التحول الرقمي الحقيقي ليس في ما نبنيه من أدوات، بل ما نغيّره في حياة الناس باستخدامها.
في عالم يبدو وكأنه يعيش داخل تطبيقات، يقيس كل حركة بالبيانات الرقمية، ويغلف كل فكرة بواجهة مستخدم أنيقة، أصبح من السهل أن نصدق أن التقنية هي البطل، وأن البرمجية هي القيمة، وأن التصميم هو سر النجاح. لكن الحقيقة أبسط وأعمق: التكنولوجيا ليست المنتج، انما الأداة فقط، تمامًا كما أن العجلة لم تجعل من الإنسان سيارة، والدوران وحده لا يصنع محركًا.
هذه الفكرة ظهرت مؤخرًا بشكل صارخ عند تحليل الخبير في التكنولوجيا الرقمية "بنديكت ايڤانز" لصفقة شركات نتفليكس - وارنر المرتقبة، والتي تصل قيمتها إلى 83 مليار دولار. فبحسب ايڤانز، مستقبل نتفليكس لا يُحدد من داخل وادي السيليكون، بل يتقرر في نيويورك ولوس أنجلوس. ليس بالبرمجة… بل بالمحتوى. ليس بالواجهة… بل بما يحدث على الشاشة. نتفليكس ناجحة لأنها تقدم قصصًا تستحق المشاهدة…
لا لأنها تملك أفضل الخوارزميات فقط. في حال تمت الصفقة، نتفليكس سوف تعزز القصص التي تستحق المشاهدة، والتي يرغب بها الجمهور، أما التقنية فهي قائمة لتيسير الامور. مقابل عرض نتفليكس، بادرت پاراماونت إلى تقديم عرض شرس، يفوق 108 مليار دولار، لتحتدم المنافسة بين الشركات للاستحواذ على وارنر. ليس المهم من يفوز في نهاية المطاف، المهم أن هذه المنافسة تثبت حجم المعركة على اهتمام الجمهور، وتقديم محتوى وقصص يرغب بها الناس.
عندما تعمل التكنولوجيا بشكل ممتاز… تصبح غير مرئية
إيفانز يذكرنا بحقيقة غريبة: بمجرد أن تصبح التقنية رائعة، يتوقف الناس عن الحديث عنها.
● خدمة بث سريعة؟ متوقعة.
● واجهة استخدام سلسة؟ طبيعي.
● خوارزمية اقتراحات ذكية؟ جميل، لكن لن يهرول أحد ليحتفل بها.
الناس لا يعشقون الخوارزمية، بل يعشقون القصة. لا يقيّمون جودة التقنية أو بنية البرمجية او لغتها، بل ما يرونه ويسمعونه ويشعرون به. أحيانًا، تكون أبسط لقطة تم تصويرها بهاتف قديم أكثر أثرًا مما تلتقطه أفضل كاميرا في العالم، لأن المشهد نفسه يلامس القلب.
الشركات تفكر "رقميًا"… أما الجمهور فيفكر "تجربة"
في سوق تنافسي شرس، كثير من الشركات "غير الرقمية" يستحوذ عليها الهوس بالابعاد التقنية والرقمية لخدماتها، معتقدة أن التقنية هي مفتاح النمو. لكنها تنسى سؤالاً أبسط وأهم: لماذا يلجأ الزبائن إليها أصلًا؟
في شركات التأمين، مثلًا، لا يبحث الزبون عن "تصميم تطبيق متطور"، بل يريد تعويضًا سريعًا وواضحًا. وفي شركات الطيران، لا احد يرغب بـ "روبوت دردشة ذكي"، بل يريد خدمة جدية وجيدة عندما تضيع حقيبته. وعند شراء جهاز إلكتروني، لا أحد يريد "نظام دعم آلي"، بل يريد استبدال المنتج بلا أعصاب تتقطع. إذا أحبّت الشركة تطبيقها أكثر مما تحب زبائنها، فقدت منتجها الحقيقي.
البُعد الاقتصادي: عندما يكون الابتكار في الخدمة وليس في التقنية
اقتصاديًا، الإفراط في التركيز على الأبعاد التقنية يمكن أن يكون استثمارًا ضعيف العائد. لماذا؟
لأن التقنية في أغلب القطاعات أصبحت متاحة، ممكنة ومتشابهة. أي شركة يمكنها شراء نظام إدارة موارد أو خدمة زبائن، أي بنك يمكنه تطوير تطبيق، وأي متجر يمكنه صناعة منصة تجارة إلكترونية خلال أسابيع. لكن لا أحد يستطيع شراء ثقة جمهور الزبائن.
الابتكار الحقيقي يصبح اقتصاديًا، مثلًا، عند تقليل وقت صرف التعويض للزبون في حالة شركات التأمين، ما قد يقلل من فائض المعاملات المنهكة وغير الضرورية، ويرفع الإيرادات. كذلك الأمر عندما تقدم شركات الطيران خدمة تجيد الإصغاء وتقديم الدعم الإنساني السريع، ما قد يحسّن من رضا الزبائن، أكثر من أي حملة إعلانية. الاستثمار في الخدمة والتجربة يخلق قيمة طويلة الأجل، بينما الاستثمار في تقنيات معزولة يخلق قيمة قصيرة وسطحية.
البُعد الريادي: درس مهم للمبادرين والشركات الناشئة
من منظور ريادة الأعمال، كثير من الشركات الناشئة في منطقتنا تقع في فخ "المنتج التقني أولًا". يبحث المؤسسون بشكل شبه أوتوماتيكي عن فريق تقني، عن تطوير نموذج أولي لطرحه في السوق بسرعة، عن واجهة جذابة، ثم يكتشفون بعد حين أن لا أحد يحتاج ما صنعوه، ولكن الحكمة لا تكمن في تطوير تقنية أو تطبيق، إنما في حل مشكلة جوهرية لجمهور من الناس بذكاء، لذلك، هي علم فهم الإنسان، ثم استخدام التكنولوجيا لخدمته، وليس العكس.
من دراسة سلوكيات المستخدم، قبل تطوير أي تقنية، وبناء نموذج عمل يخلق قيمة، قبل إنشاء منصة رقمية، وتصميم خدمة يمكن أن تعمل أولًا بدون تقنية، ثم تطوير تقنية تخدمها، هكذا، يصبح الابتكار في النموذج والوظيفة، لا في الشكل.
المهارات المستقبلية: تنشئة أدمغة مفكرة
حتى على مستوى المهارات، العالم لا يحتاج مجرد أيدٍ تقنية أو مبرمجة، بل يحتاج أدمغة مفكرة، وأصحاب رؤى وفهم للاقتصاد الرقمي، وسلوك المستهلك، ومبدعين في تصميم تجارب إنسانية، ومبدعين يفهمون السوق قبل التقنية. أدمغة إبداعية وريادية وقيادية التي لا تصنع أدوات، بل تصنع الأثر.
الحلول الأقوى ليست تقنية او برمجية بحت، بل إنسانية
التكنولوجيا فرشاة. لكن اللوحة؟ هي القصة، والثقة، والتجربة، والأثر. باختصار، ليس كافيًا أن نطور أدوات رقمية مذهلة، بل علينا أن نصنع عالمًا يستحق استخدامها، ويرغب بها. هناك فقط تبدأ الثورة الرقمية الحقيقية، ليس في التقنية والواجهة، كما في حالة نتفليكس وپاراماونت والتنافس على وارنر، إنما في جوهر المحتوى، التجربة، وما يحدث بعدها.