في خطاب "الستار الحديدي" المشهور، الذي تم القاؤه في جامعة بولتون في الولايات المتحدة، حذر ونستون تشرتشل العالم من نوايا روسيا السوفييتية المعادية، كإشارة على بداية الحرب الباردة بين القطب الشرقي برئاسة موسكو وبين العالم الحر برئاسة الولايات المتحدة. هل نحن الآن أمام نسخة جديدة؟.
للوهلة الاولى هناك خطوط موازية بين سلوك الاتحاد السوفييتي وبين روسيا بوتين. ولكن هناك أيضا فوارق كبيرة. أولا، مكانة روسيا الآن، رغم تقدمها في مجالات كثيرة في السنوات الاخيرة، لا تُقارن بالقوة الجيوسياسية والعسكرية التي كانت للسوفييت في حينه. ثانيا، اذا كانت دوافع موسكو في الفترة الشيوعية، ظاهريا على الأقل، ايديولوجية أيضا وتجسدت في الجهد الكبير لاقناع العالم بأن النموذج الاقتصادي الشيوعي أفضل من الاقتصاد الحر، فان الايديولوجيا التي تشجع القيادة الروسية الحالية هي اعادة مكانتها كزعيمة إلى جانب الولايات المتحدة حتى لو كان الثمن هو التصادم المتواصل معها.
في الحرب الباردة كانت أحداث هددت بتحويلها إلى حرب "ساخنة" – حرب يوم الغفران، الحصار السوفييتي لبرلين وازمة الصواريخ في كوبا. واليوم أيضا هناك منحى عسكري رمزي مثل تواجد الاسطول الروسي المعزز في البحر المتوسط، ووضع الصواريخ الروسية في ميناء طرطوس والنبأ الطازج حول المناورة العسكرية المشتركة بين روسيا ومصر (في الوقت الذي تستمر فيه الاخيرة في الحصول على المساعدات العسكرية الأميركية السخية). ولكن كل ذلك لم يتحول بعد إلى تهديد حقيقي بالحرب. ويمكن القول إن روسيا تدرك تفوق الولايات المتحدة العسكري.
المتحدثون في الجانبين يختلفان فيما بينهم حول الاسباب التي أدت إلى تدهور العلاقات. في نظر الغرب حدث الانفجار في العام 2014 في اعقاب نشاط روسيا في اوكرانيا وضم شبه جزيرة القرم، في الوقت الذي تزعم فيه موسكو أن الغرب يضر باحترامها على مدى عشرات السنين. وبشكل فعلي يعمل على تقليص مكانتها في الاماكن التي اعتبرتها دائما الواجهة الأمامية أو الساحة الخلفية لها: البلطيق، البلقان، جورجيا، دول في وسط آسيا واوكرانيا أيضا التي ولد التاريخ الروسي كله في عاصمتها كييف.
لعب الشرق الاوسط دورا مركزيا في تلك الحرب الباردة، وأيضا في الصراع الحالي. ولكن مع فوارق أساسية. روسيا الشيوعية، خصوصا في عهد ستالين، اعتبرت الصهيونية عدوا يهدد وجود النظام والايديولوجيا الشيوعية. واضافة إلى ذلك، تحولت إسرائيل دون رغبة منها إلى عامل مركزي في ألعاب القوى في الشرق الاوسط، حيث لعب الاتحاد السوفييتي دور في رعاية العالم العربي الراديكالي، سياسيا وعسكريا، بما في ذلك الفلسطينيين، والولايات المتحدة كانت المدافعة عن إسرائيل. هذا الفصل انتهى بانتصار إسرائيل والسلاح الأميركي في حرب يوم الغفران وقرار الرئيس المصري، السادات، الانضمام إلى المعسكر الأميركي (رغم استمرار موسكو وحلفائها بمنح المساعدة للمنظمات الارهابية الفلسطينية).
في الصراع بين القوى العظمى الحالي في الشرق الاوسط، تغير الوضع، سواء تجاه إسرائيل التي تقيم معها روسيا بوتين علاقات سليمة، بل وصداقة، وأيضا بالنسبة للاعبين المختلفين في العالم العربي والاسلامي. عامل آخر: سياسة الولايات المتحدة التي مكّنت روسيا من لعب دور أكثر فعالية في المنطقة، لا سيما في سورية. حتى الآن لم يؤثر ذلك في العلاقات بين القدس وموسكو، ولا بقدرة إسرائيل على العمل العسكري ضد الجهات التي تهدد أمنها، وإسرائيل تصمم على أن لا يتغير هذا الأمر.
إن ما يقلق أكثر هو توسع ايران في المنطقة، حيث يبدو احيانا أن الولايات المتحدة وروسيا تتنافسان بينهما على توطيد العلاقة معها. فواشنطن تتجاهل الاخلالات والتجاوزات في موضوع الصواريخ وعن دورها كحليفة اولى للرئيس الاسد. أما روسيا فتتعاون معها ليس فقط في سورية، بل أيضا في امور مثل الطاقة النووية ("للحاجات السلمية") وتوفير الصواريخ من اجل الدفاع الجوي. هذه هي أوجه "الحرب الباردة" الحالية. وإسرائيل ستستمر في بذل الجهد من اجل أن تمر موجات الحرب هذه من فوقها دون إحداث أضرار.
المصدر: العرب والعالم