، ابنها "المعتز" وريثا للحكم. فقام الحرس التركي بقتل المتوكل، وتنصيب ابنه المنتصر خليفة على المسلمين. ربما كان ذلك بموافقة الابن.
هنا، نجد أن حفنة صغيرة من الحرس الأتراك، قامت بقتل خليفة المؤمنين، الذي يتربع على عرش العالم، وتنصيب آخر. فعلوها مرة، ويستطيعون فعلها مرات أخرى. إذن، أصبحوا هم القوة المحركة خلف نظام الخلافة في العصر العباسي.
منذ عام 847م إلى عام 974م، كانت بغداد في فوضى عارمة. السلطة كانت في يد الجنود الأتراك المرتزقة. خلال 127 سنة، قاموا بتعيين وعزل 14 خليفة. ستة منهم تم قتلهم. ثلاثة، خلعوا من الحكم وسملت عيونهم بمسمار محمي، وماتوا في السجن. خمسة فقط (تقريبا الثلث)، هم الذين ماتوا ميتة طبيعية.
لكن الجنود المرتزقة الأترك، لم يكونوا يحكمون كل الدولة الإسلامية. عندما علم ولاة الأقاليم أن الخليفة، ما هو إلا لعبة في يد الجنود المرتزقة الأتراك، شجعهم هذا على الانفصال عن الامبراطورية الأم، واستقل كل منهم بشؤونه وإقليمه. تاركين وسط العراق فقط للخليفة وجنوده المرتزقة. استمر هذا الوضع الغريب مدة 250 سنة.
أحمد بن طولون، قائد تركي عمره 33 سنة، أرسل من بغداد لكي يكون واليا على مصر عام 868م. بالرغم من أصله التركي، إلا أنه كان ضليعا في اللغة العربية وآدابها. قام بالاستقلال بمصر عن بغداد. ثم ضم إليه سوريا، وقام بالزحف على آسيا الصغرى. هزم الامبراطورية البيزنطية (الامبراطورية الرومانية الشرقية)، بالقرب من جبال طوروس عام 883م.
خلال العصر الذهبي لبغداد (750-861م)، كان طريق التجارة، من الصين والهند إلى أوروبا، يمر ببغداد. لكن، بسبب حالة الفوضى في بغداد، واستقرار دولة ابن طولون وعدله، تحول طريق التجارة إلى البحر الأحمر، مرورا بمصر. هذا هو بداية صعود نجم مصر، وأفول نجم بغداد.
قبائل الديلم، كانت تعيش جنوب بحر قزوين. في عام 913م، قاموا بغزوا غرب فارس. في عام 945م، استولوا على بغداد. رؤساؤهم يعرفون بالبوهيين. حكموا بغداد وغرب إيران من سنة 945م إلى 1055م. كانو شيعة المذهب.
في عام 910م، مع ضعف الخلافة في بغداد، قامت محاولة اسرجاع الخلافة إلى ذرية علي بن أبي طالب. فقام عبيد الله المهدي، بالاستيلاء على القيروان (تونس). ثم سيطر بعد ذلك على شمال أفريقيا، وكون الدولة الفاطمية. نسبة إلي فاطمة الزهراء ابنة النبي محمد.
في عام 969م، زحف جيش الفاطميين على مصر ، ثم سوريا. في عام 972م، دخل المعز لدين الله الفاطمي مصر، وأمر ببناء مدينة القاهرة (قاهرة المعز). بذلك نجد، بعد وفاة النبي محمد ب 340 سنة، ورثته ينقسمون إلى ثلاث دول حاكمة. الأمويون في الأندلس، والفاطميون في مصر والشام، والعباسيون في بغداد.
الأتراك الرعاة، أقارب الجنود االمرتزقة الذين يعيشون في بغداد، كانوا يهاجرون بسبب صعوبة الحياة والفقر في بلادهم إلى العراق وسوريا ومصر. في عام 1055م، قامت مجموعة من قبائل الرعاة الأتراك، بغزو البلاد العربية. كانوا يعرفون ب"الغز". لدينا مثل يقول: "آخر خدمة الغز، علقة". رئيسهم، "طوغرل بك"، من عائلة السلجق.
في نفس العام (1055م)، استولى طغرل بك سلجق على بغداد، التي كانت تحت حكم البوهيين الشيعة منذ 945م. لم يكن البوهيين الشيعة يعترفون بالخليفة العباسي في بغداد.
لكن طغرول بك السني، أعاد لمنصب الخليفة احترامه. حقيقة، السلجق كانوا يحكمون البلاد بدلا من الخليفة مثل البوهيين، لكنهم كانوا يفعلون ذلك، مع احترامهم للخليفة، كرمز روحي للمسلمين.
كما هو الحال، بالنسب لكل الدول والممالك، الأجيال الثلاثة الأول السلجق، أنتجت حكام ممتازين. مشهود لهم بالشجاعة والذكاء والجودة. لم يكن طرغل بك، أو ابنه ألب أرسلان، يعرفان القراءة والكتابة. لكنهما كانا محاربين صنديدين. ذكاء فطري، وسليقة لا تقيدهما بقوانين أو عادات متبعة. كانا يمارسان العدالة بالحس والحس، دون انتظار لمديح أو خوف من النتائج.
لمدة 438 سنة(633-1071م)، كانت الحدود الشرقية للامبراطورية البيزنطية، تتحدد بجبال طوروس، من البحر المتوسط إلى أرمينيا. إلا أن السلجق بقيادة ألب أرسلان، في عام 1071م، قاموا بهزيمة البيزنطيين هزيمة منكرة في موقعة مالازكرد.
ثم قام السلجق في أعقاب ذلك، بالسيطرة الكاملة على آسيا الصغرى (تركيا حاليا)، ووصلوا إلى مضيق البسفور، وأصبحوا في مواجهة القسطنطينية، استامبول حاليا. عندما توفى ألب أرسلان عام 1072م، خلفه ابنه مالك شاه.
فرع صغير من السلاجقة، أقام دولة مستقلة بآسيا الصغرى، عاصمتها نيقوسيا في قبرص، على بعد 15 ميل من القسطنطينية. في نفس الوقت، قام السلاجقة بطرد الفاطميين من سوريا، وجعلوهم يفرون إلى مصر.
مالك شاه، بخلاف والده وجده، كان متعلما تعليم أمراء. كان شغوفا بالعلوم والفلك. أقام مرصدا ضخما في إيران، كان يديره عمر الخيام، الفلكي والرياضي والشاعر المشهور، صاحب الرباعيات التي غنتها مترجمة السيدة أم كلثوم.
حُكْم مالك شاه، للأسف كان قصيرا، مات عام 1092م. كان من أحسن الملوك سيرة. يلقب بالسلطان العادل. كان منصوراً في الحرب، مغرماً بالعمائر. حفر كثيراً من الأنهار، وعمر كثيرا من البلدان .
أنشأ الرباطات والقناطر، كما عمرت في عهدهِ كلية الإمام الأعظم في بغداد. صنع بطريق مكة مصانع، وأنفق عليها أموالاً كثيرة خارجة عن الحصر، وأبطل المكوس والخفارات في جميع البلاد.
بموت مالك شاة، انتهى مجد دولة السلاجقة. ترك أربعة أولاد، أكبرهم كان عمره 12 سنة. سرعان ما قامت حرب أهلية بين قواده، صراعا على السلطة. هذا ما حدث أيضا بالنسبة لقواد الاسكندر الأكبر بعد وفاته.
هزيمة البيزنطيين في موقعة مالازكرد، ووصول السلاجقة إلى مضيق البسفور، أصاب عروش أوربا بالرعب. في الواقع، هذا الخوف من غزو المسلمين لأوروبا، استمر منذ عام 712م إلى عام 1092م، ما يقرب من أربعة قرون. كان الطريق إلى أوروبا، مغلقا في وجه المسامين، بالبيزنطييين وقلعتهم المنيعة في القسطنطينية.
لكن المسلمين ، قاموا بغزو أوروبا من الغرب عن طريق إسبانيا. بعد ذلك، قاموا باحتلال جنوب فرنسا. كذلك، جزر البليار بالقرب من إسبانيا، وجزيرة صقلية وجنوب إيطاليا وجزيرة كريت وبعض المراكز جنوب أوروبا. لذلك، كان وصول السلجق للبسفور، بمثابة كارثة حقيقية بالنسبة للأوروبيين.
لم تكن الدول الأوروبية في ذلك الوقت، دولا قوية تربط كل منها قومية واحدة، كما هو الحال الآن. عندما صرخ البابا طالبا النجدة لإنقاذ المسيحيين الشرقيين، لبى النداء أربع بارونات:
جودفري بولون، دوق لوثارينجيا (بلجيكا حاليا) ، ولورين.
بوهيموند، دوق أبوليا.
رايموند دي سانت جيليز، كونت طولوس وماركيز جنوب فرنسا.
روبرت، دوق نورماندي، الإبن الأكبر لوليام الفاتح.
استراتيجية الامبراطور أليكسيوس، كانت سرعة تحرير آسيا الصغرى، قبل أن تصل جيوش المسلمين إلى البسفور. لكن، هؤلاء البارونات، كانوا غير متعلمين، لا يعرفون القراءة والكتابة. وكانوا جهلة بمبادئ الجغرافيا، ليست لديهم خرائط أرضية، بالإضافة، أنهم لم يكونوا يصغون لخطة أليكسيوس.
كانوا يعرفون مدينة القدس، فقط عن طريق الإنجيل. تسيطر عليهم فكرة واحدة، وهي تحرير القدس من قبضة المسلميين. اندفعوا إلى آسيا الصغرى. مروا بها مرور الكرام، ولم يتركوا بها حامية تؤمن خطوط امداداتهم. هَزموا في طريقهم، الفرع الصغير من السلاجقة. ووصلوا إلى القدس في يوليو عام 1099م.
قام السلاجقة، بقطع خطوط الإمداد والمواصلات والمعلومات عنهم في آسيا الصغرى. وأصبح الصليبيون معزولين تماما عن أوروبا.
عندما أخذ الصليبيون القدس، تشاجرت بارونات أوروبا على الغنائم. جودفري، أصبح ملكا على القدس، بالرغم من رفضه للقب. بوهيموند ، نصب نفسه أميرا على أنطاكيا. ريموند، أصبح كونت طرابلس.
روبرت النورماندي، عاد إلى فرنسا. بالدوين البولوني، أخو جودفري، نصب نفسه على مقاطعة صغيرة تحت اسم، كونت إيديسا. بذلك، يكون الصليبيون أربع ولايات مستقلة غير متحدة.
من حسن حظ الصليبيين، أن السلطان مالك شاه، كان قد توفى عام 1092م، قبل مجيئهم ووصولهم إلى سوريا عام 1097م. كانت دولة السلاجقة في ذلك الوقت، تمزقها المنازعات الداخلية. لو كان مالك شاه حيا، لما استطاع الصليبيون دخول سوريا بأي حال من الأحوال.
مع انهيار سلطة السلاجقة، استولى أمراء الحرب الأتراك على حلب، وشمال العراق، والموصل، ودمشق. كانوا متنازعين مثل الصليبيين. لم ينجحوا في تكوين جبهة واحدة متحدة.
في عام 1127م، زنجي، ابن أحد عبيد مالك شاه الأتراك، أصبح حاكم الموصل. في خلال ثلاث سنوات، قام بضم إلى ملكه، نصيبين في حدود تركيا، وحران، وماردين وحلب من الحكام الأتراك، وكون من كل هذا، دولة موحدة تمتد من حلب إلى الموصل.
في عام 1137م، وعام 1139م، تدخل الامبراطور البيزنطي، جون كومنينوس، في سوريا لكي يوقف زحف تقدم زنجي. لكن، زنجي نجح عام 1146م في فتح إيديسا. وأصبح الصليبيون يسيطرون على ثلاث ولايات بدلا من أربعة. في نفس العام، 1046م، تم اغتيال زنجي. خلفه ابنه نور الدين محمود، في حلب. في عام 1159م، أخذ دمشق.
الصليبيون ونور الدين، كانوا تقريبا في نفس القوة العسكرية. الفاطميون في مصر، لم يكن يشتركون في هذه الحروب. وكانت مصر في ذلك الوقت، تزداد ثراء يوما بعد يوم بسبب التجارة العابرة.
نور الدين والصليبيون، علموا أن من يستطيع منهم الاستيلاء على مصر، يستطيع هزيمة الآخر. لذلك، نجد في عام 1169م، جيش نور الدين يذهب لكي يحتل القاهرة، بقيادة شيركوه. وهو من الجنود المرتزقة الأكراد. كان معه ابن أخته، صلاح الدين.
بعد ذلك بفترة قصيرة، في مارس عام 1169م، توفى شيركوه في القاهرة، وتولى أمر البلاد، صلاح الدين. في عام 1171م، أسقط الخلافة الفاطمية، وأصبحت مصر بكنوزها في يده.
في عام 1174م، توفى نور الدين في حلب، تاركا طفلا عمره 11سنة. زحف صلاح الدين على سوريا بجيش من الأتراك والأكراد المرتزقة، مسلحا ومدفوع الأجر بالثروة المصرية. في خلال عشر سنوات، كون صلاح الدين امبراطورية كبيرة، من حدود مصر الغربية، إلى شرق الموصل.
الصليبيون أصبحوا الآن تحت رحمته. في يوليو عام 1187م، قام صلاح الدين بتدمير جيش الصليبيين في موقعة حطين. في أكتوبر من نفس العام، أخذ القدس. وبمجئ صيف عام 1188م، لم يتبق للصليبيين سوى قلعة تير بالقدس.
سقوط القدس، كان صدمة شديدة للعالم المسيحي. في عام 1191م، نزل فيليب أوغسطي ملك فرنسا، في عكا. تبعه ريتشارد قلب الأسد ملك إنجلترا. بعد قتال استمر عام واحد، استرجع ريتشارد قلب الأسد الشريط الساحلي من يافا إلى تير، لكنه فشل في استرجاع القدس. فنقلت عاصمة مملكة القدس إلى عكا. توفي صلاح الدين في دمشق عام 1193م.
في الأصل، كان صلاح الدين من جنود الأكراد المرتزقة. أخوه الملك العادل، ورث عنه الامبراطورية. خلفه الملك الكامل الذي حكم من عام 1218م إلى 1238م. جاء بعده ابنه الملك الصالح أيوب.
دولة صلاح الدين، تسمى الدولة الأيوبية. أعطتنا ثلاثة حكام ممتازين. صلاح الدين، الملك العادل، الملك الكامل. تميزوا بالحضارة والشجاعة والعدل والإيمان.
أرسوا قواعد النهضة، والمساواة بين رعاياهم ومعاصريهم، في الشرق والغرب على السواء. شن الصليبيون ضدهم حملات من الغرب لاسترجاع القدس. لكن الأيوبيين نجحوا في صد كل هذه الهجمات.
الملك الصالح أيوب، ابن الملك الكامل، من جارية حبشية، كان حاكما ملتزما ملئ بالحيوية. لكنه لم يرق إلى مستوى السلاطين الأيوبيين الثلاثة السابقين. الكثير من أقربائه وأخواته وعمه وأولاد عمومته، رفضوا الاعتراف بسلطته. اعتلى السلطة في القاهرة عام 1240م.
الأيوبيون كانوا منقسمين على أنفسهم مثل الصليبيين. فرسان الهيكل الصليبيون، كانوا في صف الملك الصالح اسماعيل، عم الملك الصالح أيوب. تحالفوا معه وزحفوا جميعا على مصر. لكنهم هزموا بالقرب من غزة. فرسان الاسبتارية، وقفوا إلى جانب الملك الصالح أيوب.
في عام 1245م، أخذ الملك الصالح أيوب دمشق، ودعم إمبراطوريته من مصر إلى الجزيرة. في عام 1247م، ثار أمراء حماة وحلب، ضد الملك الصالح أيوب. بينما كان يناوئهم، جاءته الأخبار المفزعة بأن الصليبيين على وشك غزو مصر، فأسرع عائدا إلى مصر للدفاع عنها.
كان جيش الملك الصالح يتكون من عدة أجزاء. جزء يمثل حرسه الخاص المكون من 500 فارس، يلبسون الملابس الصفراء. جلهم من المماليك، الذين كان يتم شراءهم وتدريبهم عسكريا. وجزء، يتكون من الأكراد المرتزقة مثل الملك الصالح نفسه. باقي الجيش يتكون من المصريين والمتطوعين من العرب والأتراك وبدو الصحراء الرحل.
استخدام الحكام للأتراك كجنود مرتزقة، بدأ منذ 400 سنة من قبل، أيام الخليفة المعتصم. منذ ذلك الوقت، عندما كان يرغب الحاكم في تقوية جيشه، كان يلجأ إلى شراء صبيان المماليك من سهول جنوب روسيا وتدريبهم على القتال.
كان النخاسون يشترون الأطفال من هذه السهول من آبائهم، في سن بين العاشرة والثانية عشر. ثم يقومون ببيعهم في سوريا أو مصر للحكام أو الأمراء. هؤلاء المماليك، ليسوا عبيدا كما تعنى الكلمة حرفيا.
لأنهم يأتون طواعية، برضاهم ورضاء أهليهم، طلبا لحياة أفضل، وبحثا عن فرصة لتعليمهم وتدريبهم على الفروسية واقترابهم من السلطة. لم يكونوا أبدا مثل العبيد، يباعون وهم مصفدين بالأغلال أو مربوطين بالسلاسل في أرجلهم مع بعض. كان في مقدورهم الهرب أثناء سفرهم وترحالهم إن أرادوا.
مصر الدولة الغنية، كانت تمثل بالنسبة لهؤلاء الصبيان الرعاة الفقراء، جنة الله على الأرض. كانوا يتخيلون شوارعها مرصوفة بالذهب الخالص. كانوا فرسان مقاتلين بالطبيعة والوراثة. كان التجار، بعد شرائهم، يدربونهم على السمع والطاعة، وعلى استخدام السلاح.
بعد بيعهم إلى الحاكم أو الأمير، يستمر تدربهم على ركوب الخيل واستخدام السيف والدرع والقوس والنشاب ورمى الرمح. عندما يتم تدريبهم ويصبحون قادرين على القتال، يتسلم كل منهم سلاحه وفرسه. الأمير الذي يملكهم، هو المكلف بإطعامهم ودفع مرتباتهم.
في المقابل، يكون ولاءهم للأمير الذي قام بشرائهم. عند موت الأمير، يصبح المملوك حرا طليقا. يفعل بنفسه ما يشاء. يهجر الفروسية إن أراد، أو يعمل بالتجارة أو الزراعة. الولاء هنا للأمير المالك فقط، وليس للدولة أو الوطن.
عندما وجد الملك الصالح أيوب عرشه يهتز. في مواجهة تهديد الصليبيين وأقربائه الغير مخلصين. ولكي يقوي جيشه، قام بشراء الصبيان من السهول الشمالية الشرقية. معظمهم من قبيلة "قفجاق" التركية، التي دمر بلدهم المغول.
مماليك الملك الصالح أيوب، لم يكونوا يزيدون عن 1000 مملوك. لكن جلهم كانوا يتميزون بالولاء والطاعة له. بنى لهم ثكنات في جزيرة الروضة بالقاهرة. وحيث أنها تقع في نهر النيل، والنيل يسميه المصريون "بحر". لذلك يسمى هؤلاء المماليك "المماليك البحرية".
الأخبار التي جعلت الملك الصالح أيوب يعود من سوريا، هي حضور لويس التاسع ملك فرنسا لغزو مصر. كان لدى الملك الصالح بعض الوقت، لتجميع قواته وحشدها في المنصورة عام 1249م. في نفس الوقت، نزل جيش لويس التاسع في مدينة دمياط.
بينما كان الملك الصالح أيوب في سوريا، أصيب بمرض السل. الآن اشتد به المرض وبلغ مرحلة متقدمة. لكنه بالرغم من ذلك، أظهر شجاعة وطاقة لا تكل. بعد ذلك، رقد في فراشه يحتضر.
جيشه الضخم، كان يتجمع بالمنصورة. هناك، نصبت خيمة، وضع فيها السلطان المحتضر. زوجته الوفية "شجر الدر"، كانت تقوم بتمريضه وهو في النزع الأخير. في يوم 23 نوفمبر 1249م، توفى الملك الصالح أيوب. بعد ذلك بيومين، زحف الصليبيون من دمياط لمواجهة جيش الملك الصالح المتوفي.
كان للملك الصالح ابنا، توران شاه. كان بعيدا في حصن كيفا (مدينة في تركيا الآن). لا يستطيع الحضور قبل شهرين أو ثلاثة. بذلك، تكون "شجر الدر" قد تُرِكت وحيدة مع جثة زوجها، في وضع لا تحسد عليه، والصليبيون على الأبواب ينتظرون ساعة الهجوم.
قامت هذه السيدة العظيمة، بإخفاء خبر موت السلطان. وبادرت بإعطاء الأوامر باسمه. كان يأتي القواد إلى خيمتها، فتعطيهم أوامر السلطان مكتوبة ومختومة باسمه. وكان توقيعه يتم تقليده بأحد العبيد بالخيمة.
في ديسمبر 1249م، وقف لويس التاسع بجيشه على الضفة الغربية لأحد فروع النيل (البحر الصغير)، في المنصورة، في مواجهة الجيش المصري على الضفة الشرقية.
في ليلة 7 فبراير، بدأ جيش لويس التاسع يعبر القناة. المياة كانت عميقة والأرض كانت طينية زلقة. على حين غفلة، عبر جزء من الجيش الصليبي وسارع في مهاجمة المصريين. الذين أخذوا على غرة.
إلا أن الجيش المصري بقيادة المماليك البحرية، قام بالهجوم المضاد، وأباد القوة الفرنسية المهاجمة. عندما نجح باقي الجيش الفرنسي في العبور، وجد كامل الجيش المصري في انتظارهم.
في 11 فبراير، قامت معركة بين الجيشين دون أن ينتصر أيا منهما. في نفس الوقت، قطع المصريون خطوط الاتصال والإمداد بين الجيش الفرنسي وسفنه الراسية في ميناء دمياط. فأصابهم الجوع، وانتشر بينهم مرض الدسنتاريا.
بدا لويس التاسع ينسحب مع جيشه في الخامس من شهر أبريل، لكن في اليوم التالي، هجم عليهم المصريين، فهزموا هزيمة منكرة. أسر ملكهم لويس التاسع، ولم يجدوا بدا من التسليم.
في 28 فبراير 1250م، وصل توران شاه. هنا فقط، أعلنت شجر الدر موت الملك الصالح أيوب. كان الملك الصالح، يرفض تولية ابنه توران شاه خليفة له. الوريث الشاب، بدأ يتصرف بغباء وحمق كبيرين.
أحضر مجموعة من أصدقائه الشبان من سوريا، عاقدا العزم على توليتهم إمارة الجيش وقيادته، وتسريح قادة المماليك البحرية الذين ساهموا في نصر الجيش المصري على الصليبيين. كان أيضا، دائم الشجار مع شجر الدور، يتهمها بإخفاء ثروة وجواهر الملك الصالح. كما أنه، كان دائم السكر كل ليلة مع أصدقائه.
في أول مايو 1250م، بينما كان توران شاه في استراحة بمدينة فارسكور، دخل بيبرس، قائد المماليك البحرية، والذي قاد الجيش المصري ضد لويس التاسع، خيمة توران شاه، هدد السلطان الجديد ولوح له بسيفه البتار. صرخ توران شاه، مدعيا أن المماليك البحرية تحاول قتله.
علم المماليك البحرية، أن السلطان لو سلم من هذه المحاولة، سوف يقوم بإعدامهم والتخلص منهم جميعا. لذلك، قرروا موته. فهجم بعضهم على خيمته. لكنه ولى الأدبار، ورمى نفسه في النهر. لكنهم تبعوه وقتلوه. بذلك، يكون الحمق والسفه، هو سبب نهاية الدولة الأيوبية، التي أسسها العظيم صلاح الدين الأيوبي.
لعدة أيام، ظل الجيش المصري في حالة فوضى. كان المماليك يرغبون في إعدام الأسرى الفرنسيين. بعد مفاوضات مكثفة، قبل المماليك اطلاق سراح الملك لويس التاسع والأسرى الفرنسيين، نظير دية تقدر بمليون دينار ذهب. في 7 مايو 1250م، أبحر لويس التاسع ومن بقى من جيشه، من ميناء دمياط إلى عكا.
zakariael@att.net
التعليقات المنشورة لا تعبر عن رأي "الشمس" وانما تعبر عن رأي اصحابها.