يشكل موضوع الاستيطان أحد الموضوعات المركزية التي شغلت وما زالت تشغل الفكر والممارسة الصهيونيين منذ ما قبل النكبة عام 1948. وقد ازدادت الآثار السيئة للممارسات الاستيطانية منذ الاحتلال الإسرائيلي للضفة الغربية وقطاع غزة والقدس عام 1967 وعلى وجه الخصوص منذ منتصف السبعينيات من القرن الماضي وحتى اليوم. إضافة الى ذلك، فإن موضوع الاستيطان شكل، ولا يزال يشكل، معيقا مركزيا (بالإضافة لقضايا القدس واللاجئين والحدود والاعتراف بالدولة اليهودية) لأي حل سياسي في إطار المفاوضات بين الحكومات الإسرائيلية والسلطة الفلسطينية منذ اتفاق أوسلو عام 1993.
يحضر موضوع الاستيطان بشكل مكثف في وسائل الإعلام الإسرائيلية والمطروحة على جدول أعمال الحكومة الإسرائيلية ووزرائها والسياسيين عامّة، كما لا يغيب عن أشغال المحكمة العليا والعديد من مؤسسات حقوق الانسان والحركات السياسية في إسرائيل سواء المناهضة للاستيطان أم المؤيدة له.
ومن نافل القول، إن الحكومة الحالية برئاسة بنيامين نتنياهو وبمشاركة اليمين الإسرائيلي المتطرف وخصوصا حزب "هبيت هيهودي"(البيت اليهودي) برئاسة نفتالي بينت هي من أكثر الحكومات الإسرائيلية المتعاقبة دعما وتأييدا للاستيطان في كافة الأراضي الفلسطينية المحتلة وخصوصا في مدينة القدس، حتى أنه يدور نقاش بين رئيس الحكومة وحزب "البيت اليهودي" حول ضرورة إقامة "اللجنة الوزارية لشؤون الاستيطان" من أجل تعزيزه وتكثيفه. وتواصل الحكومة الحالية سياساتها الاستيطانية بما في ذلك اتخاذ قرارات بتحويل أراض من المنطقة (c) في الضفة الغربية إلى أراضي دولة لتمكين المستوطنات القائمة من التوسع عليها. ومن الملاحظ أن وزراء في الحكومة الحالية يتبارون فيما بينهم في الإعلان عن دعمهم للاستيطان. وقد جاء في تقرير للمكتب الوطني للدفاع عن الأرض ومقاومة الاستيطان أن وزير الدفاع الإسرائيلي (يعلون) تفاخر مؤخرا بأن "الاستيطان تضاعف في ظل مشاركته في حكومة نتنياهو منذ عام 2009، وبأن عدد المستوطنين في الضفة الغربية، باستثناء القدس، وصل، وفقا لإحصائيات أخيرة، إلى نحو 407 آلاف مستوطن"، مشيرا إلى أن "الحكومة تعمل بهدوء وصمت في مجال تكثيف البناء الاستيطاني، وذلك بسبب الوضع الدولي، الذي يوجّه النقد لإسرائيل عند الحديث عن بناء مئات الوحدات الاستيطانية. لذك يجب العمل بهدوء في هذا الملف". وأضاف يعلون قائلا "عليكم النظر إلى النتائج وإلى عدد المستوطنين في الضفة الغربية اليوم، فليس ثمّة أي تجمع سكانيّ في إسرائيل قد تزايد عدد ساكنيه على هذا النحو منذ عام 2009 سوى المستوطنات، وذلك لا يعود إلى التكاثر الطبيعيّ في المستوطنات، وإنما حصل بفعل البناء الاستيطاني المستمر".
ومن المثير للدهشة أن السفير الأميركي في إسرائيل صرح مؤخرا، في معرض نقد وجّهه إلى الحكومة الإسرائيلية، أن هذه الحكومة تكيل بمكيالين في كل ما يتعلق بتطبيق القانون في الأراضي الفلسطينية المحتلة، مشيرا إلى التمييز بين الفلسطينيين الواقعين تحت الاحتلال والمستوطنين. وقد جعل هذا التصريح السفير محط انتقاد وتقبيح من قبل العديد من السياسيين الإسرائيليين. إضافة إلى تصريح السفير الأميركي ُسمعت وُنشرت مؤخرا انتقادات صريحة للحكومة الإسرائيلية حول الاستيطان من قبل الأمين العام للأمم المتحدة، بان كي مون، الذي أبدى تفهمًا لما يمكن أن يقوم به الشعب الفلسطيني من نضال من أجل إنهاء الاحتلال. انضم إلى هؤلاء وزير الخارجية الفرنسي لوران فابيوس، الذي دعا إلى عقد مؤتمر دولي لتجديد المفاوضات بين إسرائيل والسلطة الفلسطينيّة، رفضته إسرائيل، حيث قال إنه "من المؤسف أن نرى بأن البناء في المستوطنات مستمر".
على ضوء هذا الوضع المركب، صدر في الآونة الأخيرة (تشرين الثاني 2015) عن دار النشر كيتر في القدس كتاب المحامية طاليا ساسون الذي نحن بصدده في هذه المراجعة: على حافة الهاوية- هل يشكل انتصار المستوطنات نهاية الديمقراطية الإسرائيلية؟.
يضم الكتاب مدخلًا عامًا، وأحد عشر فصلا وخاتمة، كما يشمل ملحقا بصلاحيات وأشكال تداخل ممارسات سلطات الدولة في إقامة المستوطنات.
قبل استعراض الكتاب ومراجعته ومحاولة تحليله ونقده، رأينا من الأهمية بمكان التعريف بالمحامية طاليا ساسون نفسها، فهي محامية عملت على مدار سنوات طويلة في النيابة الإسرائيلية العامة، ومثّلت موقف الدولة في إطار عملها في قضايا فساد وقضايا عسكرية ومدنية ودستورية، لا سيّما حين إشغالها منصب رئيس قسم الوظائف الخاصة. أما بعد استقالتها من منصبها الرسمي فأصبحت ناشطة وعضوا في العديد من مؤسسات حقوق الإنسان والمنظمات الفاعلة من أجل تقدم السلام، وقد اختيرت مؤخرا رئيسة للإدارة الدولية للصندوق الجديد لإسرائيل الذي يقدم الدعم لمؤسسات المجتمع المدني وجمعيات حقوق الإنسان المحسوبة على اليسار الإسرائيلي. ومن الجدير بالذكر أن رئيس حكومة إسرائيل في سنة 2004، أريئيل شارون أوكلها بعد استقالتها من النيابة بإعداد تقرير شامل عن ظاهرة "البؤر الاستيطانية غير القانونية في الضفة الغربية"، فاستجابت لهذا المطلب وتجنّدت على مدار أشهر للبحث ولأعداد التقرير متحديّة المعارضة الجلية والخفيّة التي أبدتها، في حينه، أوساط سياسيّة مختلفة. قدمت ساسون تقريرها، الذي اشتهر بحمل اسمها فأشهرها. وكما كان متوقعًا، كان التقرير محط نقد من اليمين واليسار معا.
من خلال مدخل الكتاب، تستعرض ساسون نشأتها الاجتماعية، وتطورها المهني، والوظائف التي اشغلتها، وقناعاتها الشخصية وقيمها المهنية، وبعض المواجهات التي خاضتها، ومسار ترقّيها في المناصب في إطار النيابة العامة، والصلاحيات التي أُوكلت إليها والمعضلات التي واجهتها لا سيّما في حالات تعارض مواقفها الشخصية ومعتقداتها مع موقف الدولة والمؤسسة الرسمية، (وقد أوردت على سبيل المثال التناقض بين موقفها الشخصي والواجب الذي تفرضه عليها وظيفتها التي اضطرت فيها إلى تمثيل موقف المستشار القضائيّ للحكومة في قضية منع حزب التجمع الوطني الديمقراطي والدكتور عزمي بشارة من المشاركة في الانتخابات للكنيست في عام 2003، على الرغم من معارضتها لقرار المستشار القضائي). وتؤكد ساسون في المدخل على رغبتها في تحقيق التوازن بين المصالح الأمنية لإسرائيل من جهة وحماية حقوق الإنسان من جهة أخرى.
إضافة إلى ما سبق، عدّدت ساسون من خلال المدخل العام للكتاب الأسباب التي دفعتها لنشر هذا الكتاب:
الرغبة في التوثيق، كونها شاهدة على سيرورة ذات أبعاد وتبعات تاريخية معينة من الممكن أن يكون لها تأثير على المستقبل، لكون هذه المرحلة تشكل فصلًا من تاريخ العلاقات المضطربة بين إسرائيل والضفة الغربية يؤثر بطبيعة الحال على مجمل العلاقات مع الشعب الفلسطيني. لهذا، تعتقد الكاتبة أن هنالك أهمية لوصول هذه المعلومات إلى كل مواطن مهتم بما يحدث في البلاد.
الدافع الثاني هو شعور الكاتبة بأهميّة إشراك الجمهور العام بطريقة فهمها لما يحدث الآن في هذه المرحلة، عشرة أعوام بعد نشر التقرير، في مجال العلاقة بين إسرائيل والضفة الغربية، وهي علاقة مركبة جدا ذات جوانب سياسية وقانونية مترابطة ومتداخلة، حيث أنه، من ناحية، ليس لإسرائيل سيادة في الضفة، لكنها على الرغم من ذلك تتصرف في الضفة وكأنها صاحبة السيادة.
وتعتقد الكاتبة أن الوضع الحالي الذي يتميّز بوجود الاستيطان وبالاستمرار في بناء مستوطنات جديدة يمسّ بشكل جوهري "بالديمقراطية الإسرائيلية"، لا بل يهدّد وجود إسرائيل كدولة " قومية للشعب اليهودي". وتعتبر الكاتبة نفسها من الأشخاص المرتبطين شعوريًا بالدولة والمُحبين لها منذ نشأتها، وتوجّه كتابها للذين يؤمنون بأن على الدولة أن تغيّر توجهاتها إذا كانت ترغب بالحفاظ على مبادئها الأساسية.
وتستذكر الكاتبة، من خلال الفصل الأول، استدعاءها من قبل المحامي دافيد فايسغلاس، مدير ديوان رئيس الحكومة شارون آنذاك، وطلبه إليها أن تبحث مسألة المستوطنات "غير الشرعية" وذلك بعد أن طلبت الإدارة الاميركية برئاسة بوش الابن معرفة وضع الاستيطان، وماذا تعمل الحكومة لمواجهته. كما أشارت، في هذا الفصل، إلى أن الدافع الملح لكتابة التقرير كان قدوم كل من رئيس مجلس الأمن القومي الأميركي آنذاك ستيف هدلي والمستشار وليم أبرمز إلى المنطقة لبحث هذه المسألة، ما دفع شارون إلى إبداء جديّة بواسطة تعيين محامية قديرة لإعداد تقرير شامل يعرض كل التفاصيل والمعطيات والاستنتاجات والتوصيات في الشأن المذكور. وقد خصص رئيس الحكومة لهذه المهمة 60 يوما فقط مُدِّدت بعد ذلك لستة شهور، علمًا بأنها لم تحظ خلال تأدية مهمتها بأي مساعدة تقنية، بل ووجهت أحيانا- حسب قولها- بمعارضة من قبل شخصيات سياسية ومهنية وقوى يمينية حاولت تصعيب مهمتها.
في الفصل الثاني للكتاب، تذكر الكاتبة أنه في الفترة الممتدة بين الأعوام 1999-2000، إبان فترة رئاسة إيهود باراك للحكومة ثم فترة حكم أريئيل شارون (2001-2006)، وعلى الرغم من عدم مصادقة الحكومة على بناء أي مستوطنة جديدة، زاد عدد المستوطنات والمستوطنين حتى باتت خارطة الضفة الغربية مختلفة تماما، فمنذ أواسط تسعينيات القرن الماضي وحتى موعد تقديم تقرير ساسون إلى حكومة شارون، في آذار عام 2005، أقيمت في الضفة الغربية نحو 105 بؤر استيطانية ( شكّلت بدايات لبناء مستوطنات جديدة). بالإضافة إلى ذلك أقيمت مئات الحارات والضواحي الجديدة غير القانونية في إطار توسيع المستوطنات القائمة.
وتضيف الكاتبة، في هذا الفصل، بأنه منذ عام 1967 تُفرض وقائع جديدة على أرض الواقع وتُبنى المستوطنات سواء بموافقة الحكومة أو بدونها، وتقول إن حكومات باراك ونتنياهو وشارون لم تقل "لا" للاستيطان، أو ربما قالوا "لا" على الورق فقط، أما من الناحية الفعلية فقد دعموا الاستيطان وأيّدوه. وتواصل الكاتبة في الفصل شرحها المفصّل للطريقة التي يعمل بها الاستيطان مستعينة بالاتخاذ من مستوطنة "مجرون" نموذجًا للتعاون بين المستوطنين والجيش والوزارات والمحاكم، الذين يعملون معا، أو لعدم قيام السلطات المذكورة بدورها كما يجب. وتبيّن كيف أن الكذب والاحتيال والتعامي وتضييع الوقت تنصبّ في خدمة الاستيطان الذي يقوم بسرقة الأراضي الخاصة والعامة من أجل توطين اليهود والسيطرة على الأراضي الفلسطينية.
وتبيّن الكاتبة كيف أثّر التقرير الذي أعدّته على الخطاب العام، وكيف استخدمت المعلومات الرسمية التي نشرتها هي من قبل جهات متعددة وخصوصا منظمات يسارية في توجهها إلى الرأي العام أو إلى المحاكم.
في الفصول التالية، تستعرض الكاتبة سير عملها على إعداد التقرير متعمقة بشرح وتفصيل النظامين القانونيين الإسرائيلي والدولي المتعلقين بالاحتلال، وكيفية تعامل المحاكم الإسرائيلية مع الاحتلال الإسرائيلي للضفة في مسائل مصادرة الأراضي والاستيطان. كذلك تسرد الكاتبة بتوسّع القضايا المركزية والُمؤسِسة التي ناقشتها المحكمة العليا حول إقامة المستوطنات على مدار سنوات الاحتلال، والتحولات التي جرت في هذا الخصوص. كذلك تستعرض الجوانب المختلفة لمسألة ملكية الأراضي الخاصة والعامة وطريقة وضع الدولة الأراضي الفلسطينية في خدمة مصلحة المستوطنين اليهود فقط، وتبيّن كيف أن الدولة والقانون لم يأخذا بعين الاعتبار المصالح العامة للفلسطينيين. وتنتقد ساسون تخاذل وتواطؤ الجهاز القضائي مع الاحتلال. وتتوقف الكاتبة على قضية اغتيال رابين مدعيّة بأن هدف قتله من قِبل شخص يمينيّ متطرف يرتبط ارتباطًا وثيقًا بالاستيطان في الضفة الغربيّة. وتضيف الكاتبة قائلة إن رابين أراد إخلاء المستوطنات وأوقف بناء مستوطنات جديدة، ولذلك عوقب. وتنهي الكاتبة الفصل الخامس بقرارات حكومة نتنياهو الأولى، التي اتخذت بعد مقتل رابين، وقد أتاحت هذه للاستيطان فرص توسع جديّ.
في الفصل السادس، تتطرق الكاتبة إلى عمل أشخاص ذوي توجهات أيديولوجية متطرفة في "وزارة الدفاع"، دون معرفة الوزراء أحيانا، وبصورة مخالفة للقانون، من أجل دعم الاستيطان. تبوأ بعض هؤلاء الأشخاص مناصب رفيعة بعد ذلك في مؤسسات المستوطنين. وفي الفصول التالية تسرد الكاتبة العديد من اللقاءات التي جمعتها أثناء وضع التقرير مع شخصيات دبلوماسية وسياسية وأمنية، كما تقتبس مقتطفات عديدة من التقرير الذي أعدته وتستعرض محاولات التأثير عليها والتخبطات التي واجهتها أثناء كتابة التقرير وعرضه وتسليمه، كما تشرح أسلوب تعاطي حكومة شارون وهي التي تبنت توصياته وأقامت لجنة وزاريه لتنفيذه. بعد ذلك، تعدّد بعض التوصيات القليلة التي نفذت وتتحدث عن إسهام التقرير في التأثير على الرأي العام، ولكن مع الاستمرار في بناء المستوطنات.
في الفصل العاشر، تعود الكاتبة إلى تناول قضايا جديدة عرضت أمام المحكمة الإسرائيليّة وكيفية تعاطيها معها والاختلاف في الرؤى بين القضاة، لا سيّما على أثر فك الارتباط مع قطاع غزة، وموقف الجمهور من المحكمة العليا. كما تطرقّت إلى قيام نتنياهو، إبّان ولايته الثانية، بتعيين لجنة برئاسة قاضي المحكمة العليا المتقاعد ادموند ليفي، المعروف بمواقفه اليمنية والمؤيدة للاستيطان، بهدف تجاوز تقرير ساسون وإرضاء اليمين. وقد قامت هذه اللجنة بعرض وجهة نظر قانونية مختلفة عما عرضته ساسون، حيث أن اللجنة تنفي سريان القانون الدولي ووثيقة جنيف الرابعة على أراضي الضفة، وبذلك لا تكون إقامة المستوطنات عملا منافيا للقانون. وأشارت الكاتبة إلى أن تقرير ليفي يتناقض مع قرارات المحكمة العليا نفسها. تنتقد الكاتبة بشكل صريح ومباشر توصيات لجنة ليفي وتعتبرها منافية للقانون الدولي والإسرائيلي ولقرارات المحكمة العليا، وتذهب إلى أبعد من ذلك قائلة بأن هذه التوصيات تضرب مكانة إسرائيل أمام المجتمع الدولي، وتهدد "النظام الديمقراطي"، وبقاء إسرائيل "كدولة يهودية"، وتقود إلى الاقتراب من حل الدولة الواحدة ثنائية القومية.
ومن خلال الفصل الأخير الذي حمل العنوان "المستوطنات فوق كل شيء"، تقول الكاتبة إن استعراض سياسات الحكومات الإسرائيلية منذ عام 1967 حتى اليوم يفضي إلى خلاصة مفادها أن المستوطنات الإسرائيلية في الأراضي الفلسطينية المحتلة تقف فوق كل شيء، فوق القانون وأسس الديمقراطية وفوق كل مبدأ او قيمة أخرى في إسرائيل. وكل من يعترض أو يحاول الوقوف بوجه هذا التيار يُشوّه ويُقصى جانبا. وتقول أيضًا إنه في الماضي ساد الاستيطان نتيجة لتشويه وتهميش القانون الدولي وعدم التدخل الجاد من قبل المحكمة العليا بحجة أن الموضوع غير قابل للتقاضي أمام المحاكم. بهذه الطريقة، سمحت المحكمة للحكومات الاستمرار في الاستيطان ولم توقفها عن تنفيذ مخططاتها.
وتضيف بأن الحكومات لا تتوقف عن ابتكار وسائل وطرق مختلفة لعدم الوقوف في طريق الاستيطان مثل: إعداد تقارير لا تنفذ، أو التغاضي عن بعض تلميحات المحكمة العليا، أو تعيين لجان لتجاوز قرارات المحاكم ووضع تقارير بديلة لتلك التي تتعامل بجدية مع الاستيطان.
وتخلص الكاتبة إلى أن حكومات إسرائيل تعمل ضد المواثيق الدولية وضد المجتمع الدولي، الأمر الذي من شأنه أن يهدد مكانة إسرائيل ويمس بعلاقاتها مع الولايات المتحدة. كما أن هذه السياسات سوف تؤدي إلى فرض عقوبات على إسرائيل تمس بمكانتها ومصالحها الاقتصادية. وتجزم الكاتبة بأن الحكومات الإسرائيلية تعمل ضد مصالح الدولة، مضيفة أن المجتمع الإسرائيلي نفسه يرفض النظر إلى المرآة ورؤية الواقع الخطير. وتؤكد ساسون أن الحكومات استغلت القانون والنظام القضائي كوسيلة لشرعنة الاستيطان.
في هذا الفصل أيضا، تعود المؤلفة إلى استعراض سياسات رؤساء الحكومات المتعاقبة منذ حكومة بيغن الأولى حتى اليوم، وسياسة كل واحد منهم تجاه الاستيطان، ما أوصل عدد المستوطنات في الضفة الغربية في الوقت الراهن إلى نحو 123 مستوطنة وثلاث مدن كبيرة و100 بؤرة استيطانية، وهذا، بطبيعة الحال، مناف للقانون الدولي. وتوجه الكاتبة النقد مرة أخرى إلى المحكمة العليا التي لم تعمل على حماية حقوق الفلسطينيين الواقعين تحت الاحتلال، بل بالعكس ساهمت في تكريس الاستيطان. وتوضح الكاتبة حقيقة أنه لا توجد أي أسباب أمنية ممكن فهمهما من أجل شرعنه الاستيطان وتلقي كامل المسؤولية على الحكومات في نشوء واستمرار هذا الوضع، كما تنحاز إلى موقف الأشخاص الذين لا يميِّزون بين مستوطنات قانونية وغير قانونية في الضفة والقدس، فجميع المستوطنات غير قانونية وفقًا للمواثيق الدولية.
وفي محاولتها استشراف المستقبل، تقول الكاتبة إن هنالك ثلاثة احتمالات مستقبلية فيما يتعلق بالعلاقة مع الفلسطينيين، أ: استمرار الوضع القائم الذي سيقوِّض الديمقراطية الإسرائيلية ويمس بحقوق الفلسطينيين ويمسّ بالطابع اليهودي للدولة. ب: ضم الضفة إلى إسرائيل وتحوّل إسرائيل إلى دولة ثنائية القومية، ج: تقسيم البلاد إلى دولتين إسرائيل وفلسطين. وتنهي الكاتبة كتابها محذرة المجتمع الإسرائيلي من الوضع الراهن داعية إياه إلى العمل على تغيير الواقع وعدم تقديم الذرائع والتنصل من المسؤولية لأن "الاحتلال والسيطرة على شعب آخر يمسان بجوهر النظام الديمقراطي وبالدولة كدولة"، وعلى "السياسيين الإسرائيليين قول الحقيقة للمجتمع". وهذا كله يتطلّب قيادة شجاعة ومسؤولة مستعدة للتضحية ولدفع الثمن.
تعود أهميّة هذا الكتاب في نظري إلى عدة أسباب، منها أن مؤلفته كانت موظفة رفيعة المنصب في النيابة العامة مما أكسبها دراية كبيرة حول موضوع الكتاب، ناهيك عن خبرتها القانونية ومعرفتها في مجال القانونين الإسرائيلي والدولي. وتنتمي الكاتبة من الناحية السياسيّة إلى التيار المركزي داخل المجتمع الإسرائيلي وتدافع "عن مصالح الدولة". هذا إضافة إلى أن الكتاب يسرد بالتفصيل سيرورة وضع التقرير المفصل عن الاستيطان، الذي يشكل أساس الكتاب، ما يتيح المجال لفهم السياسة الإسرائيلية في مجال الاستيطان بعمق. وثمّة أهمية لإقرار الكاتبة بأن التقرير لم يخرج إلى حيز التنفيذ بل ابتدع النظام السياسي وسائل عديدة لتجاوزه وتفاديه. وتكشف الكاتبة في الكتاب عن التعاون بين القضاء والسياسة وكيفية تسخير النظام القضائي لدعم الاستيطان. تؤكد الكاتبة على أهمية القانون الدولي الذي يمنع ويحرم الاستيطان. لهذه الأسباب وغيرها من شأن هذا الكتاب أن يضيئ جوانب مهمة تعمّق فهم صيرورة الاستيطان.
من جهة ثانية، نلاحظ أن اللغة التقريرية السردية الجافة المليئة بالمصطلحات القانونية، والآراء والمواقف المتخصصة بالقانون قد غلبت على الكتاب، إضافة إلى كونه مليئا بالانطباعات الشخصية دون التعمق بما فيه الكفاية في الجوانب السياسية. كما أن الكاتبة تركزت في قضية الاستيطان والمستوطنات فقط دون التطرق إلى كامل الجوانب المتعلقة بالصراع الإسرائيلي-الفلسطيني. وفي الكثير من الحالات التي جاء ذكرها في الكتاب، بقيت الكاتبة متفهمة لاعتبارات المحكمة العليا المتعلقة بالفلسطينيين وحذرة في انتقادها، بخلاف بروفسور دافيد كريتشمر الذي قال بشكل قاطع بأن "المحكمة العليا استخدمت كوسيلة منحت الشرعية للاستيطان، من خلال منح الشرعية لخرق القانون الدولي الإنساني بدل الدفاع عن حقوق الإنسان للشعب الفلسطيني".