فوز ترامب غير المتوقع، وقع كالزلزال على رؤوس الجميع، وعلينا من الآن، أن نشرع في البحث عن كل معلومة أو واقعة، يمكن أن تسهم في تشكيل تصور عن شخصية الرئيس وخلفيته، وهو الذي يأتي إلى البيت البيضاوي، من غياهب المجهول.
في التاريخ الأمريكي الحديث، ثمة واقعة مشابهة من حيث الشكل ... رونالد ريغان أحد أقوى الرؤساء الأمريكيين في المنقلب الثاني من القرن الماضي، جاء من استوديوهات هوليوود، ومن قائمة ممثلي الدرجة الثالثة أو الرابعة، ليتربع على عرش "العالم الحر"، وليقود حرباً شعواء ضد "إمبراطورية الشر السوفياتية"، ولتكون له بصمته الكبرى في انهيار المعسكر الاشتراكي وانتهاء نظام القطبين.
نقول، إن ثمة تشابه في الشكل بين الرئاستين، المنتميتان إلى معسكر الجمهوريين المحافظ، ولكن هل سيعيد ترامب انتاج سيرة ريغان، فيحظى بلقب الزعيم الأقوى للولايات المتحدة في مفتتح القرن الحادي والعشرين؟ ... هو وعد بذلك، وصمم حملته الانتخابية على هذا الأساس، ولكن التجربة علمتنا أن نلزم جانب الحذر في إطلاق النبوءات والتكهنات، فالمسافة غالباً ما تكون، واسعة ما بين المرشح الرئاسي، والرئيس حين يتربع على مكتبه ويحمل بين يديه "علبة الأزرار النووية".
سيمضي وقت طويل، قبل أن نعرف كيف فاز الرجل، أو بالأحرى، كيف اكتسح رجل بلا خبرة ولا خلفية، صناديق الاقتراع، وكيف هزم جميع مؤسسات قياس الرأي العام ودور الاستطلاع بلا استثناء .... وستُكتب عشرات الدراسات وألوف المقالات التي ستتناول التحولات في المجتمع الأمريكي، من حيث سياقاتها وأسبابها وتداعياتها، وهو امر سيكون مثير للغاية لكل من لديه فضول معرفي يتصل بالدولة الأعظم في العالم.
لكن ما يهمنا في هذا المقام، هو كيف سينعكس "تسونامي ترامب" على منطقتنا وقضايانا المتفجرة والمفتوحة والمشتعلة؟ ... وكيف سقط خبر فوز ترامب على رؤوس الحكام العرب الذين لا يخفى على أحد، أن لكل واحد منهم، مصلحة مع واشنطن وقصص يرويها عن إدارتها ... وفي هذه المقالة، سنسعى لقراءة مواقف أبرز العواصم العربية والإقليمية، التي تتخفى بالعادة، خلف برقيات التهنئة والتبريك.
نبدأ بأقدم نزاعات المنطقة وصراعاتها، فالقضية الفلسطينية مع ترامب أو كلينتون، لن تحظى بصديق في البيت الأبيض، كلهما قطع ما يكفي من التعهدات والالتزامات أثناء حملته الانتخابية، تصب جميعها في صالح إسرائيل، وتخدم الرواية الصهيونية الأكثر تطرفاً، حول القدس والاستيطان و"حل الدولتين" ... والفلسطينيون خبراً مروحة واسعة من الرؤساء المتعاقبين الذين لم تجد قضيتهم الحل مع أي منهم ... تعاملوا مع جمهوريين أطلقوا عملية السلام، ومع ديمقراطيون تابعوها بهذا القدر أو ذاك من الاهتمام، لكن علاقات تل أبيب الاستراتيجية مع واشنطن، ظلت عابرة للأحزاب والإدارات والزعماء على مدى ستين عاماً أو يزيد.
ونمر بسوريا، الازمة الأكثر تعقيداً، من بين أزمات المنطقة جميعها، وعلى الرغم من عدم مبادرة الرئيس الأسد لتهنئة ترامب، إلا أن من تابع الإعلام المحسوب على دمشق، أيقن أن العاصمة السورية، باتت أكثر ارتياحاً، وهي تودع أوباما، وتتأكد من سد الأبواب في وجه كلينتون وتستقبل دونالد ترامب ... هناك رهانات كبيرة في سوريا، على تعاون أمريكي – روسي، يمكن أن يفتح باب الحل السياسي ويرجئ ملف "الانتقال السياسي" ويستوعب الأسد لسنوات إضافية في السلطة، ويشدد الحرب على الإرهاب ويصعدها.
ومن خلف دمشق، تبدو طهران، في منزلة بين منزلتين، فالرجل قد يكون "متعاوناً" في الحرب على الإرهاب (واستتباعاً متغاضياً عن الأسد ونظامه)، بيد أنه في المقابل، أطلق تصريحات متشددة فيما خاص برنامج اتفاق النووي واتفاق فيينا، وهو ما زال يؤكد الحاجة لاحتواء إيران ومنع تمدد نفوذها ... أما موسكو، فقد اتهمت بأنها من شن حرباً "سايبيرية" لاختراق البريد الالكتروني لكلينتون وحملتها، دعماً لترمب المتهم بصداقة بوتين والإعجاب به ... من تابع روسيا اليوم، ظن أن ترامب هو مرشح موسكو وليس مرشح الحزب الجمهوري.
وننعطف صوب القاهرة التي استقبلت ترامب بارتياح بالغ، والسيسي سبق وأن أجرى محادثات معه قبل عدة أشهر، وهي مطمئنة إلى ارتفاع منسوب اهتمام الرجل بالحرب على الإرهاب، وقلة التفاتته لحقوق الانسان والتحول الديمقراطي، فهل تريد القاهرة الرسمية، ما هو أكثر من ذلك، وفي هذا الوقت بالذات؟
على السعودية وقطر خصوصاً، ودول الخليج عموماً، أن تقلق بعض الشيء من مجيء رجل الأعمال المشبع بنظرية “No Free Meal” سيما بعد أكد مراراً وتكراراً اتهامات سبق لأوباما أن وجهها لهذه الدول، وتعهد تدفيعها ثمن أية "خدمات أمنية" يمكن أن يقدمها لها، إذ ولى برأيه زمن "الكسل" و"الاعتماد على واشنطن للقيام بالأدوار نيابة عنهم" ... الرجل من أنصار المدرسة التي تؤمن بالبحث عن "الأسباب الإيديولوجية" لانتشار الإرهاب، وفي هذا السياق، فهو دائم الإشارة بأصابع الاتهام لهذه الدول أو بعضها على الأقل.
تركيا بلا شك، ليست سعيدة بهذا النتائج، ولأسباب تتعلق بتراجع قدرتها على اللعب على وتر الصراع الروسي – الأمريكي المرشح لبعض التهدئة، ولكنها شأنها في شأن إيران، تمتلك من الأوراق والأدوات، ما سيمكنها من إدارة اختلافها مع الساكن الجديد للبيت الأبيض، بدرجة عالية من القوة والاستقلالية ... أما الذين استوطنهم مرض فقدان المناعة المكتسبة، فأغلبهم يستوطنون العواصم العربية، كقادة وزعماء.