فأنا حفيدتها المدللة التي طالما سعدت للقائها، محادثتها ومداعبتها، منذ نعومة أظفاري وهي تجود بكل الحب والمودة التي يطفح بها قلبها ليفيض في طريق حياتي فتتزين أرجاؤه بالزهور الملونة والورود المميزة التي يفوح شذاها ليعطر دربي فيسعده وينشر عطر التفاؤل فيه، وينهل من ذلك الحبّ والحنان ليكون شعارا يشفي كل الآلام. حدثتني بصوت خافت ولكنه ينبض بروح العطاء سألتني عن حالي وعن أحوالي فخلتها مازحة، فكيف ستكون أحوالي بدون ملاك قام بحراستي اعواما طوال ... كيف ستكون أحوالي بلا ملاك طاهر استوطن في قلبي لتكون بسمته نبراسا ينير طريقي وكلمته شعاعا يطلق أملا براقا في مشوار حياتي.
سألتها: جدتي إلى أين ذهبت ؟ لقد افتقدت كوب الشاي في مطبخك ... لقد افتقدت طعم فطيرة الزعتر الشهية خاصتك والتي كنت تضعينها جانبا خصيصا لي لاتذوقها واستمتع بطعمها المميز ..... كنت تنتظرينني بشوق لاتذوق طعامك الذي كنت تمزجينه بحب كبير وتبهرينه برحمة واخلاص أكبر، ذهبت وتركتني بلا مواس يواسيني عندما أتعثر في مطبات الحياة الشائكة، او مشجع عندما أتميز وأكون الرابحة.
سرحت قليلا في وجهها فرايت بين خطوط تجاعيده حكايات وروايات كانت ترويها لنا في الماضي قد عبرت الزمان والمكان، عبرت الغيوم والنجوم والكواكب، الفصول والشهور والأيام حتى ضمت في داخلها عالم من نوع آخر، سقفه محبة ورحمة وأرضه عطاء ومودة وهواؤه مروءة وكرم ... تعجبت كثيرا ! فذلك العالم هو بيت جدتي الذي كنت أزوره دائما فارتشف منه كل تلك الميزات النبيلة والأحاسيس المرهفة التي كانت تشكل درعا واقيا لي من كل الرياح العاتية التي كانت تهب في الخارج لاواجهها دون رهبة أوخوف ينتابني. جادت بعطائها فأعطيت بالمثل، كان ذلك كحكاية من حكاياتها التي كانت تتحفني بها في كل لقاء معها، فطريقة سردها وروايتها للقصة جعلتني أعيش أحداثها بل أصبح بطلة من أبطالها فأستمتع بفكرتها، حبكتها وحتى نهايتها التي كانت محزنة أحيانا ومفرحة في أحيان أخرى، تمعنت بها جيدا لاتأكد من واقعي الذي غزته أفكار وشكوك في حاضري الذي أعيشه في تلك اللحظات ولكنّ سهام الواقعية المحتمة احتضنتني وسحبتني معها الى عالم المادية المتصلب لتؤكد لي أنّ ذلك حلما وأنّ ما ذهب لن يرجع فجدتي قد ماتت وانتهت معها كلّ ذكريات الطفولة الجميلة لأبدأ مشوار الكدّ والجدّ والعمل في عالم تغشيه الهموم والمتاعب محملة بقصص محزنة تدمي القلب نسمعها ونراها في كل حين وحين، ففي زمن جدتي ساد الحبّ والعطاء ليؤثر الفقير على نفسه ولو كان به خصاصة فيعطي من قلب خالص مفعم بالحب كمن يملك الدنيا وما فيها وفي زمننا نرى اولئك المساكين والجوعى في كل مكان ينادون ويصرخون وما من مستجيب ، نراهم يرتدون ثيابا رثة بالية فنتجنبهم خوفا على عنجهيتنا وقدرنا فنبتعد ونتحاشى ... نشفق عليهم ولكننا نلومهم على كل شيء، فألسنتنا لا تبقي لهم عذرا وتهاجمهم بقلة التدبير ولكن المخفي من ورائهم أعظم بكثير فالمسببات كثيرة والنتائج وخيمة وما من مقدّر أو متابع لما يحول بهؤلاء، ليس هذا فحسب فزماننا زمن احتل به القوي المتغطرس مكانة ليست ببسيطة بكلماته المعسولة وتلونه المبرمج مسبقا استطاع أن يكون آمرا ناهيا في أماكن شتى ليجعل من عالمنا قالبا يقلبه حيث يشاء فيما يصب في مصلحته التي تحتل المقام الأول والوحيد، أما في زمن جدتي فكانت البساطة سيدة الموقف والتواضع سلطانه أذكر النسيم العليل كأنه عطر ثمين كنا نستمتع به كاستمتاعنا بأغلى العطور.
الكلمة الطيبة صدقة ولكنها ولدت في العهد القديم وكبرت وشاخت حتى ابتعد عنها الكثيرون ولم يتشبث بها الا الطيبون وهم من حافظوا على ديننا ،تراثنا ، تقاليدنا وذلك هو كنزنا الذي كنا نفتخر فيه دائما حتى أضعناه ولم نحسن البحث عنه وايجاده، قليل منا بذل جهدا في التفتيش عنه وبعد جهد جهيد وجدوه بين براثن الايام ومخالب الزمان يلوح وينوح وينتظر المنجد الذي ينقذه ويعيده ليحافظ عليه ، نعم ! وجدوه ... ولكنهم عادوا وأضاعوه.