بعد ربع قرن من الالتفاف المراوغ الذي اتبعته حكومات إسرائيل، تقوم وزيرة القضاء من حزب "البيت اليهودي" دون غيرها بإزالة الستار الدخاني لتقول بصراحة: الضفة هي منطقة محتلة ولهذا فإن بنود الحماية التي تنص عليها معاهدة جنيف الرابعة يجب أن تسري على سكانها.
توفر معاهدة جنيف الرابعة حماية للسكان المدنيين الذين يعيشون تحت احتلال عسكري. ومن دون حكومة مستقلة بمقدورها توفير حماية للسكان والاهتمام بهم، جاءت أحكام الاحتلال لغرض تقليص المساس بالسكان من جهة الجيش وإلزامه بالاهتمام بحقوق السكان الأساس.
إذًا من الذين تريد وزيرة القضاء حمايتهم، وممّاذا؟ وإذا كانت معاهدة جنيف تسري على المناطق المحتلة، فلماذا يقولون في "البيت اليهود" انه لا يوجد احتلال؟ منذ أول أيام الاحتلال عام 1967 وقف مسؤولو القانون أمام معضلة: كيف نتحدث عن الاحتلال في العالم؟ لو اعترفوا أنه احتلال فإن القانون الانساني يجب ان يسري عليه، اي يتوجب على الجيش حيازة المنطقة بالوصاية ولا يمكن للحكومة أن تستوطن أو ان تهدم بيوتا فيها. وإذا لم يقولوا إنه احتلال، فمعنى الأمر ضمّ يخالف القانون الدولي، وهو خطوة توجب أيضًا اعطاء حقوق ومكانة لأشخاص يسكنون في المنطقة.
يستدل من الوثائق التي تعود لعامي 1967-1968 وكشفها معهد "عكفوت"، انه كان واضحًا على الصعيد الداخلي ضرورة التزام السيطرة العسكرية بأحكام الاحتلال. ومنذ تموز 1967 روى النائب العسكري حينذاك مئير شمغار أن النيابة العسكرية أعدّت البيانات العسكرية رقم 1 و 2 اللذين يعبران عن التزام الجيش المحتل (الجيش الاسرائيلي) بأنظمة لاهاي 1907 ومعاهدة جنيف الرابعة.
ولكن مع مرور العقود، وتكرّس الاحتلال والاستيطان، تغيرت أيضًا وجهة نظر مسؤولي القانون. فتم بواسطة بهلوانيات قانونية إضفاء شرعية مرة بعد الأخرى على خطوات مخالفة للمعاهدات الدولية، وهي بهلوانيات راحت تتطور أكثر. بموازاة ذلك، اهتمت الحكومة بالحفاظ على غموض وامتنعت عن الاقرار بأن الفلسطينيين هم سكان محميون. ولكنها لم تقُل العكس أيضًا، إنهم غير محميين. وجاء في رسالة وجهها مسؤولو وزارة الخارجية الى سفير اسرائيل في واشنطن، يتسحاق رابين، بعد تسعة أشهر فقط من احتلال الضفة، ما يلي:
"كان خطنا المنهجي وما زال هو التملص من بحث الوضع في المناطق المُدارة مع جهات اجنبية على أساس معاهدة جنيف... الاعتراف الصريح من جهتنا بسريان معاهدة جنيف ستبرز مشاكل صعبة من ناحية المعاهدة بخصوص تفجير بيوت، طرد، استيطان وغيرها".
بعد سنوات عديدة من الغموض المقصود، رفضت اسرائيل خلالها توفير الحمايات الأساس للسكان الفلسطينيين، تأتي وزيرة القضاء الآن لتطالب بحماية خاصة لسكان المنطقة – شريطة أن يكونوا من سكان المستوطنات. فالمستوطنون يعيشون حقًا في منطقة محتلة تحت سيطرة عسكرية، ولكنهم يعيشون عمليا تحت القانون الاسرائيلي والديمقراطي. بالمقابل، يعيش السكان الفلسطينيون تحت القانون العسكري الذي لا يمنحهم حقوقا سوى تلك النابعة من مكانتهم كسكان محميين. حق الملكية، الذي يسعى قانون "التسوية" لمصادرته، كان آخر الحقوق التي ظلت محفوظة للفلسطينيين في قرارات المحكمة. وانتهاك هذا الحق ينضم الى حالات المساس الكثيرة والقاسية المرتبطة بالاحتلال – تقييد للحركة، هدم بيوت، وإقصاء سكان.
حاول مسؤولو القانون في الماضي، كما كشف معهد "عكفوت"، ان يوضحوا للمستوى السياسي محدوديات القانون. لكن تُطرح اليوم أدوات غريبة عجيبة على طاولة الكنيست وفي المحاكم بحيث تمكّن اسرائيل من القيام بكل ما يخطر ببالها تقريبًا. قانون التسوية وأفكار أخرى تحاول الحكومة تمريرها لن تغيّر من الحقيقة: هناك مجموعتي سكان في الضفة الغربية تعيشان تحت منظومتين قانونيتين مختلفتين. الأولى محرومة من الحقوق، والثانية لها ممثلون في الكنيست والحكومة، بل يخدمون أيضًا في الجيش الذي يسيطر على المناطق المحتلة. لا حاجة لإجراء أبحاث قضائية معقدة من أجل فهم أيّ من المجموعتين جاء القانون الدولي لحمايتها.
*الكاتبة محامية في جمعية حقوق المواطن وعضو إدارة معهد عكفوت.