هذا هو "رجل المجتمع الشفاعمري"، الذي أجمعت عليه كافة قطاعات وفئات الشفاعمريين على تعدد انتماءاتهم ومشاربهم وتوجهاتهم.. انه المرحوم أنيس جميل مشيعل ( أبو جميل) الذي تركنا صباح السابع عشر من أيار الحالي بشكل مفاجيء ودرامي، لكنه واضح كوضوح شمس ذاك الصباح، ولم يترك في نفوس ابناء بلدته سوى الحزن والأسى على فقدانه.. لأن شفاعمرو وبشهادة جميع أبنائها وباجماع عفوي قلّ نظيره، فقدت انسانا مميزا.. مميزا بعلاقاته الاجتماعية المتشعبة وصديقا لكل الناس سواء من خالفه الرأي أو وافقه فيه، معطاء الى حد لا حد له سواء كان من خلال خدمته في البلدية عضوا ونائبا وقائما بأعمال الرئيس، أو في مجال خدمة جمهور الآباء والأجداد من خلال نشاطه في جمعية وبيت المسن، أو في مجال خدمة كنيسته من خلال نشاطه في المجلس الرعوي ومتابعة نشاطات الكنيسة العمرانية والانسانية، هذا ناهيك عن رعايته لعائلته واهتمامه بكل صغيرة وكبيرة وحرصه عليها وحمايته لها.
ليس غريبا أن يترحم جميع الناس سواء من عرفه أو سمع عنه، ليس في شفاعمرو فحسب، على روح الفقيد ويأسف على رحيله المفاجيء، ويستذكر أعماله ونشاطاته وخصاله.. حقا خسارة كبيرة ليس لأننا فقدنا انسانا شهما ومعطاء مثل أبي الجميل، بل لأننا ولأن مجتمعنا يفقد شيئا فشيئا أعلاما وشخصيات نادرة بهذه الصفات والخصال والتي نبكي حضورها وتاريخها ولا نبكي شخصها.. لأننا نشعر ونحن نودع بين حين وآخر نموذجا ساطعا ومعطاء مثل أبي الجميل، انما نودع شيئا جميلا في مجتمعنا وحاضرنا وتراثنا.. هذه هي الخسارة الحقيقية التي ألّمت بنا برحيل أبي الجميل المفاجيء الى حد الصدمة.
عرفت المرحوم جارا تفتحت عيناي على مقابلته يوميا، فالبيتان متقابلان بناء وحجرا لكنهما متداخلان روحا وبشرا.. بل في أحيان كثيرة تعانقا وكأنهما بيت واحد.. كما كان حال البيوت الشفاعمرية والعربية. كان أبو جميل نعم الجار الصادق الصدوق، الخادم الخدوم، الحريص على جيرانه كحرصه على أهل بيته، والحارس على بلده كحراسته لحارته.
دخل المعترك السياسي المحلي ووصل الى دار البلدية عضوا وتسلم عدة مهام فيها حتى وصل الى مهمة القائم بأعمال رئيس البلدية.. خدم جميع المواطنين ومن كافة الأحياء ومثّل جمهوره باخلاص وأمانة.. لم يخجل من أي عمل كان غيره ينأى بنفسه عنه. كان من أوائل من طبّقوا نهج التعددية دون أن ينظّر لها، لم يعاد أو يجاف خصومه السياسيين، بل اكتسب احترامهم ومودتهم بسلوكه الانساني الصريح، تقبّل الآخر ولم يعمل على تغييره.
كان رجل العطاء والتطوع دون حدود.. لم يأبه يوما للراتب وصبّ جهوده نحو خدمة مجتمعه. لم يكن لعطائه شروط أوموقع وبالتالي لم ينقطع عن أعمال التطوع وخدمة المجتمع بعد انتهاء عضويته في البلدية، بل استمر وبزخم أكبر ينشط في مجالات متعددة يعرفها ويذكرها الجميع، وذكرناها في مطلع المقال. كل ذلك قام به أبو الجميل وهو يرعى ويهتم بزوجته في أزمتها الصحية المستمرة منذ عقدين، وبشكل يومي دون أن يشكو أو يلفت نظر الناس الى ذلك، ان ما حمله وتحمله أبو الجميل في حياته تنوء به الجبال ويعجز عنه الرجال، وما أن ألم به الدّاء الخبيث، وبعد خبرة كبيرة بالحياة ردّد مع شاعر العرب، أبي الطيب المتنبي قبل أن يودع الحياة بارادته:
ولَو أنَّ الحياةَ تبقـى لحـيّ لَعَدَدْنا أَضلّنّــا الشُّــجعانــا
وإذا لَمْ يَكُنْ منَ المَوتِ بُدٌّ فَمِنَ العَجزِ أنْ تكونَ جَبانَا
رافقت الجار أنيس بشكل يومي أثناء اعدادنا برنامج إحياء ذكرى شقيقه الشهيد بدران مشيعل، الذي سقط في ظروف غامضة على خلفية نشاطه السياسي القومي حين كان يدرس في جامعة القدس، وفعلا وبمساعدة ومرافقة أبي الجميل ونجله الشاب المحامي يوسف وصلنا الى جميع أصدقاء بدران، وأعددنا كتابا عنه يليق به وبذكراه العطرة وأقمنا أمسية مميزة قبل 18 عاما. وكان قرارنا باطلاق اسم بدران على أحد الشوارع وخاصة الشارع الذي يضم بيت العائلة وبيتنا منهم، كلفتة وفاء نحو هذا الانسان الذي دفع حياته ثمن مواقفه، وكنت أتابع المرحوم أبا الجميل وهو يقوم بجهود مضنية ومثابرة متواصلة، الى أن تم اطلاق اسم بدران مشيعل على شارعنا وهو ما نفتخر ونعتز به.
مهما قلنا وعددنا سنبقى مقصرين بحق هذا الرجل، لكن أهالي شفاعمرو يحسنون تكريم الرجال، فكانت المشاركة الواسعة والصادقة في جنازة الراحل الكبير، خير تعبير عن تقدير أهالي شفاعمرو لخادمهم الأمين والذين جعلوه في المكان الأول بينما كان يمشي في الأخير، بحسب قول السيد المسيح، له المجد، حيث عرف بتواضعه فارتفع بعيون الناس. ان ما يعزينا أن أبا الجميل ترك لنا ارثا جميلا من القيم والعطاء وخدمة المجتمع بصمت، وهذا أجمل ما كان فيه.
(شفاعمرو- الجليل)