في جسده النحيل، حيث الضلوع شبه معلنة تحت قميصه الخفيف، يتكون زلزاله اليومي وينمو على مهلٍ ووجعٍ مخزون، حتى إذا استوى رسماً على صفحات الجريدة أرسل رعشاته في سبات الناس كأنه منبّه بجوار مخدات الليل، يقلِق، يوتّر، يوقظ، ويرسل الأسئلة إلى ركضها في العقول، لا يخلخل الثابت فقط، لا يهتك المقدس فقط، ولا يهدم الصنم فقط لكنه بالإضافة إلى الخلخلة والهتك والهدم يبني معنى جديداً لفن االرسم. هكذا يحول ناجي فن الكاريكاتير من خفةٍ ربطه بها الخفيفون التقليديون إلى قوة ذات بطش جميل، تعينه على التدخل في الشؤون الداخلية لهذا العالم، تماماً كما حوّل بريخت فن المسرح من نعاس الفرجة إلى قلق الخطى، ومن خفة السهر إلى ثقل المقاومة.
"قل لهذا السيد ان وجهه سيظل في ذاكرتي، أتخيله في مقدمة جموع من البشر، في يده راية مرفوعة ويمشي كانه يركض"، هذا ما قالته لي سيدة هنغارية مسنّة تصادف جلوسها مع زوجها على طاولة مجاورة في أحد مطاعم بودابست وقد استوقفتها طريقته في الحديث إلينا أنا وبعض أصدقائه، ذاك المساء البعيد صيف العام 1984. بعد هذا العشاء بثلاث سنوات، أوقف كاتم الصوت ركض ناجي العلي للحظات، فرح فيها القاتل وحزن العالم. ومع إشراق الانتفاضة الفلسطينية واصل ناجي الركض وبيده الراية ذاتها التي رأتها السيدة الغريبة تظلل الآلاف في أرضٍ زارتها المظالم ذات ضعفٍ مقيمٍ فينا منذ قرون، ولم تغادرها إلى اليوم. واليوم نريد ناجي معنا فيمنعه الموت.
لم أتعود أبداً أن أنكر أن الموت يقتل الميت، ولا أقول للحبيب الغائب أنه باقٍ معنا. هذه العبارات السهلة عزاءٌ باهتٌ لا يفي ولا يفيد. خسارتنا في الذاهب عنا خسارةٌ حاسمة وغيابه نهائي. من يُحضر لي ولكم تلك الابتسامة التي توسّع النهار؟ وتلك الضحكة التي تدخل الصحو على الكدر فإذا هو فانٍ حتى وإن عاد، فهو في حالة العربي والفلسطيني يعود دائماً؟ من يعيد لي ذكاء انتباهته لما يسمع وما يشاهد وما يتوقع؟ من يعيد شجاعته اليومية رغم قرب الرصاصة؟ ومن يعيد طريقته في الكلام ولهجته الجليلية رغم بعد الجليل؟
لنعترف كما يليق بواقعيين يكرهون الإنشاء المدرسيّ، أن موت ناجي هو الذي يمنعه أن يسأل الناطقين باسمنا دون تفويض من أحد، تلك الأسئلة التى تدور في ضميره الجميل كما تدور في ضمائر الشهداء جميعا: كيف أصبح العدو الصهيوني في لغتكم مجرد "الجانب الإسرائيلي"؟ كيف جعلتم شعبنا شعوباً وقبائل لا تعارُف بينها؟ شعب ال48 وشعب الضفة وشعب غزة وشعب المخيمات وشعب الشتات في القارات الخمس؟ كيف أصبحت فلسطين "الأراضي الفلسطينية"؟ أو الضفة؟ أو غزة؟ أو المناطق المحتلة؟ أو المناطق؟ أو المتنازع عليها؟ أو القابلة للتبادل مع الغزاة؟ أو مناطق ألف؟ وباء؟ وجيم؟ أو مجرد فتح وحماس وبينهما مسرحيتان هزليتان في عرض واحد مبتذل هما تراجيديا الخلاف التي لا يليق بها الدمع وكوميديا المصالحة التي لا يليق بها الضحك؟ كيف أصبحت "الحياة" على يدكم "مفاوضات"؟ كيف وقفت مدينة لنا تتفرج من شبابيك لياليها البيضاء على قصف مدينة أخرى بالفوسفور الأبيض؟ وكيف قرر كبيركم باسم دموع أجدادنا ودروب أحفادنا أن "إسرائيل وجدت لتبقى"؟
نعم. الموت يمنع "ناجي" من رفقتنا في المظاهرة ومن مشاركتنا جلوسنا في الاعتصام ومن رفع الراية التي شاهدها خيال تلك السيدة التي لا نعرفها ذات صيف بعيد؟ لكن أتعرفون ما الدائم في قصة ناجي؟ الدائم هو ذعر الطغاة من ريشته المتجددة دون حبر جديد. سيظل يحبسهم "في براويزه الهازئات" كما اعتاد وكما اعتدنا وكما اعتادوا. وسيدوم ذعرهم مادام الناس يحتاجون إلى الهواء الحر. ولا جدارة لأي قول في ناجي إن لم يبدأ بتأكيد أنه تلخيصٌ فذ لـ "الناس" العاديين الذين لم تلوثهم الأنانية ولم تعمهم المكاسب ولم يثنهم الخوف. هذا جسد ذهب مكرهاً إلى كل مكان زاره، وذهب باختياره إلى كل موقف اتخذه، حتى كأنه خرج لملاقاة كاتم الصوت في منتصف الطريق.
تأملوا رسوم ناجي تأملوا شجاعة الفن وفن الشجاعة.