يطيب لي، ربما كما يطيب لكل من يكتب وينشر انتاجاته، استيضاحُ آراءِ القرّاء ومعرفةُ ردودِ فعلهم. لذا، سرّني جدا قراءة و/أو سماعُ عشرات الردود التي كانت تصلني اسبوعيا عبر الهاتف او البريد الالكتروني وشبكات التواصل الاجتماعي بصورة عامة، لا سيما على مقالي السابق بعنوان "هل هناك من يعرف؟" والذي كنتُ قد اختتمتُه بالفقرة التالية: " قال لي صديقي المغترب: يعني انتَ تقولُ لي بانهم لن ينسحبوا من الضفة الغربية، تماما كما لم ينسحبوا قبل 66 سنة من الجليل. أليس كذلك؟. فأجبتُه: لم اقل هذا ولن اقوله، لاني لا اعرف. فهل انت تعرف يا عزيزي؟ وهل هناك من يعرف؟".
يبدو لي ان هذا السؤال "هل هناك من يعرف؟" قد استفزَّ جمهورَ القراء، فاخذ بعضُهم يدلي بدلوه. تباينُ الآراءِ التي وصلتني، وتعدّدُها يحول دون تمكني من استعراضها جميعا، مما يجعلني اكتفي بعرض عينة محدودة، أذكر منها: " نعم سينسحبون راضخين لإرادة شعبٍ يريد الحياة ، كما قال ابو قاسم الشابي، ولا بد ان يستجيب القدر" ، "لن ينسحبوا إلا بالقوة. فما أخِذَ بالقوة لا يُستعاد إلا بالقوة"، "سينسحبون لان الاحتلال لا يمكن ان يدوم"، " لن ينسحبوا طالما بقي الفلسطينيون منقسمين على انفسهم" ، "سينسحبون لانه لن يضيع حق وراءه مطالب" ، " لن ينسحبوا في ظل غياب دعم عربي في هذه الفترة من تفكك الامة العربية وتشرذمها وإنحطاطها، والتي يصدق فيها اليوم ايضا، قولُ الجواهري:
أفامّة ٌ هذي التي هزُلت وتناثرت فكأنها اممُ
يسطو على صنمٍ بها صنمٌ ويغارُ مِن علمٍ بها علمُ".
وغيرها وغيرها من الاراء.
لكن، ما استرعى انتباهي من كل تلك الردود ، هو الردّ الهاتفي التالي الذي وصلني من صديقي خالد، الذي قال لي بعد ان طلب مني ان لا افصح عن اسمه الحقيقي، انه عندما قرأ سؤالي حول "هل هناك من يعرف اذا كانت اسرائيل ستنسحب من الضفة الغربية؟"، كاد يصيبُه(اي خالد) ما اصاب ذلك الشخص الملقّب مداعبةً بلقب "الاستاذ فصيح" نظرا لإعاقة النطق التي يعاني منها. لقد شوهد وهو يركض مهرولا نحو دار الاذاعة، فسأله احد اصدقائه عن ذلك. استصعب "فصيحُنا" الردَّ، فاستلّ من جيبه ورقة اعلانٍ عن حاجة الاذاعة لمذيع جديد. فَغَرَ الصديقُ فاه مستغربا، فقال فصيح بعد جهد جهيد وبكلمات مقطعة الاوصال ومكررة المقاطع "بس انا جاي اقول لمدير الاذاعة اني انا بنفعش لهاي الوظيفة".
رنين ضحكتي في سماعة الهاتف، جعل خالدا يتوقف قليلا عن الكلام، ثم سمعتُه يتابع حديثه قائلا: "وانا ايضا اردتُ ان اركض اليك لاقول لك انني مثلك تماما، لا اعرف الجواب. لكني غيّرتُ رأيي عندما تذكرت قصة ليفي إشكول رئيس وزراء اسرائيل إبّان حرب 1967. أتدري ماذا اقصد؟"
قلتُ لخالد، لعلك تقصد احدى تلك القصص او النكات الكثيرة، التي كان يرويها خصومُ ليفي إشكول السياسيون، عن تردّده في إتخاذ القرار، مثلا: "لماذا لا يتحمم إشكول؟ لانه لا يستطيع ان يقرر اي حنفية يفتح اولا، الساخنة؟ أم الباردة؟"، او لعلك تقصد احدى تلك القصص التي تدلُّ على دهائه السياسي، منها قوله: "صحيح اني قد وعدتُ، لكني لم اعد باني سأنفّذ وعدي"، او قوله: "لستُ اعلم إذا كنتُ سانجح كوزيرٍ للزراعة، لكن باستطاعتي ان اعدكم باني لن اتدخل في نزول الامطار"، او قوله كوزيرٍ للمالية، مبرّرا قراره لرفع نسبة الضريبة بصورة حادة على الطبقة الغنية: "حتى يضعف الناصح، فإن الضعيف يموت جوعا"، او لعلك يا خالد تقصد قصة إشكول مع الصحافيين الذين قالوا له ان الشعب يتذمر من إدارته. ضحك إشكول قائلا لهم :"دعوني اروي لكم النكتة التالية: حضر موشيه الى دائرة الرفاه الاجتماعي للحصول على مخصصاته الشهرية. وجد امامه صفا طويلا من الناس المحتاجين. بعد انتظار طويل جدا، عيل صبره وفقد اعصابه فترك صف الدور قائلا ساذهب الان الى إشكول لأحطمَ عظامَه. بعد نصف ساعة عاد موشيه الى مكانه في الدور، قائلا لمن حوله: "لقد وجدتُ ان الدور هناك أطولُ من هنا".
سمعتُ على الهاتف قهقهة َ خالد، ثم قولَه بأنه لم يقصد أيًّا من هذا، إنما يقصد قصة تلك الزيارة الجوية الاولى التي قام بها اشكول، على متن مروحية عسكرية إسرائيلية، في أجواء الضفة الغربية، في اواخر حزيران 1967 أي بعد الاحتلال مباشرة. لقد شاهد إشكول من المروحية ، إنتشارَ المجمّعات السكانية الفلسطينية من مدنٍ وقرى وعزبات ومضارب بدو. وهكذا عندما حطّت المروحية وترجل إشكول منها، سأله الصحفيون عن انطباعه من الزيارة. فقال: "انا فرحٌ بالدوطة* لكني لا احب العروس" اي بعبارة اخرى، اراد إشكول ان يقول "اننا ربحنا دوطة وهي الارض الفلسطينية ومصادرها المائية، لكن المشكلة هي ان مع هذه الدوطة، توجد عروس اي الشعب الفلسطيني في الضفة".
توقف خالد عن الكلام هنيهة، ليتابع حديثه قائلا لي: "ومن لا يحبُّ العروس، يطلّقُها ويطردُها. وإن تعذّر عليه ذلك، يتزوج عليها أي يأتيها بضرّةٍ(كالمستوطنين) تقاسمها البيت أو تطفّشها.... ويبقى السؤال، هل ستستطيع العروسُ صاحبة ُ البيت الشرعيّة، ان تستمرَّ في صمودها أمام كيد ضُرّتِها؟".
*الدّوطة(عند الاجانب): المال الذي تدفعه العروس الى عريسها.