عمر سعد شاب درزي وعازف كمان "فيولا" موهوب يرفض التجنيد في جيش الدفاع الاسرائيلي. هل الضجة التي يثيرها موقفه تبشِّر ببداية مَوجة احتجاج من قبل هؤلاء الذين يشعرون بأنّ إسرائيل عزلتهم عن أخوتهم العرب، أم أنّ هذه الظاهرة تمثّل شابا كاريزميّا جارفا ولكنه لا يمثل الكثيرين؟ الإجابة تتعلّق بمن يوجَّه السؤال إليه.
شقّت طريقها من قرية المغار الى سجن عتليت، وهي مغطّاة بالمخمل البوردو ومطرّزة بأطراف ذهبية، ولكن الشرطة العسكرية في سجن6 قالت بشكل قاطع إنها ممنوعة من الدخول. مالكها عمر سعد، رافض الخدمة العسكرية من أصل درزي، كان قد توقع أمرا كهذا، ولكنّ خيبة الأمل بالرغم من كل ذلك بدت على وجهه حال تجمَّد أمامه في باحة الزيارات والده "زهر الدين" واثنان من اخوته، مصطفى وغاندي، وتركوها خلفهم لوحدها في قمرة الحارس: أوضح عمر قائلا: "لم يحدث من قبل أن فارقتُها لفترة طويلة". بعدها نظر الى أظافره التي أصبحت طويلة بشكل وحشي خلال الأسابيع الثلاثة التي كان مسجونا خلالها، وتنهد قائلا: "على أيّة حال فأنا لا أستطيع أنْ ألمسها كما يجب وأنا في هذه الحالة".
اسمها "فيولا"، وهي ترافقة منذ سبع سنوات، ملتصقة بحضنه خلال سفراته الى معهد الموسيقى في شفاعمرو ثلاث مرات في الاسبوع، 40 كلم في كل اتجاه. احتار عمر فيما اذا نوى أن يطلق عليها اسما أكثر حميميا، "ولكنني في النهاية قررت بأن أُبقي اسمها هكذا لأنّ النغمة التي تحتويها كلمة "فيولا" ترنّ بشكل جميل على السّمع". المقارنة بين آلة موسيقية عبارة عن صندوق خشبي له أربعة أوتار وبين حبيبة، قد تبدو لمن يسمع ذلك عن بعد بأنّها مقارنة قسرية ومقحمة، ولكن عمر اختار ذلك من تلقاء نفسه. "لن أجد بعد الآن فتاة تثيرني كما "الفيولا". يحمرّ خجلا.
حملة الفيولا:
كانت المرة الاخيرة في 4/12/2013 وهو تاريخ دعوته، محذّرينه بضرورة القدوم للتجنيد قبل هذا التاريخ بأسبوع. ومع ذلك فالقرار بالرفض كان منذ سنة ونصف عندما استلم الأمر الأول بضرورة التجنيد. وكتب قائلا: "أنا أرفض التجنّد في جيش الدفاع الاسرائيلي (الاختصار المعروف بالعبرية هو تْسَاهَلْ-راضي) ولأي جيش آخر لأسباب ضميرية ووطنية. أكره الظلم وأنا ضد الاحتلال. إنّني أشمئز من التعصب وسلب الحريات. أنا أكره من يعتقل أطفالا وشيوخا ونساء.. أنا من طائفة تُمارَس ضدها التفرقة بواسطة قانون تمييزي. كيف لي أنْ أحارب ضد أقربائنا وأبناء عائلاتنا في فلسطين وسوريا والأردن ولبنان؟ كيف لي أنْ احمل السلاح ضد اخوتي وأبناء شعبي الفلسطيني؟ كيف لي أنْ أكون جنديا يخدم في حاجز قلنديا او في حاجز آخر من حواجز الاحتلال، وقد عانيت من ظلم الحواجز؟ كيف لي انْ أمنع ابن رم الله بأن يزور القدس مدينته؟ كيف لي أنْ أحرس جدار الفصل العنصري؟ لن أكون وقودا لنار حربكم ولن أكون في جيشكم". أَرسَلَتِ المؤسسة له ردا مقتضبا، ولكن الدراما الحقيقية حدثت في الفضاء الافتراضي الإنترنتي. بعد ساعات قليلة من نشر الرسالة في الفيسبوك، انضم حوالي 2000 شخص لمجموعة كان عنوانها "ندعم عمر سعد"، وبفضل رد الفعل الفوري لهذا النص، دعي لكي يلقي خطابا في اجتماع لرافضي التجنيد لأبناء الأقليات الذي أقيم في الناصرة. هناك، ومن على المنبر مزّق بشكل تظاهري أمر التجنيد الأول أمام جمهور من مئات الحاضرين الذين صفَّقوا له وهتفوا مشجِّعين.
عندما حان موعد إجباره على ارتداء الزي العسكري اختار بأنْ يعبِّر عن احتجاجه بطريقة مهذّبة أكثر. مَثَل في مكتب التجنيد في طبريا مع الفيولا، بمعيّة أخويه الصغيرين مصطفى (عازف كمان رئيسي) وغاندي (عازف كمان مرافق) وأخته طيبة (عازفة تشيلو)- يشكّلون مع بعض "رباعي الجليل"- وعزف معهم مقابل بوابة القاعدة العسكرية موسيقى من وحي عيد الميلاد. وبالإضافة الى العائلة وصل الى الحفل الموسيقي العشرات من الحضور: رجال دين، أكاديميون وناشطون سياسيون الذين رافقوه منذ إعلانه عن رفضه للتجنيد، الى جانب ممثلين عن وسائل الاعلام الذين سمعوا من قبل عن هذا النشاط الحار.
وبعد نهاية عزف المقطوعة الموسيقية قرأ سعد مرة أخرى رسالة الرفض مع هتافات تشجيعية له، ودخل من بوابة مكتب التجنيد كبطل، وحُكِم عليه في الحال بالسجن لـ 20 يوما، مُدِّدت لـ 20 يوما أخرى إضافية، وهكذا حُسِم أمله بأنْ يكون في البيت في ليلة عيد الميلاد وأن يعزف في حفلة رأس السنة التي يقيمها المعهد الموسيقي في شفاعمرو.
في الأمسية ذاتها قدّم جميع المشاركين في الحفل فقراتهم على منصة كنيسة الكاثوليك في شفاعمرو، ما عدا "رباعي الجليل" التي قرَّرت عدم انتداب بديل لعازف الفيولا الغائب، ونذرت نفسها بالصمت الى حين يتحرر عمر من الخدمة في "تساهل". ولكن الجميع شعروا بحضور سعد معهم ولو بشكل رمزي، وعندما اعتلى مدير المعهد الموسيقي المنصة وروى حقيقة غياب التلميذ المتميز كان هنالك 500 شخص يصفّقون له بحرارة وباحترام.
كان جمهور الكنيسة جمهورا محدودا، ولكن الجبهة التي فتحها العازف الموهوب مقابل الجيش اتخذت دوائر أوسع بكثير من محيط جمهور الكنيسة. في مجموعة الدعم في الفيسبوك يوجد الى اليوم 10 آلاف إنسان، وبضمنهم الممثلة "ميرا عوض" والناشط "الأخ الأكبر" سابقا "ساعر سكلي" والمؤرخ والناشط الاجتماعي بروفيسور غادي الغازي، وهو على علاقة متواصلة مع العائلة. في وسائل الاعلام الإسرائيلية السائدة لم يتم التطرق كثيرا الى قضية عمر ولكن في العالم يبدون اهتماما بالغا فيه. مخرج افلام وثائقية فرنسي يرافقه منذ مدّة طويلة، وايضا شبكات البث العربية أرسلت مندوبيها الى الحفل الموسيقي المرتجل في مكتب التجنيد، حيث كان الى جانب طاقم الجزيرة الممأسسة نسبيا حضر أيضا مندوبون من شبكة الميادين اللبنانية المتطرفة، وايضا معهد الموسيقى الفلسطيني على اسم "ادوارد سعيد" في رام الله، الذي ينتمي عمر لفرقة الشبيبة الموسيقية التابعة له،وأصدر المعهد منشورا فاخرا مع صورة عمر وهو يمسك الفيولا، وفيه نص رسالة الرفض المشهورة التي كتبها. ومن الجدير بالذكر أنّ هذه الرسالة حصلت على إعجاب وشهرة وانتشار سريع وتُرجمت لتسع لغات من بينها الإيطالية والفرنسية وحتى اليونانية، بفضل علاقات عمر مع عازفين من أنحاء العالم. منذ سجنه، هنالك تناوب احتجاجي تظاهري بشكل دوري ايام السبت مقابل السجن. حاليا لا يوجد لدى والديّ عمر الكثير من الوقت لكي يشتاقوا لابنهما البكر، لأنّ بيتهما تحوّل الى مقر حجيج لوفود من الوسط الذين يأتون للدّعم.
منذ إعلانه الرفض وصل مندوبون من القرية المجاورة "عرابة"، ومجموعة من "بيت جن" وزعماء كبار من الطائفة الدرزية. مندوبون من سخنين والناصرة ويانوح-جت ودالية الكرمل تواجدوا بشكل تظاهري منذ أن أعلن عمر عن نيته بالرفض، ويواصلون زيارة البيت ايضا خلال تواجد عمر في السجن. ايضا جمهور الجبهة الديمقراطية للسلام والمساواة يدعمونه، وبضمنهم عضو الكنيست "حنين" الذي اتصل لكي يقدّم المشورة لكونه أباً لرافض خدمة لأسباب ضميرية.
عمر ليس الفتى الدرزي الأول الذي يعلن رفضه للتجنيد لأسباب ضميرية، ولكنّ قصته تضخَّمت لتصل الى درجة الحملة، ولم يكن هنالك أي عائقبأنْ تساهم الفيولا مساهمة جمّة. وخلال مكالمة تليفونية بيننا قال عمر عندما أُتيحت له إمكانية استعمال التليفون العمومي، وكرَّر تعويذته ايضا عندما وصلتُ لزيارته هناك: "أنا لست على استعداد بأن أُبدّل آلتي الموسيقية المسالمة، بآلة أخرى قد تقتل البشر".
له عينان كهرمانيتان كبيرتان، عريض المنكبين، وينطق بنغمة عميقة وخافتة، ما يحوّله الى فتى الْمُلْصَق المتكامل للناشط المسالم، حتى وهو محنّط ببقايا الزيّ العسكري الأمريكي الْمُرقّط المعروفة، المخزّنة في مخازن الأسر. وبجعله كممثل لهذا النوع من المشاعر، وايضا إنْ لم يكن من الممكن الاستنتاج من ذلك بتغيير اتجاهات طائفته، هنالك قدر كبير من الرمزية بسبب المكان الذي أتى منه: من قرية المغار العالقة بالوعي الاسرائيلي كونها بيت عزّام عزّام، الدرزي الذي سُجن في مصر بتهمة التجسس لصالح إسرائيل، والذي عاد ملفوفا بعلم أزرق- ابيض، وأشعل شمعات شمعدان اسرائيل خلال مراسيم احتفالها بعيد استقلالها.
عمر، ابن القرية ذاتها، هو الصورة النقيضة لعزّام، وليس بسبب رفضه الخدمة، وانما بسبب مشاعر الانتماء التي يتحلى بها، فهو ينهل من نعمة التفاضل من إسرائيل. ليس عجيبا إذن من وعيه لحقيقة "التكامل مع الفضاء العربي"، أن يدخل الى مكتب التجنيد وهو يرتدي قميصاً مختوما بشعار: "برافر لن يمرّ"، كَرَدّ على القانون الذي يُشكِّل نقطة خلاف، والذي يقضي بتنظيم أماكن سكن للبدو. قال في ساحة الزيارة: "أحد القادة في الكتيبة قال لي، انا أعجب لكونك درزياً، إنّها المرة الأولى التي أرى فيها درزيا يرفض التجنيد. المؤسسة مقتنعة بأنّ كل الدروز يريدون التجنيد، وإننا لا نعمل مشاكل، بأنّ فتى درزيا ولد لكي يخدم ثلاث سنوات في الجيش بدون نقاش. أقنعونا عبر سنوات طويلة بأننا لسنا عربا ولكننا في نهاية المطاف فنحن عرب".
لطخة سوداء..
قبل أسبوعين تم لقاء مستعجل لمجموعة جديدة، "شباب دروز ضد الخدمة العسكرية"، في مقهى "شْترودِلْ" في حيفا التحتا، كرد على سجن ثلاثة آخرين من رافضي الخدمة لأسباب ضميرية من الطائفة الدرزية، بالضبط قبل أيام. أحدهم وهو "سيف أبو سيف" مسجون في سجن6 مع عمر، ولكنه مسجون في سجن انفرادي. الاثنان الآخران من سكان شفاعمرو مسجونان في سجن4. قبل حوالي سنة تمّ اجتماع في البقيعة دعت اليه لجنة المبادرة الدرزية، وهي منظمة تطالب بإلغاء التجنيد الاجباري للدروز، وبمشاركة حوالي 200 شخص، وبعدها عُقدت ندوات مقلّصة في "واحة السلام". هذا هو الحدث الذي من خلاله تأسس منتدى الشباب. هؤلاء الشباب هم الذين يدفعون باتجاه تجذير الوعي لخيار الرفض. ومن النشيطات في هذا المنتدى "روان اغبارية"، وهي ايضا محامية عمر سعد. تقول اغبارية: "ليس من قبيل الصدفة بأنّه يوجد الآن مجموعة من الرافضين المعلن عنهم، وهم يدعمون بعضهم البعض، ولكن الرفض يحصل دائما. الآن نسمع عن ذلك أكثر لأنّ قصة عمر أصبحت مدعومة بتقنيات التواصل. من الجدير التأكيد بأنّ قسما من هؤلاء الذين يلجؤون الى"ضابط الصحة النفسية" ويُطلَق سراحهم بموجب بند "العائق النفسي"، يتحركون ايضا بسبب دوافع آيديولوجية، ولكنهم لأسباب اجتماعية وغيرها فإنهم لا يصرّحون بذلك."في لقاءات مقهى "شترودل" يوجد فتيات نشيطات أخريات منهن "ميسان حمدان" من عسفيا، وهي طالبة أدب عربي وتاريخ شرق آسيا في جامعة حيفا و"هادية كيّوف" من عسفيا، وهي طالبة حقوق وعلم نفس في جامعة حيفا، ومن الشباب "هشام مهنا" من البقيعة، وهو طالب حاسوب، و"رأفت حرب" من بيت جن، وهو طالب عِلم نفس في جامعة حيفا- وكلاهما رفضا التجنيد في السنوات المنصرمة. بالنسبة لرأفت حرب لم يكن الرفض مفهوما ضمنيا.
يقول حرب: "لديّ سبعة أخوة أكبر مني وجميعهم خدموا في الجيش، وقسم منهم ضباط، أحدهم برتبة نقيبوقد اشترك في حرب لبنان الثانية. اليوم الحالة هادئة، ولكنني لمدة طويلة اعتُبرت نقطة سوداء في العائلة. فقط أخي الصغير حذا حذوي ورفض الخدمة بعد أنْ نجحتُ في التأثير عليه". ايضا البنات يتصارعن مع البيئة القريبة، بالرغم من أنّهن لسن ملزمات بالخدمة العسكرية. تقول حمدان: "إنّ تدخّلي في موضوع الرفض بدأ سنة 2008 عندما هاجم جيش الدفاع الاسرائيلي غزّة في حملة "الرصاص المصبوب" ووصلتُ الى مدرستي، وهي مدرسة أورط في عسفيا، وأنا ألتَحِف كوفية سوداء وبيضاء كتضامن مع الشعب الفلسطيني. ليس فقط أنّهم منعوني من الدخول الى المدرسة، بل إنّ التلاميذ، وحتى بعض المعلمين، نعتوني بالإرهابية. الاحتكاكات تَحدث يوميا. أعَزّ أصدقائي في القرية هو ضابط في "تساهل"، اذن فمن الواضح أننا نتحاور كثيرا".
قذائف بركانية صغيرة..
القليل من التاريخ: الخدمة الاجبارية في الوسط الدرزي بدأت منذ سنة 1956 ولكن ذلك بعكس الأسطورة التي تقول بأنّ الدروز استجابوا لذلك بحماس، حسب مقولة دكتور "هليل كوهين"، وفقط رُبْعُهُم انضموا للخدمة بإرادتهم الذاتية في أوائل تلك السنة. في كتابه "عرب طيّبون" كرّس كوهين فصلا لـ"عرب الدولة اليهودية"، وفيه يوجد وصف للوسائل التي انتهجتها الدولة لكي تفرض التجنيد: حملات خاصة لملاحقة الرافضين، اعتقالات، فتح ملف جنائي وإطلاق سراح فقط بعد أن عبَّروا عن استعدادهم للتجنيد، الى جانب أوامر منع التجمهر والاحتجاج من قبل رافضي التجنيد. وبعد حملات وحشية للقبض على المتهربين من دالية الكرمل وعسفيا أَرسَل عشرات الشيوخ من الطائفة الدرزية رسالةً الى وزير الدفاع، فَصّلوا من خلالها حججهم لرفضهم الخدمة الإجبارية. ذكروا في الرسالة: "اولا نحن عرب، والعربي لا يحارب أخاه العربي في ايّة ظروف او اي مكان".
الا أنّ الخوف من انشقاق داخلي عربي لم يثْنِ المؤسسة عن موقفها، على العكس. يقول "كوهين" مقتبسا، لكي يثبت ذلك من وثيقة للكتيبة الدرزية، حيث تقال الأمور بشكل واضح: انقطاعهم عن العالم العربي كان هدفا مركزيا للتجنيد، وليس نتيجة متأتية عن ذلك. إنّ تأثيرها المباشر(لكتيبة الأقليات) كان تقريب الطائفة الدرزية وربطها بنا، وتخريب العلاقات بين الدروز والمسلمين في اسرائيل والتشكيك بالعلاقة مع الدروز في الخارج. إنّ "مشروع الفصل" حُفِّز سنة 1957 مع اعلان الدروز كطائفة دينية مختلفة. سنة 1961 حصلت الطائفة على اعتراف قانوني كمجلس ديني، وبعد سنة صودِق على قانون المحاكم الدرزية وأقيم نظام قضائي خاص بهم. "قيس فرّو"، وهو بروفيسور في التاريخ من جامعة حيفا، كتب عن الجهود التي قامت بها المؤسسة الاسرائيلية لكي تهجّن النبي شعيب-"محمد الدرزي"- مع يترو التوراتي، كرمز للعلاقة التاريخية، والمقصود بالعلاقة بين الدروز واليهود. كان لدى النخبة الدرزية والسلطات الاسرائيلية مصلحة مشتركة لتشجيع طقس عبادة فريد من نوعه، والذي رافق ظهور عقيدة متخيّلة، وكنتيجة لذلك، فإنّ أماكن صغيرة حُوّلت الى أماكن عبادة كبيرة وأشكال من الفعاليات والأعاجيب تمّ تبنّيها كمواعيد مقدسة لدى الدروز".
وبتوصية من لجنتين معينتين من الكنيست والحكومة، قررت وزارة المعارف والثقافة سنة 1975 الفصل بين "التربية الدرزية" و"التربية العربية". أُعدّ من أجل ذلك منهاج تعليمي جديد يحوي التقاليد والتاريخ والثقافة الدرزية، لكي يتم تجذير وعي درزي-إسرائيلي لدى الدروز. وبالتدريج استُبدل المعلمون المسلمون في المدارس الدرزية بمعلمين دروز.
وبالمقابل وعلى التقيض، فالدولة ايضا في سنواتها الأولى عندما قررت مصادرة أراضي الدروز في الجليل، انما هي ساهمت في استفاقتهم لأنّ مصدر رزقهم من الأرض قد سُلب منهم، وكثيرون منهم بحثوا عن عمل لهم من خلال انضمامهم الى صفوف الجيش والشرطة وحرس الحدود والخدمة في السجون.
بدا وكأنما هذا الإجراء قد أُكمل على ما يرام، و"رابط الدم" أصبح حقيقة منجزة. يتفاخرون في مؤسسة الجيش حتى يومنا هذا بالدافع القوي للخدمة لدى الطائفة الدرزية، وبناء على المعطيات التي قَدّمها الناطق بلسان جيش الدفاع الاسرائيلي تصل نسبة المتجندين الى 82% (أعلى من الأشخاص المتجندين من عدد السكان الكلي، التي هي 75%) والى 57% صالحون للقتال (بالمقارنة مع 45% من مجمل عدد السكان). ويضيف الناطقون بلسان الجيش أنّ "أبناء الطائفة الدرزية يشكّلون جنودا من الدرجة الأولى، وهم يقاتلون جنبا الى جنب مع جنود من مجمل طبقات المجتمع الاسرائيلي، وفي السنوات الأخيرة بقيت نسبة التجنيد في الجيش على ما هي عليه."
ولكن بالمقابل فإنّ تقديرات لجنة المبادرة الدرزية هي أنّ نسبة الشباب الدروز الذين يكملون الخدمة الى نهايتها يصل الى أقل من 50%. إنّ جيوب المعارضين الرئيسيين موجودون في البقيعة ويركا، بينما في قرى مثل جولس وحرفيش فإنّ نسبة التجنيد عالية نسبياً. يقول رئيس لجنة المبادرة الدرزية: "إنّ الأعداد التي يقرّرها الجيش لا تأخذ بالحسبان دروزا يصرِّحون عن أنفسهم كمتديّنين، او كهؤلاء الذين يتظاهرون بالجنون ويُطلق سراحهم بناء على "بروفيل 21(درجة دنيا تدل على خلل نفسي لدى المطلوب للتجنيد-راضي). هذا الأمر لا يلقى صدى إعلاميا، ويحاولون التغبيش على ذلك ، ولكن الرفض يتَّخذ أبعادا جدّية وبأعداد ملحوظة."
في الجيش ينكرون هذه الادِّعاءات بشكل مطلق، ويقول مسؤول عسكري كبير :"إنّ نسبة المجنَّدين تشكّل غطاء لكل المرشحين للخدمة الأمنية، وهذا يشمل هؤلاء الذين اعتُرِف بهم كمتدينين، وإعفاء بسبب مشاكل جسدية او نفسية. وبالمجمل فإنّ الرفض لدوافع ضميرية هي ظاهرة مقتصرة على فئة معينة وقليلة جدا في الدولة. ومن بين بعض العشرات في كل سنة يمكن أنْ نجد أحيانا واحدا او اثنين او خمسة دروز، بالضبط كما يمكن إيجاد مثل هؤلاء في قطاعات أخرى من السكان."
على ما يبدو فإنّ النقاش عن المعطيات أمرٌ ميؤوس منه، ولكن دلالات توجّهية يمكن أنْ نلاحظها في الجدال الأكاديمي. في منتدى أُقيم خلال مؤتمر في هرتسليا سنة 2012 تحت عنوان "العامل الاجتماعي للمناعة الوطنية" من قبل "مركز دراسات الأمن الوطني" في جامعة حيفا، عرض البروفيسور "غابريئيل بن دافيد" ودكتور "إيلان لفين" ودكتور "دفنا كانتي" ما هو "مقياس الوطنية" بين الدروز. المقياس الذي فحص كم يؤيد الدروز مقولة "أنا أحب إسرائيل وفخور بها" موجود في أدنى مستوى منذ بدء القياس لذلك سنة 2000. استنتج الباحثون انه يوجد اتجاه واضح لا لبس فيه بتناقصٍ مُمَنْهج في إخلاص المجموعة الدرزية لإسرائيل.
ومن خلال مسح شعبي للجنة المبادرة الدرزية قام به بروفيسور "ماجد الحاج" ودكتور "نواهض علي" من جامعة حيفا سنة 2009 تبيّن انه يبدو أنّ 36% من الدروز يؤيدون تَرْك مسألة التجنيد الإجباري لدى الدروز على ما هي عليه، بينما 47% أجابوا بأنّه يجب جعل التجنيد مسألة تطوعية و17% قالوا بأنّه يجب إلغاؤه كليا. مع ذلك فإنّ الذين أُجريت المقابلات معهم في هذا المسح يشير الى أن تلاحم الدروز وتواجدهم في مواقع رئيسية يؤثر إيجابيا على علاقتهم مع الدولة، وأن 70% منهم نوّهوا بأن تعيين ضباط من الطائفة الدرزية يساهم في تشكيل هذه العلاقة.
متلازمة أفيف غيفن..
لا يبدو في الأفق ظهور احتجاجٍ درزيٍّ منظَّم قد يصل الى الغليان، ولكن من حين لآخر تُسجّل انفجارات بركانية محدودة. سنة 2009 تظاهر مئات من الدروز مقابل مكتب رئيس الوزراء، كوقفة احتجاجية على التمييز في الميزانيات وإهمال المناطق السكنية، وكان مَن حذّر من اندلاع "انتفاضة درزية". وبعد أسبوع تصاعدت الهبّة ورافقها حرق إطارات وإغلاق مفارق طرق في شوارع الشمال. حتى "رفيق حلبي"، وهو صحفي وموظف تلفزيوني سابقا، وهو اليوم رئيس مجلس محلي دالية الكرمل، والذي أكل من خبز المؤسسة، نشر في "هآرتس" مقالا بعنوان " دولتي تتنازل عني"، احتجاجا على المماطلة في حل قضية الأراضي التي صودرت من الدروز بدون إعطائهم تعويضات مناسبة. كتب حلبي محذِّرا من كارثة قادمة قائلا: "أيامٌ صعبة تمر على العلاقات بين الدروز وممثلي السلطة، وهذا ينعكس سلبا على ثقة المواطن بحكومته، وللأسف بدولته".
الدكتور "يسري خيزران" من معهد "فان لير" ابن الطائفة الدرزية الذي نَشَر في المدة الأخيرة بحثا عن الطريقة التي غَبّشت بها سلطات التعليم في إسرائيل على علاقة الدروز بالمجتمع العربي، يدّعي بأنّ المنطقة تشي بحركة بحث عن تصليح الوضع. يقول خيزران: "مَن قاد هذا الحراك كان "عزمي بشارة" الذي حاول أن يُخرج الدروز من الفقاعة، فقد أخذ وفودا الى سوريا لكي يثبت أنّ لهم تواصلا مع محيطهم، وأن يكونوا جزءا من الأمة العربية، فهذا ليس بالأمر الرهيب، ولكن المصدر الرئيسي والهام لهذا التوجه كان المؤسسة الاسرائيلية. استفاق الدروز ورأوا بأنه بعد مرور 60 سنة، فإنهم خسروا معظم أراضيهم. معظم بيوتهم مبنية بدون ترخيص، ومن يمثِّلهم على المستوى الأكاديمي قليلون جدا. التجنيد العسكري ربما ساعد أفرادا، ولكن لم يُرَقِّ الطائفة بشكل جماعي، وهذا أدّى الى الارتباط بالشعب الفلسطيني والتأكيد على الهوية العربية".
منتدى التفعيل الذي اجتمع في مقهى "شترودل" هو لحد كبير ناتج عن هذه الفكرة الضاغطة، مع العلم بأنه ليس واضحا كم هو يمثّل من الناس، مع الأخذ بالحسبان بأنّ المجتمِعين في مقهى شترودل مكوَّنين في الأساس من طلاب معظمهم من جامعة حيفا. تقول "اغبارية" وهي إحدى النشيطات فيه وتعارض التلميح بأنّ هذه المجموعة مقتصرة على فئة معينة متميزة ومترفعة على الشعب: "نحن لسنا فئة نخبة منعزلة ومحدودة من المثقفين. أنا لست درزية وانضممت لأنّ هذا جزء من نضالي كفلسطينية. هذه مجموعة متنوعة، وأناس من حالات اجتماعية اقتصادية متنوعة، ولسنا جميعنا من خلفية أكاديمية. الحديث هنا عن مجموعة جديدة منفتحة، والتي تصوغ هويتها التفاعلية. العامل المشترك هو أننا جميعا واعون للتاريخ الحقيقي، والمشترك بيننا هو في هذا المكان".
تتدخل كيّوف وتقول: "ولكن ليس بمفهوم التضامن. جميعنا مررنا النكبة ذاتها. الصراع شامل من أجل الشعب الفلسطيني وليس متعلقا بما يسمى "إسرائيل". ايضا اللاجئون في غزة والضفة هم اخوتي. دولة إسرائيل انتهجت سياسة فرِّق تَسُد، وخلال سنوات نجحت في الفصل بين الدروز والشعب الفلسطيني. نحن نعيد هذا الوصل من جديد". يقول "عطا فرحات" الذي يرئس "المجلس الصهيوني الدرزي من أجل أرض إسرائيل"، وهي حركة من ضمن أهدافها تشجيع التجنيد لـ"تساهل"، ولزرع قيم صهيونية بين أبناء الطائفة الدرزية، يعارض هذه الأفكار: "هذه أفكار يروَّج لها من قبل مجموعة هامشية على هامش الهامش، مكونة من أناس محبَطِين لم يجدوا لهم مكانا في المجتمع الإسرائيلي. لا معنى لهم، وهم بالضبط يُشبهون تنظيمات مهووسة في اليسار اليهودي. معظم أبناء الطائفة الدرزية يخدمون في "تساهل"، ينحنون للعلم ويخدمون الدولة بدون اي شرط". يضيف فرحات، وهو ضابط في جيش الاحتياط، وخدم في قسم المدفعية: "لا يوجد خطوات مثل "فلسطنة" المجتمع. نحن دروز، نقطة. صِلَتُنا الوحيدة مع العالم العربي هي اللغة العربية. اذا أردنا إعادة كتابة التاريخ، فإنّه في ال48 كان هنالك عصابات إرهابية فلسطينية ارتكبت مذابح بحق الدروز. لذلك فإنّ الطائفة الدرزية سارت مع السكان اليهود عن شعور بالتمييز والمصلحة المشتركة. الصهيونية انتصرت وسوف تنتصر الى الأبد".
"أمير خنيفس"، وهو باحث في شؤون الأقليات ودكتور في شؤون العلاقات بين دولة إسرائيل والدروز في جامعة لندن يوافق بأنّ أحداث التمرد العربي الكبير التي خلالها عانى الدروز من بطش الارهاب، أثّر على الدروز لكي يقرروا "اختيار طرف". وبالمقابل فهو يعارض إظهارهم كطائفة سلبية وضعيفة". صحيح أنّ الأحداث شكّلت صدمة صعبة للطائفة الدرزية، والتي استُغلّت جيدا من قبل الحركة الصهيونية، ولكن هذا يعني أنّه من تلك النقطة فصاعدا أصبح الدروز محسوبين في جيب إسرائيل. الدروز وجدوا في الدولة فرصة وإمكانية لحياة أكثر طبيعية، وقرروا، لأسبابهم الشخصية، أنْ يقفزوا الى العربة".
"خنيفس" هو في الأصل من شفاعمرو، وقد قُتل والد جدّه في الأحداث، وجدّه "صالح خنيفس" كان عضو الكنيست الأول، ينكر وجهة النظر السائدة بأنّ النقاش يدور حول دوافع نابعة من إسرائيل". صحيح أنّهتوجد للدولة مصالح خاصة بها، ولكن هنالك خطأ مقصود في التحليل الذي يكتفي بهذه الناحية، وهذا التحليل لا يأخذ بالحسبان وجهة نظر الأقلية. لا يمكن الادّعاء بأنه فقط بسبب تلاعب المؤسسة يوجد آلاف من الطائفة الدرزية تطوّعوا للوحدات العسكرية الممتازة. في قرى معينة هنالك اكثر من 40% ممن حصلوا على مراكز وظيفية مميزة كان بسبب خدمتهم في الأمن، وأناس ناضلوا من أجل الحفاظ على وظائف في الخدمة العسكرية الدائمة(קבע). صحيح أنّ الدولة أرادت أنْ تَشِمَ الدروز كفئة مستقلة بذاتها، ولكن هذه الخطوة كانت مرتبطة بالاعتراف بهم، وهذا ما كان مربحا جدا من ناحيتهم. الانتداب البريطاني لم يتِح للدروز هذا الامتياز. وما دون ذلك، فعندما نفسّر التصرف السياسي للدروز يجب أنْ نذكر بأنّ هويتهم كانت عائلية او دينية، ولكنها ليست وطنية او قومية. ومن هنا فإنّ تحالفهم مع الحركة الصهيونية لم يكن مرتبطاً بخيانة لهوية قومية أخرىوالتنازل عنها".
وماذا بخصوص التربية لصالح الحكاية الإسرائيلية؟
"يبدو الأمر بالنسبة لي طبيعيا جدا. هل تَعرف دولة تُثَقِّف التلاميذ ضد نفسها؟ يجب الأخذ بالحسبان بأنّ جهاز التعليم الإسرائيلي هو الذي أنْبَتَ من داخله الكثير من الأكاديميين الدروز. حتى سنة 1960لم يحدث أمر كهذا، أكاديمي درزي. الآن يوجد 700 أكاديمي في بيت جن لوحدها". خنيفس الذي خدم في وحدات المظلّيين يحكي بأنّ أصداء ظاهرة "عمر سعد" وصلت الى لندن، ولكنه يطلب أنْ تؤخذ بالحسبان."هذا الشاب استغل الميديا لأنه فنان، لأنه جميل، ولأنه يعرف كيف يسوّق مقولات حادّة. حسنا هذا شرعي، وهذا يذكّرنا بالضجة التي أثارها "أفيف غيفن"(مغني اسرائيلي مشهور-راضي) في حينه. ولكن من هنا وحتى حركة الرفض فالمسافة بعيدة. صحيح أنّ الجيل الجديد تربى على واقع آخر حيث يقارِن نفسه مع حالة الشباب اليهود، ولكن اذا كنا بعد 66 سنةمتعلّقين بعازف موهوب واحد، بينما في المقابل يوجد ثلاثة قرروا رفض التجنيد- انا أظن أنّ الأمر غير منطقي بالنسبة للأكثرية الصامتة الذين يتجندون بأعداد كبيرة ويريدون التأقلم مع المجتمع".
الرفض عن طريق الإرضاع:
عند مدخل بيت عائلة سعد عند سفح مرتفعات قرية المغار زُرعت أشجار اللوز والحمضيات. أشجار المندرينا هناك يطلِق عليها الأب "زهر الدين" اسمها باللغة الروسية "مانداريناي"، متأثرا من السنوات التي درس فيها لِلَقَبِه الجامعي الثاني في الفلسفة والعلوم الاجتماعية في جامعة كييف، حيث أوفِد الى هناك من قبل الحزب الشيوعي. غرفة الصالون تطل على بحيرة طبريا، وفي يوم شتائي يمكن مشاهدة البحيرة عبر الشبّاك وهي تحتسي المياه. الفضاء ذاته مغمور بكؤوس الجوائز والميداليات وشهادات التقدير في كل أشكال مفتاح صول، والتي تُظهر للعيان المواهب الموسيقية لأولاده الأربعة.
يطلب الأب من ابنه الثاني الكمنجاتي مصطفى، (16 سنة) بأن يعرض موهبته فيعزف مقطوعة جذابة من أوبرا "La vidabreve” للموسيقار "مانويل دي فايا"، أحد تلاميذ "شوبان". بعدها يأتي دور "طيبة" أخت مصطفى الصغيرة ابنة ال13 سنة، وتعزف على التشيلو، ولكنها تظهر براعتها على آلة أخرى، آلة حنجرتها بصوت صافٍ. من بين نغمات هذا الكونسيرت المرتجل تضج قعقة الطناجر والمقلايات من طرف الأم "منتهى" التي تدخل وتخرج بحذر شديد من الباب لكي لا يعبق الصالون بروائح الطعام. كِلا الوالدين هما مربّيان. سعد يعمل كمرشد للشبيبة الذين في ضائقة، والأم تعمل كمعلمة روضة، ولكن حياتهما مركّزة على أولادهما. أربعتهم أُرسلوا للدراسة في مدرسة "مار يوسف"، وهي مدرسة ثانوية خاصة في الناصرة( يقول مصطفى: والداي نقلانا الى هناك لأنهما لم يريدانا أن نتربّى في جهاز تعليمي يربّي جنودا وسجّانين وخَدَم سجون) وفي معظم أيام الاسبوع يسافرون من المدرسة مباشرة الى المعهد الموسيقي في شفاعمرو، وهناك ينتظرهم الوالدان مع وجبة ساخنة، وفي نهاية اليوم يقلّانهم الى البيت.
الى الآن يبدو أنّ الاستثمار مربح. دُعي عمر للعزف في مراسيم وحفلات مختلفة في مسقط رأسه المغار وفي كرميئيل وشفاعمرو، ودعي الى حفلات موسيقية في الخارج. وبضمن كل ذلك فقد عزف في "ألبرت هول" في لندن، ورافق أخويهليعزفا الى جانب "نايجل كنيدي"، وهو عازف فيولا وكمان بريطاني، وهو فنان مبدع في مجاله، ويعدّ الأقرب الى "الروك ستار" في الموسيقى الكلاسيكية المعاصرة. وبما أنّ الأمر متعلق بالأب فإنّ رفض ابنه عمر للتجنيد يُعدّ حلقة أولى في سلالة فاخرة.
وماذا لو أن أحد أبنائك قرر أن يتجنّد؟
"آخذه بدوري الى مكتب التجنيد وأقول للجيش- لديكم الآن ابن جديد، ومنذ هذه اللحظة أنا متنازل عنه وهو لن يكون ابني بعد الآن. ومن طرفي فليكن جنديا منعزلا". الرفض الدرزي، اذا كان هنالك فعلا، هو في كثير من الحالات أمر عائلي. سنة 1998 نُشرت في جريدة "هآرتس" قصة الشيخ "جمال معدي" من قرية يركا، وفي حينه كان رئيس لجنة المبادرة الدرزية، الذي رفض جميع أبنائه التجنيد لأسباب ضميرية. ومنذ ذلك الحين نجح رافض رابع ابن معدي بأن يرفض الخدمة ويطلق سراحه.
أيضا "محمد نفاع" من بيت جن، عضو كنيست سابق من قبل الجبهة الديمقراطية للسلام والمساواة وهو ايضا أديب، ويعدّ منذ سنة 1961 من أوائل رافضي الخدمة من الطائفة الدرزية، وافتخر بميراث فاخر لأربعة أبناء حذوا حذوه ودفعوا الثمن بالسجن لفترات طويلة ومتتالية.
الأمر ذاته ايضا بالنسبة لـ"أجود زيدان" من بيت جن، وهو طالب في العلوم السياسية والرياضيات في جامعة حيفا الذي رفض سنة 2010 وأُطلق سراحه بعد أن سُجن لمدة نصف سنة. يمزح قائلا: "في بيتنا نحن نرفض الخدمة الإجبارية بالرضاعة. انا كبرت في بيت شيوعي، ووالدي كان من أوائل الذين رفضوا التجنيد، واثنان من اخوتي ايضا رفضوا. لم تكن لدي بالمرة اي صراعات داخلية مع هويتي، ومنذ الأزل كنت مدركا بأنّني عربي فلسطيني".
هذه ليست كحالة "يامن زيدان" (لا علاقة مع أجود زيدان)، الذي تربى على أسطورة الخدمة في "تساهل"، الذي كان في الوحدات القتالية، وحتى انه فقد أخوين له أكبر منه سنا في الجيش. الأول كان جنديا في حرس الحدود خلال عمليات عسكرية في الانتفاضة الأولى، ومع مرور تسع سنوات سقط أخوه وكان ضابطا في وحدة "غولاني"، حيث كان يخدم في لبنان. ولقرب موت الأخ الثاني لتاريخ بداية تجنّده، حصل زيدان على إعفاء من الخدمة. قُبل للتعليم الأكاديمي في مجال المحاماة، وبالمقابل عمل في خدمة مصلحة السجون كسجّان في سجن "هداريم". يحكي زيدان قائلا: "هناك تعرفت على قصص الأَسرى الأمنيين وعن طريقهم اكتشفت هويتي الفلسطينية. علاقتي الأولية معهم كانت مصابة بوصمة العار وبالناحية العاطفية، وبالطبع مع حقيقة أنني فقدت أخوين اثنين. ولكنني اكتشفت أنّ القصة الإسرائيلية التي يحكونها عنهم لم تكن بالضرورة صحيحة. تعرفت على أطباء ومهندسين ومفكّرين ومثقفين من الذين تنازلوا عن الكثير من أجل الدفاع عن قضيتهم."
ترك "زيدان" الخدمة في مصلحة السجون، وأكمل دراسته في الحقوق، واليوم يعمل في وزارة شؤون الأسرى لدى السلطة الفلسطينية في رام الله- الدرزي الوحيد هناك- ويقوم بالدفاع عن الأسرى الأمنيين ذاتهم. يُعدّ زيدان أحد الناطقين الأشداء ضد ما يسميه "إجراءات الأسرلة والصهينة التي يحاولون فرضها على الدروز. تسعى السلطات لمحو هويتنا. هنالك طبقة كاملة هويتها كاذبة. ببساطة دروز بدون قومية، وبدون اي شيء. على الشاب الدرزي أنْ يكتشف جذوره بقواه الذاتية، وهنالك الكثيرون لم ينضجوا لذلك في سن الـ 18".
عمر، كما هو معلوم، نضج منذ مدة طويلة، والآن هو ينتظر بأنْ ينضج الاعتراف لدى "تساهل" لكي يعترفوا بأنهم لا يحتاجونه. منذ أنْ سكتت آلته "الفيولا" فهو يستمع الى النغمة التي تغيظه "صباح الخير قسم الأعمال، 30 ثانية ، قف بالطابور"ويتلوه إيقاظ الساعة الخامسة فجرا. وبفضل مزاجه الهاديء فقد ضمّوه الى "الكتيبة أ"، وهي "للجنود الطيبين" الذين لا تجري عليهم مراقبة شديدة. يومه العادي يشمل أوامر لانهائية للخدمة الدورية في المطبخ".
يقول عمر: "بالنسبة لي فهذه تعدّ نزهة". وحتى انّه لا يتذمر بالنسبة للطعام، ولكن عند زيارتنا له هناك انقضّ على طبخة محاشي ورق الدوالي التي أرسلتها له أمه من البيت، الى أن انتبه الجنود الى العلبة ومنعوه من الأكل، مدّعين بأنه ممنوع إدخال الطعام المطبوخ الى منطقة السجن. عمر يائس من إيجاد منطق في الجهاز العسكري ("كل واحد هنا يريد أنْ يظهر بأنّه الأقوى وأنّ له وظيفة في السلطة، ولذلك فبدلاً من الحديث فإنهم يصرخون") ولكن حادثة محاشيأوراق الدوالي تتحدى حافة انكساره."انا لست متهرباً ولست فرارياًاو مجنوناً، ولكنني رافض لأسباب ضميرية، وسوف أبقى على هذا الخط الى النهاية، حتى ولو أدى ذلك بأن أبقى هنا لمدة طويلة جدا".