في اللحظة التي تبدأ قدماي بالمشي، تبدأ أفكاري وذاكرتي بالتحليق، يفيض قلمي فأعود إلى مكتبي وأكتب بلوعةٍ وحسرةٍ عن هذا الزمن الرهيب، تفاقمت فيه ظاهرة العنف والتلون وانعدمت المصداقية والوفاء، مات ضمير البشرية وبات مصطلح العدالة والأمن في عداد المفقودين وكثرت الخيانة والغدر بكل المعايير والمقاييس، وتضاعفت أعداد الممثلين المحترفين على مسرح الحياة لتشمل معظم طبقات وأطياف المجتمعات، والتي تزعم بالديمقراطية والقانون فيها أصبح قانون ونظام الأدغال، القوي سيد الموقف وأنا أتساءل، بحق السماء كيف بمقدوري أن أكون متفائلا وأطبق المقولة: "كن كالمصور ينقل الصورة من الزاوية الأجمل"؟! ولولا فسحة الأمل لضاقت الحياة"؟ وانقل صورة توحي بالأمل والاستقرار وهداة البال، بينما الواقع والحقيقة عكس ذلك تماما.
فالاعتراف بالحقيقة ومهما كانت مرة، أفضل مرارا من وهم زائف. فهذه المسرحية ذات المشاهد المتكررة التي لها بداية ولا نهاية لها كالخيال، لا تفارقنا حتى البحر وأمواجه العاتية الغدارة، لم ترأف بالأطفال الذين هربوا من أوطانهم من الدمار وسفك الدماء والاهانة، يبحثون عن الأمان على رماله الحريرية، فأغرقتهم أمواجهم المتلاطمة وأغرقت آمالهم وطموحاتهم وأغمضت أعينهم بلا رجعة. وما ذنب الطفل عبد الله عيسى ابن العاشرة ربيعًا، الذي تم تعذيبه وذبحه كالشّاة؟
وتبث هذه المناظر المقرفة على شبكات التواصل، والسؤال هل عبد الله وغيره من الأطفال، وُلدوا من اجل ذبحهم؟ وهل هذا الحدث كغيره من الأحداث سيمر مر الكرام، ويكتفي العالم بالإدانة والمطالبة بمعاقبة المجرمين؟ وأي كلمات وعبارات ممكن أن تصف حجم وأبعاد هذه المأساة التي تهز القلوب، ترعش الأبدان، تدمع العيون، تسد الأوردة وتكاد تقطع الأنفاس؟!
آه ثم آه، كم تمنيت أن أكون لعبد الله وأمثاله وطنًا يحميهم ويحضنهم...
يا عبد الله، جميعنا عبيد الله ليس عبيد هؤلاء السفاحين المجرمين السُفل الوحوش، عديمي الأخلاق والضمير.
صورتك أوجعتني بحق وحقيقة، ابكيتني وعلمتني البكاء بسخاء حتى صار عندي موهبة، ستظل صورتك وملامح وجهك ونظراتك المستغيثة إلى البشرية والرب لينقذك من محنتك عالقة في القلوب والذاكرة.
وما نحن بحاجة إليه أن نبصر أكثر وأكثر كي ندرك أن زمن الجاهلية قد ولى، لكن للأسف كما يبدو رجعنا إلى أيام الجاهلية والعصر الحجري، فلنصرخ معًا في ضمير البشرية جمعاء: كفى كفى لهذه المشاهد ...