نوال السعداوي: كل الأديان تدعم النظام الأبوي الطبقي
تهامة الجندي
من منا لا يعرف نوال السعداوي؟ لم يقرأ على الأقل واحدا من كتبها الخمسين؟ لم يتابعها على الشاشة الصغيرة أو من على منابر الثقافة؟ لم يُعجب بانتقاداتها اللاذعة، وتحديها الجسور لتقاليد المجتمع الذكوري، منذ ان صعد نجمها في أوائل سبعينات القرن العشرين؟ تساءلت وأنا في طريقي لحضور ندوة لها، يقيمها نادي “كلنا قراء” في مركز “ويك” بعين المريسة، ومن بين خيوط الهطل الغزير رحت أتأمل الظاهرة الثقافية العجيبة، أجيال تعاقبت، واسمها لا يزال الأول من بين الكاتبات العربيات اللاتي نشطّن من أجل التساوي بين الجنسين، وكرسّن قلمهنّ للدفاع عن قضايا المرأة، أفكارها غيّرت قناعات الكثيرين، ولم تتغير، والواقع العربي لايزال يراوح مكانه، لم يحسم أمره لصالح العدالة والحريات، رغما عن كل ثورات العقد الثاني من القرن الحادي والعشرين؟!
دخلتُ القاعة، ومثل أيقونة وجدتها تتصدر المشهد، بسنواتها التي تزيد على الثمانين، شعرها الأبيض، ابتسامتها الوديعة، نظراتها الفاحصة الذكية، قميصها الأحمر، بنطالها وقفازي الدانتيل... مؤسسة المركز هانية خليل رحبت بالضيوف، ومنسقة النادي د.حسن عبود افتتحت الندوة بنبذة عن حياة الطبيبة، الناقدة، الأديبة والمناضلة من أجل تحرير العقل والمرأة، واعتبرت أن صدور كتابها “المرأة والجنس” عام 1972، كان بمثابة الإعلان الرسمي عن “النسوية العربية”.
الزواج مؤسسة اجتماعية اقتصادية سياسية، يملك الرجل بموجبها الزوجة والأولاد، لأنهم يسمون باسمه، مؤسسة أبوية طبقية قائمة على المال، هو يدفع المهر وينفق، وهي تنام معه وتخّدمه، وإذا لم تفعل، يطلقها بإرادة منّفردة، العلاقة الجنسية داخل الزواج ليست علاقة شريفة، الذي يحدد الشرف هو الصدق، وأضافت ضاحكة “أنا لا أوافق على الجنس بعد الزواج
وُلدت نوال السعداوي في القاهرة عام 1930، حصلت على بكالوريوس الطب البشري والجراحة من جامعة القاهرة عام 1954، وتخصصت في الأمراض الصدرية، ثم اتجهت إلى الطب الوقائي، عملت في مشافي الدولة، وفُصلت بسبب آراءها الصدامية، شغلت منصب مستشارة برامج المرأة لدى الأمم المتحدة في بيروت، قامت بالتدريس الجامعي في الولايات المتحدة لمدة عشرين عاما، دخلت السجن في أيلول 1981 لنشاطها ضد التطبيع مع اسرائيل، أيام حكم السادات، وهناك ألّفت كتابها “مذكراتى فى سجن النساء” على ورق التواليت، وبقلم كحلة، وفي العام 1982 أسست جمعية “تضامن المرأة العربية”، وأُغلقت الجمعية بمرسوم حكومي يوم 15 حزيران 1991.
بعد نبذة الدكتورة عبود، قدّمت الطالبة الجامعية آية النقوزي مراجعة في “المرأة والصراع النفسي”، كتاب السعداوي الذي يشخّص العُصاب، بوصفه مرضا نفسيا يضرب معظم النساء العربيات، دون أن يشعرّن به. وقرأت الطالبة ردينة بوشاهين في رواية “امرأتان في امرأة”، رأت أنها تبالغ في استعداء الرجل، لكنها تدخل دهاليز المرأة بشخصية بطلتها بهية، لتعالج إشكالات الواقع العربي في النصف الأخير من القرن العشرين، كتحريم ثقافة الجسد، الزواج بوصفه صفقة لنقل ملكية المرأة من الأب إلى الزوج، الختان، والمفارقة في العلاقة مع الأنثى باعتبارها كائن لا جنسي قبل الزواج، وكائن جنسي حصرا من بعده. أما نهى قدور فقد تناولت “المرأة والجنس” متحدثة عن أوجه الانتقاص النفسي والجسدي والجنسي الذي تتعرض له المرأة، وفي مقدمها أن الحصول على الأمن الاجتماعي، ثمنه فقدان الذات، وأن الشرف العائلي منوط بقتل الجسد الأنثوي.
لا توجد وصفة للتحرّر، أنا سافرت إلى الاتحاد السوفيتي، وكتبت ضده، لأن النساء كنّ مقهورات، والتجربة الغربية ليست حلا،
وحين ردّت نوال السعداوي على الاستفسارات والأسئلة، خطفت الانتباه والأضواء من الجميع، بمنطقها المتماسك وحضور بديهتها السريع، قالت: الزواج مؤسسة اجتماعية اقتصادية سياسية، يملك الرجل بموجبها الزوجة والأولاد، لأنهم يسمون باسمه، مؤسسة أبوية طبقية قائمة على المال، هو يدفع المهر وينفق، وهي تنام معه وتخّدمه، وإذا لم تفعل، يطلقها بإرادة منّفردة، العلاقة الجنسية داخل الزواج ليست علاقة شريفة، الذي يحدد الشرف هو الصدق، وأضافت ضاحكة “أنا لا أوافق على الجنس بعد الزواج”.
استطردتْ: لا توجد وصفة للتحرّر، أنا سافرت إلى الاتحاد السوفيتي، وكتبت ضده، لأن النساء كنّ مقهورات، والتجربة الغربية ليست حلا، نحن نعيش في عالم واحد، وليس في عالم أول وثاني وثالث، نعيش حضارة واحدة، هي الرأسمالية الأبوية الدينية، ونظام واحد قائم على الطبقة اقتصاديا، وعلى سيطرة جنس على جنس آخر، الذكور يسيطرون على الإناث، وكل الأديان من اليهودية إلى المسيحية فالإسلام، تدعم هذا النظام الأبوي الطبقي الخطير، وصعود الأصوليات الدينية ظاهرة عالمية، هدفها حماية الأبوية الطبقية، منذ أيام ريغن والسادات، القاعدة وطالبان والإخوان المسلمين صناعات أميركية، وإذا كان النظام العذري سقط في الغرب، فلم يكن سقوطه لأسباب أخلاقية، بل نفعية.
الأسرة الأبوية هي معقل العبودية، ونظامها ينتج درجة كبيرة من التشويه، الرجل يتفاخر بالاستبداد والمرأة بالعبودية، وهذا ما يفسد الزواج.
الأسرة هي الحجر الأساس في الدولة، وإذا كانت الدولة مدنية، فيجب أن تكون الأسرة مدنية، بمعنى أن يكون قانون الأحوال الشخصية مدني، فما معنى أن يؤكد الدستور المصري على المساواة بين الجنسين، وأن تكون جميع قوانين الدولة مدنية، ماعدا قانون الأسرة الديني، ينبغي القضاء على هذا التناقض بين الأسرة والدولة، لأنه السبب في إجهاض الثورات العربية. ثوراتنا سياسية فقط، ليست ثقافية ولا علمية ولا اقتصادية، مبارك سقط، لكن نظام مبارك لا يزال قائما، الأسرة دينية، ومصر تعيش على المعونات الأميركية، وميرفت التلاوي التي كانت وزيرة سوزان مبارك، يوم أُغلق الاتحاد النسائي في التسعينات، عيّنها الطنطاوي رئيسة “المجلس القومي للمرأة”، ومع ذلك ستنجح الثورات، وربما سيكون لبنان الأسبق في قيادة حملة على مستوى النطاق العربي، لصياغة قانون أسرة مدني، موحّد لكل الدول العربية.
سألتْ بتحد “يعني إيه تعدد الزوجات؟ دي دعوة صريحة للانحلال وممارسة الزنا علنا” لماذا لا تتزوج المرأة أربعة رجال؟ وأجابت، لأننا لن نعرف اسم الأب، ومعرفة اسم الأب كانت الجناية الأولى التي ارتُكبت بحق المرأة. في مصر القديمة كان الأولاد ينسبون إلى الأم، الأب مجهول، والرجل يجهل دوره في عملية الإخصاب والإنجاب، كانوا يتصورون أن المرأة تحبل من قوة خارجية، من الملائكة في السماء، ومن هنا جاءت قصة مريم العذراء، مع تقدم الطب، واكتشاف دور الرجل في إنتاج الجنين، بالتزامن مع التغير السياسي باتجاه الملكية الخاصة، أصبح للرجل أرضاً، يرغب في توريثها لأولاده، ما جعل النسب أبوي، وطالما أن النسب أبوي، فيجب أن يُفرض على المرأة القتل، إذا ما نظرت إلى رجل آخر، فالأبوة هشة ومشكوك فيها، أما الأمومة فقوية وراسخة، هي التي تلد، وحين يفسد الرجل ويخون، تفسد المرأة وتخونه تنفيثا عن ذاتها أو انتقاما.
أضافت: كان عندنا في مصر ثلاثة ملايين طفل غير شرعي، لا حق لهم في شهادة الميلاد والجنسية والتعليم، أقمنا حملة شعبية، نتج عنها قانون جديد للطفل عام 2008، الابن الذي يولد خارج نطاق الزوجية، يحمل اسم الأم، ويصبح شرعيا بكامل حقوقه المدنية.
ذكرتْ أنها دخلت مغامرات كثيرة عرضتها للخطر، وكادت أن تودي بحياتها، رشّحتْ نفسها ضد مبارك عام 2005، فقط لتكشف كذبه حول الديمقراطية، بعد عام نشرت مسرحيتها “الاله يقدّم استقالته في اجتماع القمة” واتُهمت بالردة والزندقة، أُقيمت عليها الدعاوي بسبب نشاطها وآرائها الهجومية، وضعتها الجماعات الإسلامية المتطرفة على “لائحة الموت” وتعرضت للنفي، وهي في سن متقدمة... قالت: أخطائي أكثر من حسناتي، قوتي أني قابلت الرجل الخطأ، والإبداع ابن الخطأ، لم أندم يوما على ما فعلت، الندم مضّعف، والأمل قوة.
تحدّثتْ عن أسباب جرأتها:
جدتها الفلاحة، علمتّها أن الله هو العدل الذي يُعرف بالعقل. والدها خريج الأزهر، كان يحضّها أن تثق بعقلها، أن تناقش النص الديني، وأن لا تأخذ به، إن لم يعجبها ويقنعها، وأمها أكدت لها أن لا وجود لنار جهنم، وبذلك خلصتها من الخوف الذي يحطم عقل الطفل، منذ طفولتها تعلمت أن الحب والخوف لا يجتمعان، من يخاف الرب لا يحبه، ومن يحبه، يحب العدل، ولا يخاف منه.
انتهتْ الندوة، وبقيت أجوائها تتحرك بداخلي، أعادتني إلى شبابي الأول، يوم كانت قراءة كتاب “المرأة والجنس” بأهمية قراءة “البيان الشيوعي”، ويوم كانت معظم بنات جيلي يتحدثّن بصوت نوال السعداوي الجريء، يتحديّن مجتمعاتهنّ المغلقة، ينزعّن الحجب عن رؤوسهنّ وعقولهنّ، يفضلّن العلم والعمل على الزواج، وكنا نعتقد أننا بقدوم القرن الحادي والعشرين، سوف ندخل العصر الأمومي من جديد، لماذا وصلنا إلى حضيض التطرف والإرهاب؟ لا تفسير مقنع لظاهرة النكوص في المجتمعات العربية، فقد أعيت المحللين، لكن يمكن تسميتها بالمسار المهين، الخارج عن روح العصر ومنطق التاريخ.
عن ملحق نوافذ – جريدة المستقبل