" تبارك اللهُ الذي اختارنا قبل إنشاء العالم لنكون عنده قديسين بلا عيب في المحبة" كلام الرب (أفسس 4:1)
" وَمَا كَانَ لِنَفْسٍ أَنْ تَمُوتَ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ كِتَابًا مُؤَجَّلًا وَمَنْ يُرِدْ ثَوَابَ الدُّنْيَا نُؤْتِهِ مِنْهَا وَمَنْ يُرِدْ ثَوَابَ الْآخِرَةِ نُؤْتِهِ مِنْهَا وَسَنَجْزِي الشَّاكِرِينَ" صدق الله العظيم (آل عمران 145)
اليوم نلتقي، واللقاء ليس عاديا مع أننا نلتقي في صحبة مدير مركز "اللقاء"، الذي عودنا على اللقاء في المؤتمرات والمناسبات الوطنية والدينية والثقافية.. لقد سافر قبل نحو أربعين يوما راحلنا الكبير الدكتور جريس سعد خوري، برفقة وفد يمثل مركز "اللقاء" للقاء قداسة البابا في روما، غادرنا وهو في سعادة للقاء نادر مع أهم شخصية كاثوليكية في العالم، غادرنا وهو يخطو في ساحة القديس بطرس جذلا، لكنه لم يعد من هذا اللقاء كما وعدنا، بل طابت له الاقامة في مكان راحة، حيث لا وجع ولاحزن، على رجاء القيامة، بين القديسين في المحبة كما جاء في الانجيل المقدس، وقد نال ثواب الدنيا من جهة ونال ثواب الآخرة كما ورد في القرآن الكريم، وكأني به يجمع بين الكتابين والعقيدتين في مكان اقامته الأبدي، كما فعل طوال حياته من خلال نشاطه في مركز اللقاء والمواقع الأخرى على الأرض.
كل من سمع بالنبأ قبل شهر لم يصدقه.. كان من الصعب علينا أن نستوعب الخبر المشؤوم.. كيف لا وكنا قد خرجنا قبل شهر منه من مؤتمر اللاهوت، وكلنا رأينا أبا بشارة في قمة نشاطه وحراكه، لا يكل ولا يمل، وكان العام الماضي ربما، من أكثر الأعوام ثمرا وعطاء، فيه أنجز بحثه المتميز عن البطريرك صفرونيوس وعلاقته بالخليفة عمر بن الخطاب (ر)، وأصدره في كتاب البرهان في تثبيت الايمان"، هذا الكتاب الذي طاف به البلدات العربية في الشمال وحيفا حتى القدس وبيت لحم.. وفي هذا العام أصرّ على تكريم سيادة المطران بطرس المعلم ( أطال الله في عمره)، فكان حفل تكريم قلّ مثيله. وفيه أقام مؤتمرين للقاء في بيت لحم التراث واللاهوت حول ما يواجه مشرقنا من تحديات مصيرية.
واسمحوا لي أن أخاطب صاحب "اللقاء" في هذا اليوم الخاص والذي نكرسه، للقاء به وبذكراه العطرة وبمبادئه السامية.
أربعون يوما توقف الزمان فيها.. وهُيِّأ لنا فيها أننا نحن نعيش معك، نفكر معك، نخطط معك، نضع البرامج والمقترحات لتخرج أفضل ما يكون، وكما كنت تريد دائما..
أربعون يوما ألم تكفك يا أبا بشارة.. أربعون يوما وأنت تشاكسنا، تختبرنا، تستفزنا، تحتمل صبرنا.. ونحن نبتسم لك، نتماشى مع مخططك الجديد، نقترب من مفاجأتك لنا، نحاول أن نكون معك.. لكن لم نعد نحتمل غيابك.
"اللقاء" يفتقدك، يفتقد مبادراتِك، نشاطَك، أفكارَك، كتاباتِك، مداخلاتِك، تلخيصاتك، يفتقد حضورَك الغنيِّ والمشبعِ بالانسانية، مركزيَّتَك الدافئةِ وشموليتَك الأبوية..
اللقاء بعدك لم يعد هو اللقاء، والمؤتمرات بعدك لن تكون هي المؤتمرات، والحوار بعدك ليس له روح الحوار.
عندما دخلنا مبنى مركز "اللقاء" في بيت لحم لأول مرة بعد غيابك القسري عنه، وجدناه موحشا، مقفرا، ساكنا، هادئا.. يخيم عليه الوجوم ويلفه الضباب.. وجدنا المقعد خاليا وتصورناك تجلس عليه ترحب وتؤهل وتلقانا بابتسامتك العريضة، وعباراتك الرشيقة ومداعباتك الأنيقة.. وانتظرنا لكنك لم تخرج إلينا..
كنت حريصا على تكريم أعلام من أعضاء وأصدقاء مركز اللقاء، في السابق كرمت الراحلين الشاعر فوزي عبدالله وبعده الشاعر جمال قعوار وثم العلامة د. عبد الرحمن عباد (رحمهم الله)، وكنت قد أقمت حفل تكريم لغبطة البطريرك ميشيل صباح، رئيس مجلس أمناء اللقاء في يوبيله الذهبي في بيت لحم، وحفل تكريم سيادة المطران بطرس المعلم في حيفا، ( أمد الله بعمريهما وأنعم عليهما بالصحة والعافية).. وكنت تقول لماذا علينا أن ننتظر حالة وفاة حتى نكرم من يستحق التكريم؟ فلماذا أسرعت بالرحيل اذن، ولم تنتظرنا قليلا كي نتمكن من تكريمك وأنت بيننا؟
ترى هل فيك قال الشاعر:
وكانت في حياتكَ لي عظاتٌ وأنتَ اليومَ أوعظُ منك حيّا
ألم تقل بالأمس القريب، أن القديس بطرس - الذي سلمت الراية في أحضانه- قد أصبح صخرة ايماننا التي بنيت عليها كنيسة المسيح، وهكذا أصبحت أنت صخرة لقائنا التي أقيم عليها مركز اللقاء، والذي نأمل له أن يستمر وتنتشر رسالته كما كنت تطمح وترغب.
واليوم أراك تدعونا لأن ننفض عنا وشاح الحزن لنتوجه نحو العمل، وأنت تردد مع معلمك السيد المسيح" طوبى للمحزونين فانهم يعزّون" ومع رئيس مجلس أمناء مركز اللقاء الذي أحببته وقدرته، غبطة البطريرك صباح " لكنّ المؤمن لا يختنق بحزنه، أيّاً كان سببه".
شكرا لك لأنك لا تريدنا أن نختنق بحزننا الكبير، هذا الحزن الذي نضمه بين جوانحنا، معاهدينك أن نواصل المسيرة.
( نص الكلمة التي ألقاها الكاتب في افتتاح حفل تأبين الدكتور جريس سعد خوري، في الذكرى الأربعين لرحيله، في فسوطة يوم 5/3/2016)