كشف نتنياهو رئيس حكومة اسرائيل في مطلع شباط الحالي (2016) عن خطة حكومية لبناء جدران عازلة أو اسيجة على طول الحدود الاسرائيلية الشرقية والشمالية والجنوبية الشرقية. وهذا يعني إحاطة اسرائيل بمزيد من الجدران العازلة والفاصلة عن المحيط. وذريعة نتنياهو ومن هم على شاكلته من المرعوبين والمهووسين من قيادات اسرائيل توفير الحماية لاسرائيل وشعبها من حيوانات مفترسة قد تنقض على اسرائيل وتنهشها وتضع حدًّا للمشروع الصهيوني الهادف إلى إعادة تجميع شتات الشعب اليهودي في أرضه الموعودة من باري الكون، وفقًا للعقيدة اليهودية والتي تتلاقى في هذه المسألة تحديدًا مع الفكر الصهيوني.
وبالتالي، فإن هذه الخطة تندرج ضمن مخطط تعزيز الثكنة. فما هي الثكنة يا ترى؟ في إحدى المحاضرات التي قدمتها أمام مجموعة من الطلاب الجامعيين قبل عدة سنوات حول منظومة الدفاع والهجوم الاسرائيلية تطرقت إلى مبنى اسرائيل كدولة عسكرية من رأسها إلى اساسها، وأنها – اي اسرائيل – تشبه إلى حد ما "اسبرطة". اعترض أحد الطلاب على هذا التشبيه. ولم يتوقف اعتراضه عند هذا الأمر، بل تعداه مضيفًا أن اسرائيل ليست اسبرطة بالتمام، بل فيها الكثير من "أثينا". وحاول توضيح كلامه بالميل إلى ما فيها من جوانب ديموقراطية وليبرالية ضمن منظومة الحياة اليومية. طبعا، احترمت رأي هذا الطالب، لكني لم اتفق معه بالمرة. وبناء عليه، وحتى لا يبقى كلامنا مبهمًا، يتوجب علي توضيح القصد بـ "اسبرطة" و"أثينا".
لقد تميّزت حضارة البلاد اليونانية بوجود شكلين لحضارتها: الأول وهو الديموقراطي، التعليمي، جودة الحياة، الفكر والفلسفة وتطوير العلوم والعمران... وأن للحياة هدف سامي الخ... من الامور والجوانب الايجابية... وعرف هذا الشكل أنه نما وازدهر في اثينا. في حين ان الشكل الثاني اعتمد على فكر ونهج عسكري للحياة. اي ان الحياة من اولها إلى آخرها يجب ان ترتكز على نظام عسكري. وأن النظام العسكري يدخل في كل مركبات الحياة منذ ولادة الطفل وحتى رحيله عن العالم. وأن الانسان الذي يعيش في هذا الشكل يكون مُعسكرًا في تفكيره ونهجه وخدمته للدولة. وعرفت به اسبرطة. زالت اسبرطة عن الوجود كما يُعلمنا التاريخ لأن منظومتها العسكرية قد انهارت. في حين ان اثينا بفكرها وفلسفتها وما قدمته للعالم لا تزال قائما وموجودا، وفي مقدمتها الديموقراطية. وأنا اعتقد ان ما دفع هذا الطالب إلى الدمج بين الشكلين أو النهجين ما تحاول اسرائيل بثه من صور لدورها الحضاري والانساني أكثر من العسكري، علما ان اسرائيل بدون شكلها ومضمونها العسكري إلى الزوال تسير.
معنى ذلك، ان اسرائيل عبارة عن ثكنة عسكرية تخدمها مؤسسات مدنية ضمن منظومة مركبات الدولة. وبكونها ثكنة فإنها تعيش في حالة من عزل نفسها عن محيطها، ويسودها الخوف الشديد. أو بالأحرى تبث وتنشر الخوف المتواصل بين شعبها لتبقى الثكنة ذريعة لبقائها.
ولتوضيح الفكرة من وراء ذلك اعود إلى ما كتبه وحلّله المؤرخ المرحوم الدكتور الياس شوفاني في كتابه:"أمن اسرائيل الاستراتيجي" الذي صدر عن دار الحصاد بدمشق في 2009.
يكتب شوفاني ما يلي: "ان المشروع الصهيوني هو مشروع يهودي استيطاني وامبريالي عدواني، لا يزال قيد الانشاء، وبأنه اتخذ شكل الثكنة الاستيطانية، وليس الدولة العادية... ويرمي إلى إقامة قاعدة آمنة لآلة عسكرية، من أجل دور تؤديه في محيطها. وفي الكيان الصهيوني الاستيطاني يعني تأمين القاعدة "تهويد فلسطين". أما أداء الدور الوظيفي فيعني تطويع حركة الجماهير العربية لإملاءات المصالح الامبريالية، وصولا إلى التحكم بالمسارات السياسية الجارية في العواصم العربية، درءًا لتعبير حركة الجماهير هناك عن إرادتها. ولكي تكرّس الثكنة مبرّر وجودها، وتضمن استمرار بقائها، فعليها أن تنجز الأهداف التي أقيمت من أجلها، وإلا فقدت ذلك المبرر، الأمر الذي يؤدي إلى تفكيكها وتصفيتها".
كيف يمكن فهم الدور الوظيفي لهذه الثكنة التي أقامها المشروع الامبريالي في المنطقة؟ بواسطة ثلاثة أبعاد رئيسة:
أ) البعد الفلسطيني: اي تصفية الوجود الفلسطيني، وهذا ما تم على مراحل منذ العام 1948، مرورا بالعام 1967 ثم باتفاقيات اوسلو وصولا إلى ما يجري حاليا على ما تبقى من الأرض الفلسطينية. بمعنى "تهويد فلسطين" الأرض والشعب والنظام الحياتي اليومي... والتعامل مع من بقي على قاعدة اقليات او مجموعات دينية/طائفية وليست قومية بالمطلق، يتم اقصائها تدريجيا عن الحياة السائدة، فتتحول إلى هامشية غير ذات قيمة للدولة(اي اسرائيل).
ب) البعد العربي: وهو مرتبط بالتمام مع المشروع الامبريالي العالمي الحاصل الآن في المنطقة بواسطة الهيمنة على شعوبها ودب الرعب والفزع فيها من خلال أدوات مساعدة، منها داعش مثلا. وتصوير اسرائيل بأنها الأكثر أمنا وآمانا من بين كافة الدول العربية، وان مشروع إقامتها كان عملية صحيحة وسليمة في المنطقة. وأن المشكلة ليست فيها – اي في اسرائيل، بل في الدول المحيطة بها، وهي الدول العربية.
ج) البعد الدولي: وهو متمثل بالعلاقة التاريخية بين المشروع الصهيوني والاستعمار العالمي. فالصهيونية وفق هرتسل مؤسسها لا يمكنها ان تنهض إلا في حاضنة الاستعمار. والاستعمار بحاجة دائمة إلى أدوات تنفيذية. فوجد ضالته في المشروع الصهيوني.
من هذه الأبعاد الثلاثة نلحظ ان فلسطين مستهدفة، والدول العربية مستهدفة والمنطقة – الشرق الأوسط مستهدفة أيضا. وبناء عليه تسعى اسرائيل إلى إحاطة نفسها بجدران عازلة عن محيطها، لأنها تعتبره متخلفا ومنحطا ولا قيمة له بالمرة ويجب التخلص منه. هذا ما فعلته للضفة الغربية بالجدار العازل العنصري، وهذا ما فعلته ولا تزال مع قطاع غزة بفرض حصار لم يشهد مثله التاريخ من قبل. وهذا ما فعلته ولا تزال مع الفلسطينيين في الداخل باعتبارهم شوكة في حلوقهم، ويجب فصلهم عن المناطق والتجمعات اليهودية. وتتعامل اسرائيل مع الفلسطينيين كـ "حيوانات" مفترسة تتيح لنفسها اطلاق النار عليهم متى تشاء وكيفما تشاء، وكأن هذه الخطوات دفاعية مشروعة لها لتحمي الثكنة ومن فيها.
وما كشفه نتنياهو يزيد من امتداد جدران الثكنة ليحميها من حيوانات أكثر افتراسا ووحشية قد تتعرض لها اسرائيل في الزمن المرتقب جراء ما يجري من تداعيات للأزمة في سوريا.
من يتعمق في تحليل شخصية وسلوك نتنياهو وقيادات اسرائيلية كثيرة في الكنيست والحكومة والاستيطان يدرك العقدة التي كونها هؤلاء لشعبهم، وجعلوه يعيش ليل نهار في رُهاب (فوبيا) من محيطهم. ومن يتعمق أكثر في دراسة هؤلاء يفهم أن هذه الثكنة لا تريد السلام، بل لا تفكر فيه مطلقا. ما تريده هو ما يضمن بقائها. وما يضمن بقائها هو اقتلاع الفلسطينيين، والتصدي للحيوانات المفترسة.
والآن يبقى السؤال: من هم هؤلاء الحيوانات المفترسة؟ هل هم الدواعش التكفيريين فقط؟ أم شعوب وجيوش في المنطقة ترى في الثكنة خطرا استراتيجيا عليها؟ وبالتالي تعمل الثكنة على ضربهم للحيلولة دون رفع رأسهم وسلاحهم بوجهها...