واظبت الولايات المتحدة الأميركية طوال العقود الماضية على استهلاك عمليّة رتيبة للإعداد المعنوي الشعبي، لدى كل انعطافة سياسية أو أمنيّة مهمة. وجاءت الانتخابات الرئاسية في هذا الوارد لتقدم «دليلاً» كاملاً لكيفيّة صناعة الرؤساء، على الأقل بالمجهود الإعلامي. فمنذ المناظرة الشهيرة بين الرئيسين الراحلين جون كينيدي وريتشارد نيكسون العام 1960، أدرك «الديموقراطيون» قبل غيرهم أن «تهيئة» الرؤساء أمر مختلف عن «صناعتهم»، وأنه قد بات للإعلام المرئيّ منذ ذلك اليوم حصة الأسد في عمليّة التسويق، وأن الفائز في المناظرات العلنيّة يفتح الأبواب على مصاريعها للذهاب إلى نهاية المطاف. وقد ظهر هذا الأمر بشكل جلي في الأيام التالية من مناظرة المرشحين نيكسون وكينيدي، عندما زار الأخير ولاية أوهايو في الوسط الغربي، ولاحظ ارتفاعاً هائلاً في أرقام المعجبين والمناصرين على جانبي الطريق مع مرور موكبه بين المنازل، في تبعات مباشرة لظهوره في المناظرة.
يقول مؤرخ الإعلام الأميركي ألان شويدر في كتابه (Presidential Debates: Forty Years of High-Risk TV)، «إن المناظرة الرئاسيّة المتلفزة الأولى شكلت لحظة فريدة شهد فيها العالم تبدلاً درامياً في السياسية وفي دقائق فقط». وعلى هذا المنوال استمرت الولايات المتحدة في إعادة تدوير أدواتها الإعلامية، بما يصب في النهاية في دفاتر «الحسبة» النهائية، التي ارتضتها المؤسسة الأميركية «قانوناً» ثابتاً في إنتاج القادة، ضمن عمليّة تسويقيّة رتيبة ودائمة النجاح. وتقوم هذه العملية على آلية بسيطة، تستقبل المرشحين بعد مرورهم باستحقاقات «الغرف المغلقة»، وكذلك حزم العلاقات العامة، وتعمد الى تحويلهم لمنتج دعائي سياسي، يلاقي ما أمكن من ملفات أو تطلعات شعبية، إنما ضمن أدبيات محددة وخطابة «رصينة» ورتيبة، يصعب انتقاء الفوارق فيها بين الخصوم، حتى أضحت آلية توقع النتائج الرئاسية متاحة للجميع، من خلال قراءة نتائج المناظرات ومن بعدها استطلاعات الرأي.
لم تغفل المكاتب الإعلامية في الحزبين «الجمهوري» و «الديموقراطي» أهميّة الشكل في التسويق، خاصة بعد تمكن كينيدي من حصد إعجاب واسع من متابعي المناظرة الشهيرة عبر التلفاز، نظراً لوسامته والثقة التي ظهر عليها. فيما حصد نيكسون إعجاب الغالب من نسبة الـ11 في المئة من الذين تابعوا المناظرة عبر الراديو، لما يمتلك من حنكة سياسية، لم يؤثر عليها تعرقه الشديد ومظهره المريض في الشق المرئي من «العرض». هكذا اكتملت الصورة لدى أصحاب القرار الإعلامي في الدائرة الاستشاريّة الأضيق. فالسيرة الذاتية «الحسنة» والمظهر الجيد، والخطابة الفصيحة كما حال باراك أوباما، أصبحت عوامل «تاريخيّة» في تحديد المرشحين، ومن ثم توزيع الحظوظ عليهم في السباقات الحزبية الأوليّة، وصولاً الى السباق النهائي نحو المكتب البيضاوي. لكنها قواعد تعرضت للتهشيم المريع بعد فوز الرئيس ترامب، بما يمثله من سيرة ذاتيّة «سيئة» ومظهر غير محبب وخطابة فظّة.
هزم الرئيس الأميركي دونالد ترامب واحدة من أعقد وأقدم المنظومات الإعلاميّة في العالم، إن لم تكن «_أقواها» على الإطلاق، وهو ما يفرض إعادة هيكلة شاملة للعضلة الدعائية الأميركية ودورها في «التوجيه» السياسي. فالرجل نشط خلال حملته الرئاسية ضمن أروقة إعلاميّة «غير صديقة»، إن لم تكن «عدوة». فالشبكات المتلفزة الكبرى وفي مقدمها «سي بي إس» و «إن بي سي» و «إي بي سي»، جعلت من ترامب شغلها الشاغل خلال مرحلة السباق الحزبي الداخلي، وصولاً إلى الاستحقاق الأساسي، وساعدتها في ذلك آلاف المحطات والإذاعات والمواقع المحليّة، في حملة رأي عام قد تكون الكبرى في تاريخ الولايات المتحدة، وُجّهت ضد شخص أو مرشح واحد. ما يعني أن حملة ترامب كانت وبشكل واضح للجميع، تعاني «يُتماً» دعائياً غير مسبوق، اضطُر معه الرئيس العتيد لإشغال جماعته بالسعي خلف أي نافذة للتحدث أو للظهور في سبيل تسويق الذات، مهما كان في الأمر من تحديات و «ألغام»، وقع الرجل في العديد منها.
جاء نجاح ترامب من حيث كان يفترض أن يهزم، وأصبح الرئيس الـ45 ضمن سياق كان يُفترض به إنتاج «مهزلة» وليس «قائدا». فالسرديّة التي عملت المؤسسة الإعلامية الأميركية على صياغتها طوال المرحلة الماضية فشلت، وأنتجت حاصلاً عكسياً بعدما قامت على شيطنة ترامب ارتكازاً على أدبياته وكلماته وشعاراته وحتى عثراته، ضمن قالب كوميدي ساخر، وبشكل شبه يومي. وهو ما أسهم من حيث لم يُرِدْ هؤلاء، في منح دونالد ترامب أكبر حملة «تسويق سلبي» وبمردود عكسي في التاريخ الأميركي، لاقت سلسلة غير منقطعة من المخاوف التي بني الوعي الأميركي: «الأبيض» على أساسها. فالمؤسسات الإعلامية ذاتها سوّقت، ولا تزال، فكرة السيطرة «الهسبانية» العدديّة على البلاد خلال نصف القرن المقبل، فيما تُقَدَّم «مبادرات» ترامب «العنصرية» في هذا الوارد على أنها جنون. هكذا لاقى «الجنون» هذا ارتياحاً وتقبلاً، بل حتى لجوءاً شعبياً أميركياً، وتلطياً خلف الرجل الذي يدعي إلمامه بالمشكلة، ويقدم لها حلولاً مهما بدت «رديئة» بمعزل عن إمكانية تحقيقها. وهذا الأمر ينسحب على غالبية المواضيع الشائكة الأخرى، كالإرهاب والرعاية الصحية والتراجع الاقتصادي.