ومما آثار استغراب هذه العواصم أن القيادة الروسية قد انتبهت لاحقا إلى أن التصريح المفاجئ قد أحرج القيادة السورية بالدرجة الأولى فتلاحقت بتصريح أعقبت تصريح الانسحاب مفادها أن قرار الانسحاب كان بالتنسيق مع القيادة السورية متناسية أن النظام السوري كان بأشد الحاجة إلى الدعم العسكري الروسي وفي هذا الوقت بالذات عند بدأ الجولة الجديدة من المفاوضات في جنيف حول الملف السوري.
اما واشنطن والتي تفاجأت هي ايضا بقرار روسيا المفاجئ بدليل أن وزير خارجيتها كان يعقد مؤتمرا صحفيا عند الإعلان الروسي حيث لم يعلق على تساؤلات أحد مندوبي الصحافة عن الموضوع بل آثر التريث لمعرفة محتوى الخبر قبل تعليقه على المسألة، أما الرئيس أوباما فقد تباحث مع الرئيس بوتين بعد بداية تنفيذ روسيا لقرارها، أي بعد إقلاع الطائرات الروسية من سوريا في طريقها إلى روسيا.
والمفاجأة الكبرى والتي لا بد أن نتوقف عندها فهي أن القرار الروسي اتخذ بعد اجتماع الرئيس بوتين مع وزير دفاعه ووزير خارجيته معا في الكرملين والأهم من كل هذا أن قرار بداية الانسحاب كان هو الآخر مفاجئا فقد تم الإيعاز إلى وزير الدفاع بسحب قواته في اليوم التالي مباشرة.
لذا فإن أية معلومة تذكر أن الروس قد اتخذوا قرار الانسحاب بالتنسيق مع دمشق أو واشنطن هي معلومات تخالف الواقع الحقيقي للانسحاب المفاجئ.
وعليه فهناك جملة أمور قد أسرعت عملية اتخاذ القرار الروسي سواء مجتمعة هذه الأمور أو منفردة أو مكملة إحداهما للأخرى نذكرها بدون تسلسل بسبب التداخل الزمني بينها ولعدم معرفتنا بدرجة تأثيرها على القرار الروسي.
1- استمرار اسعار النفط بالانخفاض منذ فترة وعدم وجود أية أمل في الأفق من ارتفاع أسعارها وخصوصا بعد امتناع عدة دول مصدرة للنفط من خفض إنتاجها، الأمر الذي أدى إلى انخفاض الواردات الروسية من العملة والذي أدى بدوره إلى انخفاض سعر صرف العملة الروسية.
2- تحييد الدور الإيراني في سوريا بصورة واضحة وخصوصا بعد قطع الرياض لعلاقاتها مع طهران وكما نوهنا عنه سابقا في مقالنا (روسيا الخاسر الأكبر في المنطقة بعد قطع الرياض علاقاتها مع طهران) وكما أن أمريكا سعت ومنذ فترة إلى تحييد الدور الإيراني تجاه علاقاتها مع روسيا وتنسيقها معها وتجلت هذه المساعي الأمريكية بإصرارها وعزمها على التوقيع مع الإيرانيين على تفاهمات حول مفاعلاتها النووية وإنهاء الأزمة الإيرانية مع الغرب عموما ومعها خصوصا وأيضا بالإمكان الرجوع إلى مقالتي (لغز الإصرار الأمريكي على رفع العقوبات عن طهران)، وأتت زيارة رئيس الوزراء التركي إلى طهران والتي كانت بمثابة بداية التنسيق التركي الإيراني والمؤيد من الدول العربية في موضوع وحدة الأراضي السورية وعدم إقامة فيدراليات مناطقية في سوريا، هذه كلها قد حيدت المواقف الإيرانية ودعمها للنظام السوري المدعوم أصلا من قبل روسيا والتي بدأت بوادر الخلاف في الرأي بين الدولتين تظهر جليا في المسألة السورية.
3- اختتام مناورات رعد الشمال بقيادة المملكة العربية السعودية وهي أكبر مناورات شرق أوسطية في تاريخها، وما نتج عنه من التفاف حول القرار السعودي المؤيد للمعارضة السورية المعتدلة والمصرة على رحيل بشار الأسد من رئاسة سوريا. كما أن وصول قسم من طائرات القوات الجوية السعودية والكويتية إلى قاعدة إنجرليك التركية واستعدادها للتدخل في سوريا وخصوصا بعد الانتصارات المتلاحقة لقوات التحالف العربي في اليمن في الآونة الأخيرة.
4- تصنيف حزب الله اللبناني من قبل السعودية ودول الخليج كمنظمة إرهابية والإجماع العربي على ذلك والذي يعد ذراع إيران القوية في سوريا.
هذا بالإضافة إلى أن نشر طائرات الأواكس من قبل حلف شمال الأطلسي في سماء تركيا وعلى مقربة من الحدود السورية والتي بإمكان هذه الطائرات المتطورة أن تنهي عملية المراقبة الرادارية الأرضية وكذلك رادارات الطائرات المقاتلة السورية والروسية معا.
هذه قسم من الحقائق التي لا بد أن نذكرها عند قراءتنا لقرار الرئيس الروسي فلاديمير بوتين بالانسحاب المفاجى من سوريا. وفي انتظار نتائج المباحثات في جنيف حول المسألة السورية ربما ستكون هناك مفاجآت محتملة تكون بداية حقيقية لحل المسألة السورية بصورة كاملة وشاملة.