من دون الدخول في مقاييس مصطلحات النصر أو الهزيمة وما بينها من مفردات لتقييم نتائج الحرب الإسرائيلية على غزة، يمكن القول إنّ النموذج الذي اختارته إسرائيل للحياة في المشرق والذي أسماه عزمي بشارة نموذج الدولة الصليبية (يمكن أن يسمى أيضا الموديل الإسبرطي الاستعماري). هذا النموذج قد فشل فشلا ذريعًا. سيكون لهذا الفشل نتائج بعيدة المدى على علاقات القوة بين الفلسطينيين وإسرائيل وكذلك بين إسرائيل والعالم. أهم ما حدث في هذه الحرب هو أنه على أسوار غزة أو في أنفاقها تحطم هذا النموذج وعرف أقوى خامس جيش في العالم حدود قوته وقد ضعفت قوة الردع التي تمتع بها وقد جرى ذلك ليس أمام جيش مواز له في الحجم والقوة وليس أمام دولة مماثلة في المساحة والعمق والموارد، وإنما أمام قطعة صغيرة الحجم من فلسطين محاصرة برًا وجوًا وبحرًا في حالة اقتصادية واجتماعية وسكانية يرثى لها هي قطاع غزة، ولكنها تتمتع بإرادة قوية وعزيمة لا تلين على المقاومة وعدم الاستسلام.
هذه النتيجة تقود إلى وضع إستراتيجي جديد لو استثمر فعلا قد يقود إما لإنهاء الاحتلال وتحقيق الاستقلال الوطني وفق قرارات الشرعية الدولية وإما للمقاطعة والعزلة الدولية ولمحاكمة مجرمي الحرب وهذا الأخير مطلب يجب ألا يتنازل عنه الفلسطينيون في أي سيناريو محتمل.
ما بعد الحرب على غزة لن يكون كما قبلها.
هذا صحيح في كل الجبهات وعلى كل المحاور: الفلسطيني - الإسرائيلي الخارجي والدولي والعربي، وكذلك الفلسطيني - الإسرائيلي الداخلي. وتحليل المتغيرات المحتملة بتأثير هذه الحرب في كل محور يحتاج إلى مقال كامل. أختار اليوم البدء بتحليل ووضع تصور للفلسطيني - الإسرائيلي الداخلي وذلك في ظل الوثيقة التي أصدرتها لجنة المتابعة أول من أمس الأربعاء وبتوقيع معظم مركباتها حول دعم مطالب المقاومة وإعلان موقف واضح من قضية الوحدة الوطنية الفلسطينية ومن التشديد على الانتماء للشعب الفلسطيني وقضيته وإلى قضايا الصراع برمته.
وثيقة وتحرك جيد على خلفية الفراغ في القيادة الجمعية.
الحقيقة أن الوثيقة لم تتطرق إلى الأوضاع التي تمر بها علاقات الفلسطينيين باليهود في الداخل والموجة العنصرية الموبوؤة التي يمر بها المجتمع اليهودي والمقاطعة الاقتصادية التي يعاني منها العرب نتيجة ذلك. إن إصدار الوثيقة من قبل المتابعة مع ما يتعرض له المجتمع الفلسطيني في الداخل من مخاطر عديدة نتيجة هذه الحرب وتوغل الخطاب والممارسات العنصرية للحكومة الإسرائيلية يجعلنا نضع مواضيع المحور الفلسطيني الداخلي في مقدمة النقاش ونطرح الأسئلة حول ماذا نحن فاعلون إزاء ما كشفته هذه الحرب من ضيق في مساحة وهامش الحرية التي تتيحها المواطنة الاسرائيلية ومن مخاطر جمة تعرض لها الأفراد الذين واجه المئات منهم الضغوطات حتى الفصل في العمل ومن تحديات تواجهنا كمجموعة قومية كما تبين من المقاطعة الاقتصادية ومن التعرض الجسدي والتحريضي والملاحقة القانونية للقيادات السياسية.
على هذه الخلفية لمسنا في الأشهر الأخيرة منذ بدء أعمال الاحتجاج على مقتل الطفل الفلسطيني المغدور محمد أبو خضير وحتى الآن شعورا غاضبا عند مختلف الفئات خاصة الشباب والنشيطين المسيسين على أداء القيادات عبرت عنه انتقادات لاذعة للجنة المتابعة العليا وذلك بالأساس نتيجة الفراغ في الدور القيادي للأقلية الفلسطينية الذي من المفروض أن تلعبه لجنة المتابعة.
وكما ذكرت، إضافة إلى فقدان الثقة والانتقادات اللاذعة التي تتعرض لها لجنة المتابعة هناك التحديات الجديدة والصعبة التي أنتجتها الحرب.
كنت قد تطرقت في مقال سابق إلى إشكاليات واستحقاقات إعادة بناء لجنة المتابعة العليا ويهمني أن أكرر هنا موقفي الواضح أن من ينتقد ويهاجم لجنة المتابعة إنما يجعل حياته سهلة حيث تحولت هذه اللجنة إلى الشماعة التي يعلق عليها الجميع ثيابهم المتسخة والذي يريد فعلا أن ينتقد من أجل التغيير عليه أن ينتقد وبشدة مركبات اللجنة التي لا تزال تتعامل معها كلجنة تنسيق بينها لا أكثر وليس كجسم تمثيلي وقيادي للمجتمع الفلسطيني. أزاء ما نتعرض له كأقلية وطن في خطر (indigenous minority at risk ) فإن أول ما يجب علينا عمله لمواجهة ما نتعرض له هو بناء وحدتنا الداخلية هنا من خلال بناء حقيقي لمؤسساتنا الوطنية وفي مقدمتها لجنة المتابعة من خلال تحويلها إلى مؤسسة ذات قدرات تنفيذية وتمثيلية مهنية على مستوى يليق بنا وبالتحديات والمخاطر التي نواجهها. وهذا يتطلب التوافق بين الأحزاب والقوى السياسية الأساسية على أسس البناء لكي تصبح لجنة المتابعة تمثيلية فعلا وإعطاء دور بارز لقطاعات هامة في المجتمع مثل الشباب والنساء والاتفاق على الانتخاب المباشر بعد فترة زمنية يتفق عليها وعلى أسس التمويل على أن نسعى لكي يكون تمويل اللجنة من قبل الشعب عبر دفع ضريبة اختيارية أسوة بالأرنونا على أن تكون السلطات المحلية هي وسيلة الجباية والتمويل.
في المرحلة الانتقالية وحتى يصبح التمويل الشعبي ممكنا لا مناص من أن تقوم الأحزاب والحركات السياسية بتمويل تفاضلي لميزانية معقولة للجنة المتابعة وتطبيق مبدأ "لا تمثيل من دون تمويل" حتى ولو كان رمزيا من كل مركبات وأعضاء اللجنة. حان الوقت لتطبيق أسس الوحدة الوطنية وبناء المؤسسات ومن غير المعقول وعظ الفصائل الفلسطينية على أهمية الوحدة الوطنية وأن نظل هنا أسيري الأجندات والحساسيات الحزبية. وربما من أهم الردود الفورية التي يجب القيام بها تشكيل كتلة برلمانية واحدة من الأحزاب الممثلة في البرلمان وإرسال رسالة قوية للمجتمع الإسرائيلي وللمؤسسة الصهيونية عما سيكون عليه ردنا في الانتخابات المقبلة.