بقلم إبراهيم عبدالله صرصور - الرئيس السابق للحركة ااسلامية
(1)
في كل يوم تحقق مدينة القدس وفي قلبها المسجد الأقصى المبارك انتصارات على الاحتلال الإسرائيلي الغاشم ، وذلك من خلال ما تملكه من مخزون استراتيجي روحي وتاريخي وحضاري إسلامي وعربي تتحطم على صخرته كل مؤامرات الاحتلال ومشاريع تهويده للمدينة المقدسة، هذا إضافة الى احتضانها لشعب فلسطيني اعلن عدم اعترافه بالاحتلال وبآثاره، ويسجل في كل منعطف من منعطفات هذا الصراع بين الحق الإسلامي – العربي – الفلسطيني ذي الجذور العميقة، وبين الباطل والافك الصهيوني الذي تلفظه الأرض ويمقته الانسان السَوِيّ، يسجل هو أيضا صفحات من نور ما زالت تربك حسابات المحتل الإسرائيلي وتخلط أوراقه وتفقده توازنه ، وتثبت له مرة بعد مرة انه الى زوال مهما طال الزمن ومهما بلغ ظلمه وطغيانه..
يأتي شهر رمضان ويرحل كمحطة يختلط في فضائها الديني بالسياسي، والمحلي بالدولي، والماضي بالحاضر والمستقبل، وينفخ في ارجاء القدس وعموم فلسطين بل والعالم كله روحا وثابة تحيي معاني العزة والكرامة، وتجدد توعية أبناء القدس وفلسطين والأمة بقضيتهم ومركزيتها من جهة، وتعبئة حشود المحبين والانصار والمريدين للقدس وقضيتها، لتحقيق نقلة نوعية تُضاف الى ما سبقها استقبالا لفتح من الله ونصر قريب.. هذه هي هوية رمضان الحقيقة في القدس، وهكذا نفهم رمضان الجميل والجليل في أرض الاسراء والمعراج.
(2)
الاحتلال الإسرائيلي هو الاحتلال، قلو تركت الافاعي سمها والثعالب مكرها، ما ترك الاحتلال خططه الخبيثة لالتهام القدس وتهويدها وشطب رقمها الصعب من قاموس الامة الى الابد، مهما حاول جاهدا إخفاء وجهه البشع بمساحيق الإجراءات التي في ظاهرها التخفيف من القيود على حركة المسلمين من القدس والاقصى واليهما في شهر رمضان المبارك، وفي باطنها محاولة بائسة ومكشوفة لتحويل حقنا الثابت في قدسنا وأقصانا الذي تقره الشرائع السماوية والدولية، إلى مِنَّةٍ من الاحتلال، من حيث حقه المزعوم في السماح او المنع.. نحن ببساطة لا نعترف للاحتلال الإسرائيلي بأي سلطة على المدينة المقدسة وفلسطين، وما وجودها في المدينة المقدسة الى ثمرة مرة لواقع عربي واسلامي ودولي مرير.. لن يأتي اليوم الذي نطلب فيه إذنا من الاحتلال من اجل دخول القدس او الأقصى، فهو حق رباني لا حق لإسرائيل في التدخل فيه، وإن كل محاولات إسرائيل المحتلة للمنع او السماح، إنما هو بحكم الامر الواقع الذي لا بد ان ينتهي يوما. لكل ذلك لا يمكننا الحديث عن تسهيلات احتلالية إسرائيلية في شهر رمضان، لأن في ذلك شرعنة لحق إسرائيل في ممارسة سيادة من نوع ما على القدس والاقصى.. فحرية الحركة من وإلى القدس والاقصى ستبقى حقنا الابدي مهما طال ليل الاحتلال، الذي يحاول أن يشد الأنظار إلى بعض التسهيلات التجميلية بينما هو يفتك بالمدينة ويلتهمها ويضيق على أهلها إلى درجة القتل، ويصادر ارضها وينهب مقدساتها، ويجفف أسباب الحياة فيها، تحقيقا لحلمه في (أورشليم !!!) يهودية خالصة. لذلك ادعو الجميع الى قراءة الصورة على حقيقتها وعدم الاغترار بسلوك احتلالي لطالما اثبت أنه ليس أكثر من سراب خادع.
(3)
دعم القدس والاقصى المبارك وفلسطين واجب بل فرض عين على العرب والمسلمين في ارجاء الأرض أنظمة وشعوبا، ولن يرحم التاريخ جحافل المفرطين بحقها والعابثين بحاضرها ومستقبلها، والمقامرين بمصيرها. كما ان التاريخ سيذكر أنصارها والعاملين لها والداعمين لصمودها وصمود أهلها بكل الطرق المشروعة الممكنة. القدس بحاجة الى كل الدعم المادي والمعنوي الممكن، ولكنها بحاجة أكثر إلى من يسعى لتحريرها من أيدي الاحتلال، على اعتبار أن تخليصها من قيد المحتل هو الضمان الوحيد لأمنها ونهضتها وازدهارها واستقرارها.. هذا كان في الماضي، وها ما سيكون عاجلا او آجلا.. القدس وأهلها ليسوا بحاجة إلى طعام او شراب، وان كان تفطير الصائمين في رمضان من أشرف العبادات ومن اجل لوازم الشهر الكريم، ونرحب بكل مبادرة في هذا الاتجاه طلبا للثواب... كم كنت أتمنى ان يكون رمضان هذا العام بداية لمشروع شامل ومتكامل ترصد الامة من اجله ما ننقذ به أرض المدينة المقدسة المهددة بالمصادرة، وسكانها المهددين بالطرد لتراكم الديون الباهظة المتراكمة عليهم، وترميم البيوت في المدنية العتيقة وما حولها التي تتهاوى على رؤوس أصحابها، وتعويض المئات من الذي يهدم الاحتلال بيوتهم بكل الحجج الواهية، ودعم تجارتها وحياتها الاقتصادية التي تذبل يوما بعد يوم بفعل الاحتلال وخططه المجرمة... القائمة طويلة، والمطلوب البدء قبل فوات الأوان، ولات حين مناص.
(4)
من التقاليد التي أصبحت راسخة في عالمنا الإسلامي والمرتبطة بشهر رمضان المبارك، نقل الصلوات وخصوصا التراويح من مكة والمدينة ونادرا ما يحظى الأقصى بالاهتمام، الامر الذي يجب أن تعيد وزارات الاعلام العربية النظر فيه.. من الضروري وضع القدس والاقصى في قلب التغطيات الإعلامية والصحفية من خلال نقل الصلوات وخصوصا التراويح، تفعيل طواقم إعلامية تعمل بكثافة في رمضان لتغطية كل جوانب الحياة في مدينة القدس مستثمرين الأجواء الروحانية السائدة في عالمنا العربي والإسلامي ودول العالم، وذلك بمختلف اللغات الحية. بالرغم من الجدل الدائر حول زيارة القدس والاقصى في ظل الاحتلال، وخروجا من الحرج، ادعو إلى تشجيع ملايين المسلمين في أوروبا وامريكا واسيا من غير الدول والعربية والإسلامية الى زيارة القدس والاقصى لما في ذلك من دعم لأهلها، وإسناد لصمودها، وإثبات للاحتلال ان للقدس والأقصى رب يحميهما، ومن ثم شعوب إسلامية تحميهما وتفديهما بكل غال ورخيص. كم كنت أتمنى لو ان لجنة القدس المنبثقة عن مؤتمر التعاون الإسلامي تعقد اجتماعها في هذا الشهر الكريم في مكة او المدينة، على ان يصدر عنها بيان يوضح نظريا وعمليا حرص الامة على نصرة القدس، وسعيها لتحريرها وعدم السماح للاحتلال الإسرائيلي بالعبث بها.
(5)
لا يخفى على أحد ان الاحتلال الإسرائيلي قد حرم أغلبية الشعب الفلسطيني في الضفة الغربية وغزة وحتى من الاحياء التي فصلها الجدار عن القدس، من الوصول الى القدس والاقصى والتواصل معهما، الامر الذي وضع على اكتافنا نحن الفلسطينيين داخل الخط الأخضر (فلسطيني 1948) عموما، وعلى الحركة الإسلامية خصوصا، مسؤوليات كبرى نحاول ان نقوم بها قدر المستطاع من خلال تنظيم حملات شد الرحال طول العام من كل المدن والقرى العربية في الداخل، وفي رمضان خصوصا، لدعم صمودها وصمود أهلها.. كلنا امل في دعم امتنا لهذه المشاريع وغيرها التي تعكف على تنفيذها في الداخل منذ سنين وحتى الآن (جمعية الأقصى لرعاية الأوقاف والمقدسات)، و (الجمعية الإسلامية لإغاثة الايتام والمحتاجين)، بالتعاون مع كل الجمعيات الأخرى الأكاديمية والشبابية والنسائية الممثلة للحركة الإسلامية، والتي تقاسمت أعباء هذه المهمة مع جمعية أخرى تم حظرها مؤخرا على يد الاحتلال الاسرائيلي، مما زاد من أعباء جمعياتنا التي تنفرد حاليا بهذه المهمة، الامر الذي بحاجة إلى دعم الخيرين من أبناء الامة في رمضان خصوصا وفي غيره عموما.
تستمد هذه النشاطات والمشاريع الداعمة للقدس التي تنفذها الحركة الإسلامية في الداخل الفلسطيني، أهميتها الكبرى في ظل سعي الاحتلال الإسرائيلي الدائم الى التنغيص قدر المستطاع على المسلمين في القدس في شهر رمضان وفي غيره من خلال إجراءات هدفها التضييق على تجار القدس الذي يشكل رمضان بالنسبة لهم متنفسا يعوضهم قليلا عن خسائرهم طوال العام. هذا من ناحية، ومن ناحية أخرى، يُعتبر الانتشار الامني والشرطي المكثف من أكبر العوامل التي تهدد امن القادمين إلى القدس والمتحركين في أحيائها واسواقها وساحاتها العامة، حيث التفتيش المستمر دون مبرر، والاعتراض المستفز وحتى الاعتقال في بعض الأحيان لأتفه الأسباب، كل ذلك يجعل من القدوم الى القدس مسألة تستدعي (مغامرة) ما زال اهل القدس والفلسطينيين يقتحمونها من اجل عيون القدس ودعما لها في وجه الاحتلال.. لعل تنظيم جهات إسرائيلية رسمية وغير رسمية متطرفة (الأغلبية الساحقة من الإسرائيليين متطرفون) لمسيرات مستفزة في شوارع القدس تزامنا مع أوقات صلاة المسلمين، واقتحامات بأعداد كبيرة لباحات وساحات الاقصى المبارك على امتداد شهر رمضان المبارك بالرغم مما يشكله ذلك من خطر على المصلين في هذا الشهر المبارك، والتي تتم كلها في حماية الشرطة والأجهزة الأمنية، تشكل هي أيضا إحدى المنغصات التي نواجهها في شهر رمضان المبارك. هذا إضافة إلى استمرار الاحتلال منع المئات من أبناء وبنات شعبنا الفلسطيني من كل ارجاء الوطن من دخول القدس او الأقصى بسبب نشاط هؤلاء في دعم الأقصى والقدس مما ترى إسرائيل فيها (خطرا!) يعرض مشاريعها الاستعمارية للخطر..
العنصرية الإسرائيلية بكل أشكالها وصورها وأساليبها، لا تزيدنا الا تمسكا بقدسنا واقصانا وثوابتنا، خصوصا في رمضان. رمضان بالنسبة لنا فرصة ذهبية لاختزال العديد من المراحل حشدا للطاقات البشرية والمادية دعما لبقاء القدس وأهلها... هذا التحدي يحول رمضان الى ساحة لصراع الارادات والروايات... ارادتنا مقابل إرادة المحتل، وروايتنا مقابل روايته.. رمضان يكثف بهذا المعنى الابعاد النضالية ويمحورها أكثر من أي وقت آخر، ويشكل أرضية لتجديد البيعة مع القدس والاقصى، وبناء مشروعات المقاومة المدنية التي تنطلق في ظلال رمضان، وتستمر إلى ما بعد رمضان.. رمضان بالنسبة لنا مؤتمر مفتوح نعقد فيه الاجتماعات والمشاورات ونطلق فيه المبادرات، ونؤسس فيه لعلاقات، نطمع ان تكون وقودا لنا خلال عام كامل من الخدمة والعطاء..
(6)
من أكثر ما ينغص علينا هنا في فلسطين وينغص على القدس والاقصى المبارك، ومن أكثر ما يشجع الاحتلال الإسرائيلي البغيض على الاستمرار في تنفيذ سياساته تجاه فلسطين عموما وتجاه القدس والاقصى خصوصا، هذا الوضع العربي والإسلامي المتردي، والذي يزداد ترديا وانحطاط يوما بعد يوم من جهة، واستمرار حالة الخلاف والنزاع الفلسطيني – الفلسطيني لأسباب أقل ما يُقال فيها انها النقيض الفاضح لمصلحة فلسطين وطنا وشعبا ومقدسات ومستقبلا، من الجهة الأخرى.. كلنا نتمنى الوحدة بين الفلسطينيين على ا لمستويين الوطني والشعبي. يجب ان نعترف بأن ملف الوحدة الوطنية بين شقي الوطن في فلسطين المحتلة عام 1967 من الملفات المقلقة والتي يظل تعطلها سببا في ضعف الموقف الفلسطيني في مواجهة الاحتلال الإسرائيلي والإهمال الدولي للقضية الفلسطينية، وبالذات اهمال الإدارة الامريكية الذي يزيد من احباط الفلسطينيين، ويدفع الى مزيد من الاحتقان، ويرشح إلى مزيد من جولات العنف في المنطقة. شخصيا اعتقد ان الامراض التي أصابت الامة العربية والإسلامية من المحيط الى المحيط، وبالذات عالمنا العربي، قد تسربت الى شعبنا الفلسطيني، حتى بتنا لا نتوقع انفراجا لقضيتنا عموما وقضية القدس والاقصى خصوصا، الا من خلال تدخل رباني مباشر. لأكن صريحا، فانا لا اعتقد ان الوحدة الفلسطينية وشيكة، وعليه فمشوار المعاناة ما زال طويلا، فرمضان في النهاية نفحة من نفحات الله سبحانه له فلسفته وحكمته وغايته، فان ينجح في تحقيق بعض التحسينات على مستوى الافراد والجماعات، فما زالت الامة في مجملها عاجزة عن فهم وتحقيق رسالته لتحقيق الوحدة الجغرافية والسياسية والفكرية والشعورية التي تؤسس لمرحلة جديدة تغسل وجه الامة مما ران عليه من ارجاس وانجاس وأدناس.
(7)
غياب مفهوم الامة والذي انتج الدكتاتوريات والأنظمة الجبرية والعاضة (الملك العضوض)، وفَرَّخَ العصبيات والصراعات المذهبية والعشائرية والطائفية والإقليمية داخل الدولة القطرية الواحدة وبينها وبين بعضها ، غياب القيم وطغيان الغرائز، وظهور الجماعات الباطنية، وكثرة التحولات السياسية ، كلها أسباب أدت الى نشوء هذا الوضع غير الطبيعي في امتنا، فضعفت وذلت وانهزمت وتخلفت وتمزقت ونزفت، حتى ما عاد لها ثقل في موازين الحضارة والمدنية او موازين السياسة... لن تنقشع هذه الغمة عن الامة الا بوحدة جغرافية وسياسية، وإقامة أنظمة شورية ديموقراطية حقيقية، ووحدة للمرجعية الفكرية والقانونية، وسيادة لقانون الشريعة، والتزام الامة قيادة وشعبا ومؤسسات بمنهج الإسلام قولا وعملا، وأخيرا تماسك أخلاقي وعدل وتنمية وكرامة وطنية واستقلال في القرار والإرادة والوعي ، وتحرر من الارتهان الخارجي.. عندها وعندها فقط سيبدأ العد التصاعدي لنهضة الامة، والا فلا نتوقعن الا المزيد من الكوارث والأزمات.
في عالم عشش فيه الظلم، وتحول المسلمون فيه الى كبش فداء لكل من هب ودب، وفي زمان رضي فيه زعماؤنا ان يستقيلوا من التاريخ، فلا نتوقعن الا نبتا مُرّا وشرابا علقما وطعاما ذا غصة وعذابا اليما (الا تنفروا يعذبكم عذابا اليما ويستبدل قوما غيركم ولا تضروه شيئا والله على كل شيئ قدير). لماذا نستغرب إذا من هذا العذاب الذي يصبه علينا أعداء الخارج والداخل، وقد أصبح باسنا بيننا شديدا.. لا فرق عندي – والله – بين منظمات إرهابية وأنظمة إرهابية، فكلاهما بلاء له أسبابه، ولا بد من زوال الأسباب حتى يرفع الله العذاب.
ما أقلقني يوما الحرب العلنية والخفية على الأمة والتي اجتمعت فيها كل ضباع الأرض، بقدر ما يقلقني فقدانها لبوصلتها الربانية والتي حولت حياتها الى جحيم كما نرى... انا لا أتوقع من أعداء الامة خيرا، ومن يتوقع منها ذلك فقد ضل سواء السبيل.. لذلك فهي مسؤولية الامة في أن تلتقط أنفاسها، وتستعيد توازنها وتسترد تماسكها، والذي لن يتحقق الا بالتحامها من جديد مع منهاج ربها وهدي نبيها.
ما زلنا ننتظر أن نرى الامة العربية والاسلامية وقد تحقق فيها وعد الله ورسوله...... خلافة راشدة على نهج النبوة تعم الأرض، تملا الأرض قسطا وعدلا بعدما ملئت ظلما وجورا، لا تدع السماء في ظلها من البركات الا صبتها صبا، ولا تدع الأرض من خيراتها الا اخرجته اخراجا.. أتمنى ان يحقق الله وعده، فتقوم الولايات العربية المتحدة تمهيدا لقيام الولايات المتحدة الإسلامية، فيشفي بذلك صدور قوم مؤمنين، وتعود الوحدة ومعها العز والكرامة الى الامة بعدما غابت عنها طويلا..
عندما تقوم دولة العدل القائمة على هدي السماء، سيتغير الحال، وستنهض الامة، وسينطلق قطارها بعد سبات طويل.. ولكن، لكل ذلك شروط، فقد قيل قديما: ما عند الله لا يدرك الا بشرطه...... النصر كما نعرف من عند الله (وما النصر الا من عند الله)، وشرطه ادراكه نصر دين الله (ان تنصروا الله ينصركم ويثبت اقدامكم)......... فاين المفر؟!!!!!!!!!!!!!