"ستأكلنا الضباع إن بقينا بلا ذاكرة"، هذه الجملة التي أبقت سادن وحافظ وناطور الذاكرة الفلسطينية، مناضلاً في الجبهة الأكثر عمقاً وبقاءً، باحثًا ومدونًا للرواية التي سترث الأرض، متحديًا بسلاح عدالة القضية الفلسطينية وأبعاد انسانيتها، الرواية النقيضة، التي تنقضُّ على حقيقة التاريخ الذي يحاول المشروع الصهيوني برواياته الزائفة، استبدالها. وبناء ما ينقضها على أنقاض، جذور وأصل الحكاية وحقيقتها.
وكي لا نفقد الذاكرة وكي لا تأكلنا الضباع، وثَّقَ الأديب الراحل سلمان ناطور، قصص الناس، وحكاياتهم، مؤرخًا ومدوناً التاريخ الشفهي، لشعبنا، بأسلوب أدبّيّ، لا كموثّقٍ فحسب، بل كمبدعٍ، يستخرج النبيذ من عنب التاريخ، ويعتقه في خوابي الذاكرة والإدراك والوجدان، فإنّ الأدب يبقى الوثيقةُ الأعمق التي يسري من خلالها ما هو أبعد من الذاكرة الفردية والذاكرة الجمعية، بإيحاءاته ومعزوفاته الأدبية التي يسطعُ منها الماضي والمكان، بأصواتٍ ورواياتِ شخوصهِ المستمدة من واقعٍ مُعاش، والتي تتجاوز الأحداث والزمان، لتلامس الوجدان المرتبط بهذا التاريخ، وهذه الحقائق.
سلمان ناطور، أديبٌ تنقّل بين الكثير من الأنواع الأدبية، فقد كتب في الدراسات الفكرية والفلسفية، وأبدع في مجال القصة القصيرة، والرواية، والكتابة التسجيلية، والمقالات السياسية والاجتماعية والثقافية والساخرة، وقصص الأطفال الهادفة والبحث والاعداد، والترجمة، والعمل الصحافي، والتحرير، وإدارة المشاريع والمؤسسات الثقافية ومسرحة النصوص الأدبية، وأخيرًا وقف بنفسه على خشبة المسرح، ليروي مختاراتٍ من ما دوّن، من ذاكرة فردية وجماعية، ليروي مباشرة لجمهور المتلقين، رواية شعبٍ، منذ مطلع القرن العشرين، ليسردَ أحداث النكبة، والحقب الزمنية التي سبقتها ولحقتها، بأسلوب فنّي بالغ التأثير، وكل ذلك من خلال أحداث جرت على أرض الواقع، ولكنه دونها ومسرحها ولونّها بريشة أديبٍ مبدعٍ، معمّقٍ للمعاني والتداعيات التي تنبثقُ من جوهر وروح الأحداث والقصص.
وقد تجلّت الرّوح الإنسانية العالية المنسجمة مع روح الكاتب نفسه، في كلّ أعماله الأدبية، فسلمان ناطور، هو نموذج للوطنيِّ الذي يرتقي بإنسانيته فوق كلّ اعتبار، لذلك استطاع التأثير والتغلب على الرواية النقيضة، بتفوقه وتفوق القضية التي يمثلها، انسانيًا، فهو وبحق أكثر الكتاب الفلسطينيين الذين استطاعوا، التأثير على الأوساط الثقافية الإسرائيلية، عبر ترجمات كتبه للعبرية ولغاتٍ أخرى، ومحاضراته، ونقاشاته، في محافل كثيرة، إسرائيلية وأجنبية، وكل ذلك، دون التنازل بالطبع، عن القمّة العالية للمبادئ والقيم والثوابت الوطنية والقومية، مما يثبتُ أنّ الإنسانية بتجلياتها الأعلى، تتفوق على أيّ خطابٍ أقل إنسانية منها، وإنْ حَكمَ المساحةَ الزمنيةَ وساد فيها الخطابُ النقيض المتغطرس بقوته المتفوقة بحكم السيادة المنتزعة على المكان والزمان، سلمان ناطور، استطاع أن يثبت قوة السلاح الناعم، وأن يثبت قوة الماء التي تستطيع أن تخلخل بالصخور الصلبة، وتحفرها، وتفتتها.
وسلمان ناطور، من أهم دعاة ومنفذّي، مشروع الوحدة الثقافية الفلسطينية، الذي يجمع بين عناصر الشعب الفلسطيني المتشظي جغرافيًا وسياسيًا واجتماعيًا، منذ النكبة، وهذا المشروع هو المقولة التي باتت أكثر تقدمًا في القضية الفلسطينية، في السنوات الأخيرة، بما يتعلق بكافة الشعب الفلسطيني، وهو أول مشروعٍ وحدويٍ يجمع أضلاع الشعب الفلسطيني الثلاث، أي الجزء الصامد على أرضه التاريخية من فلسطينيي ال 48، وأبناء شعبنا في الأراضي المحتلة عام 67، وفلسطينيي الشتات.
وكان لنا، ولي شخصيًا، الشرف الكبير، بالتعاون معه، ومشاركته في تأسيس وترسيخ وتجسيد هذه الرؤية المتقدمة، في زمن التراجع، في جبهات عدّة، والتي بدأت في بناء المشروع الوحدوي بين المؤسسات الثقافية، كاتحادات الكتاب، ومؤسسات وجمعيات ثقافية أخرى، بدأت تجمع بين المثقفين والأدباء الفلسطينيين، بأطرٍ مشتركة، حظيت بشكل سريع باعتراف، عربي وأجنبي، تجسَّدَ في مشاريع ومؤتمرات عديدة، وكان سلمان ناطور، أحد أهمّ عرابّي، ومنفذي هذه الحالة الجديدة، التي استطاعت أن تقنع برؤاها وجديتها، القيادات السياسية الفلسطينية، والمؤسسات الأدبية والثقافية الفلسطينية والعربية الهامّة.
وبالنسبة لنا في الاتحاد العام للكتاب العرب الفلسطينيين 48، كان سلمان ناطور هو العمود الفقري للاتحاد، عبر دوره كرئيس الهيئة الاستشارية، وأحد المؤسسين، والداعمين لكل نشاطاته، ومشاريعه، فقد ترأّس المؤتمر الثاني للاتحاد في حزيران 2014، ووضع رؤيته المستقبلية التي ساهمت بشكلٍ جاد في الانتقال إلى حالةٍ أعلى من العمل الثقافي والأدبي، والذي نسعى لتكريسه منذ سنوات، بمشاركة فاعلة وكبيرة مع الاتحاد العام للأدباء والكتّاب الفلسطينيين واللجنة الوطنية الفلسطينية للتربية والثقافة والعلوم، وأمينهما العام، الأخ الشاعر مراد السوداني، والتعاون التام مع وزارة الثقافة الفلسطينية، التي اتسعت آفاقها منذ فترة طويلة، لتتحول إلى الوزارة التي تمثّل الشعب الفلسطيني في كل أماكن تواجده، بالإضافة إلى مؤسسات عديدة أخرى.
وقد أدار مشروع الثقافة الفلسطينية- حقوق وفضاءات، في جمعية مساواة، لسنوات عديدة، والذي استطاع من خلاله، أن يوسّعَ آفاق العمل الثقافي، وله الفضل الأكبر في جعل آذار الثقافة، منذ عام 2011، والذي بدأ بيوم الثقافة المتزامن مع ميلاد الشاعر الكبير، محمود درويش، شهرًا كاملاً من النشاطات الثقافية الفلسطينية، والتي تتوّج في فعاليات يوم الأرض في نهاية الشهر.
سيبقى سادن الثقافة الفلسطينية سلمان ناطور، علمًا هامًا في تاريخ شعبنا المعاصر، وأحدّ أهم الأسماء الأدبية التي حملت شعلة الهوية والانتماء للوطن والشعب والأمة والانسانية والتاريخ، المؤسِّسة لمستقبلٍ سينتصر حتمًا على كلّ محاولات التزييف، وفرض الحكاية النقيضة، لكي يأتي منّا من سيرث الأرض التي تحفظها الذاكرة وتبقيها لأصحابها الأصلانيين والحقيقيين.
لن تأكلنا الضباع يا سلمان ناطور، لأننا نحمل وننقل شعلة الذاكرة التي حرَستها من الضياع.
- الكاتب هو شاعر ورئيس الاتحاد العام للكتّاب العرب الفلسطينيين(48)