حكايتي مع أريئيل شارون
" ولي شخصيًّا حكاية مع شارون هذا تعود إلى منتصف السّبعينات من القرن المنصرم...."
سلمان مصالحة
أثارت التّصريحات الأخيرة لأريئيل شارون، رئيس الحكومة الإسرائيليّة، جدلاً واسعًا في الأوساط الإسرائيليّة والفلسطينيّة والعربيّة. اليمين الأصولي الدّيني في إسرائيل رأى فيها خطرًا داهمًا وتراجعًا عن مسلّمات طالما بنى سياساته وتصوّراته على مبادئها. خاصّة وأنّ شارون ذاته كان دائمًا في طليعة حملة هذه المسلّمات والشّعارات التي ناطح بها رؤساء حكومات سابقة حينما كان في المعارضة، وحينما كان عضوًا في حكومات اليمين المتعاقبة. أي أنّ تاريخ شارون الشّخصي يفصح، في الظّاهر، عن أمور أخرى هي نقيض ما يقوله الآن. من جهة أخرى، يلاقي شارون بعد هذه التّصريحات دعمًا من مكان آخر، من حركات سلام إسرائيليّة طالما تظاهرت ضدّه وضدّ ما يمثّله في العقود الأخيرة، وهي الآن تحثّه للمواصلة قدمًا بتنفيذ ما يترتّب على تصريحاته الأخيرة. فشارون هذا هو ذاته الّذي حمل في عقود الإحتلال الإسرائيلي لواء الإستيطان اليهودي في الضّفّة الغربيّة وقطاع غزّة، وشارون هو ذاته الّذي حمل ونادى بالوطن البديل للفلسطينيّين في الأردن. وهذا هو شارون ذاته الّذي يصرّح أمام أعضاء كتلة اللّيكود في الكنيست الإسرائيليّة، حيث بثّت تصريحاته في التّلفزيون ونشرت في وسائل الإعلام أنّ الإحتلال سيّء لإسرائيل، وأنّه لا يمكن الإستمرار بفرض الإحتلال على ثلاثة ونصف مليون فلسطيني.
***
ولي شخصيًّا حكاية مع شارون هذا تعود إلى منتصف السّبعينات من القرن المنصرم. في تلك السّنوات كنت طالبًا حديث العهد في الجامعة العبريّة في القدس الغربيّة، وكان شارون جنرالا خارجًا من حروب إسرائيل بهالة بطوليّة لا تُضاهى. جرت العادة في الجامعة في تلك السّنوات على دعوة سياسيّين لتسجيل برنامج سياسيّ يبثّ في التّلفزيون الإسرائيلي مباشرة من إحدى قاعات الجامعة، يفسح فيه للطلاّب بطرح أسئلة على الشّخصيّة الّتي تعرض تصوّراتها أمام قاعة مليئة بطلبة الجامعة من اليمين واليسار بمن فيهم طلبة الجامعة العرب من مواطني إسرائيل. في تلك الأمسية عرض شارون نفسه لأيديولوجيّته، ومن بين ما طرحه أمام طلبة الجامعة أن لا وجود لشعب فلسطينيّ، وأنّ الأردن هو فلسطين.
***
وحين فسح المجال للطّلبة بالتّعقيب وبطرح الأسئلة، وقفت أنا أمام الميكروفون بإزاء شارون ذاته في القاعة المكتظّة وبين ما قلته آنذاك: يا سيّد شارون، ها أنت تقول بأن لا وجود لشيء اسمه شعب فلسطيني، وتحاول إقناع الطلبة بذلك، فها أنذا الواقف أمامك الآن في هذه القاعة أقول لك إنّي فلسطيني أنتمي إلى هذا الشّعب، فهل تستطيع أن تقنع الجمهور بأنّي أنا الواقف هنا في هذه القاعة غير موجود؟ أثارت كلماتي جلبة وضحكًا في القاعة وشاهدت شارون يتململ في مكانه. في معرض الرّدّ على أسئلة الطّلبة في تلك الأمسية لم يتطرّق شارون إلى كلامي بالمرّة. الّذين تطرّقوا إلى كلامي جاؤوا في ساعة متأخّرة من تلك اللّيلة، بعد بثّ البرنامج في التّلفزيون. جاء أفراد من الشّرطة الإسرائيليّة واقتادوني إلى مركز الشّرطة للتّحقيق معي. أمضيت تلك اللّيلة في المخفر وأطلقوا سراحي في صباح اليوم التّالي.
***
لم يقتنع شارون في تلك الأيّام من أقوال طالب عربيّ وقح مثلي. احتاج، كعادة الجنرالات، إلى ثلاثة عقود وكثير من الدّماء إلى الاعتراف بعدم جدوى القوّة. قد يكون تاريخ شارون في الماضي كلّه مناورات من أجل الوصول إلى منصب رئاسة الحكومة الإسرائيليّة، وبعد أن وصل إلى هذا المنصب فهو يرى الأمور بصورة مخالفة عمّا رآها من مناصب أخرى، وقد تكون تصريحاته هذه الآن بوجوب إنهاء الإحتلال وعدم جدواه هي الأخرى مجرّد مناورات تنضاف إلى تاريخ مناوراته. قد يكون شارون راغبًا من خلال كلّ هذه التّصريحات تسجيل نقاط لصالحه أمام الرّئيس الأميركي، وأمام الرأي العام الدّولي. ولكن، حتّى لو افترضنا أنّ كلّ هذه التّصريحات هي مجرّد مناورات، فهل يجدر أن تبقى مسجّلة لصالح أريئيل شارون في الرأي العام الدّولي؟ وإذا اعتقدت القيادة الفلسطينيّة أنّ كلام شارون هذا ليس إلاّ مجرّد محاولة لتسجيل نقاط لصالحه، أليس من واجبها هي الأخرى أن تتعلّم فنّ المناورة السّياسيّة وتسجيل نقاط لصالحها؟
***
إنّ أكبر خطر على مصالح ووجود الشّعب الفلسطيني في هذا الجوّ الدّولي يكمن الآن في عمليّات انتحاريّة قد تنفّذها بعض الفصائل الفلسطينيّة. إذا حدثت مثل هذه العمليّات الآن وذهب ضحيّتها مدنيّون أبرياء في المدن الإسرائيليّة، فإنّ العالم الّذي ينبذ الإرهاب سيرى في شارون رجل سلام، بينما يخسر الفلسطينيّون عطف العالم. وإذا اعتقد الفلسطينيّون أن شارون بتصريحاته هذه ينصب لهم فخًّا، فعليهم ألاّ يسارعوا للوقوع في هذا الفخّ.
* نشرت هذه المقالة في صحيفة الحياة اللّندنيّة، ملحق تيارات بتاريخ 8 حزيران 20
د. سلمان مصالحة من مواليد 4 نوفمبر، 1953. ولد لعائلة من الطائفة الدرزية في قرية المغار العربية . انتقل للعيش في مدينة القدس، ويعيش في المدينة منذ العام 1972. في أواسط السبعينات سُجن في سجن عسكري لرفضه الخدمة الإجبارية لأسباب ضميرية.