منذ اختراع أول طائرة ناجحة على يد الأخوين رايت في مطلع القرن العشرين، تطوّرت صناعة الطيران لتصبح واحدة من أعقد وأهم الصناعات في العالم، خصوصًا في الشق المدني منها.
ولعقود طويلة، هيمنت شركتان فقط على هذا القطاع بشكل شبه كامل: الأمريكية بوينغ، والأوروبية إيرباص. هذه الثنائية الاحتكارية رسمت خريطة الطيران المدني لعقود، حتى بدأت تلوح في الأفق منافسة جديدة بقيادة الصين، مما يفتح الباب أمام تساؤلات جديّة: هل نحن على أعتاب كسر هذا الاحتكار؟ وهل ستنجح الصين في إزاحة بوينغ وإيرباص من عرش الطيران العالمي؟
لماذا تحتكر بوينغ وإيرباص صناعة الطائرات المدنية؟
الجواب ببساطة يكمن في التعقيد الهائل الذي تنطوي عليه صناعة الطائرات المدنية. هذه الطائرات ليست مجرد وسيلة نقل، بل هي منتج هندسي معقد، يتطلب أعلى مستويات السلامة والدقة، فضلًا عن استثمارات ضخمة تمتد لعقود.
إليكم بعض العوامل التي تفسر هذا الاحتكار:
- الحجم الهائل للاستثمار: تطوير طائرة مدنية جديدة قد يتطلب ما بين 10 إلى 20 مليار دولار، إلى جانب سنوات طويلة من البحث والتطوير والتجريب والتصديق من السلطات المختصة.
- الثقة والسلامة: لا يمكن لأي شركة جديدة أن تقتحم السوق بسهولة، لأن شركات الطيران والمسافرين لا يثقون إلا في علامات أثبتت جدارتها لعقود. والسلامة في هذا القطاع ليست خيارًا بل شرطًا.
- البنية التحتية والخبرة: تحتاج الشركات إلى سلسلة توريد عالمية، ومصانع متطورة، وآلاف المهندسين والفنيين ذوي الخبرة... وهذا ما تمتلكه بوينغ وإيرباص دون منازع تقريبًا.
- الدعم السياسي والاستراتيجي: كل من بوينغ وإيرباص تحظى بدعم مباشر من حكوماتها، لأن صناعة الطيران تُعد ركيزة من ركائز الاقتصاد القومي، بل والأمن القومي.
لذلك، ليس من المستغرب أن 99% من سوق الطائرات المدنية المتوسطة والكبيرة الحجم، محصور بين هاتين الشركتين.
الصين تدخل المنافسة: الطموح الكبير لشركة "كوماك"
لكنّ الصين، كما في صناعات كثيرة، لم تقف مكتوفة الأيدي. ففي السنوات الأخيرة، دخلت إلى هذا المجال من خلال شركة كوماك (COMAC)، المدعومة من الدولة الصينية. وقد أعلنت الشركة عن طائرتها التجارية الجديدة C919، المصمّمة لمنافسة الطرازات الأشهر مثل بوينغ 737 وإيرباص A320، وهي طائرات ضيقة الجسم، فيها ممر واحد يفصل بين صفين من المقاعد.
في مايو 2023، قامت C919 بأول رحلة تجارية لها ضمن الخطوط الجوية الصينية الشرقية، في خطوة رمزية لكنها بالغة الأهمية.
كما أعلنت الشركة مؤخرًا أنّها تعمل على تطوير طائرة تجارية باسم C929 وهي طائرة عريضة الجسم، فيها ممران يفصلان بين ثلاثة صفوف من المقاعد، وبهذا تكون دخلت المنافسة على الطائرات الأكثر تعقيدًا، والأبعد مدى.
هل تشكّل الصين تهديدًا حقيقيًا للاحتكار القائم؟
الجواب على هذا السؤال معقّد، ويتوقف على المدى الزمني المقصود:
على المدى القريب:
لا تزال كوماك في بداياتها. الطائرة C919 لا تزال تعتمد على مكونات أمريكية وأوروبية بنسبة كبيرة (مثل المحركات من شركة CFM International، وهي مشروع مشترك بين جنرال إلكتريك وسافران الفرنسية). كما أن الحصول على تراخيص للطيران في الأسواق الغربية، مثل الاتحاد الأوروبي والولايات المتحدة، سيستغرق سنوات وربما يواجه عقبات سياسية.
على المدى المتوسط والبعيد:
الصين تستثمر بكثافة في تطوير قدراتها الذاتية، من المحركات إلى الإلكترونيات وحتى المواد المركّبة. وإذا استطاعت تقليل اعتمادها على التكنولوجيا الغربية، واكتسبت خبرة تشغيلية كافية، فإنها قد تصبح منافسًا حقيقيًا.
من المهم الإشارة إلى أن السوق المحلية الصينية وحدها تشكّل فرصة ضخمة، حيث تحتاج شركات الطيران الصينية إلى آلاف الطائرات خلال العقدين القادمين. وإذا استطاعت كوماك أن تلبّي هذه الحاجة محليًا، فقد تصبح ثالث أضلاع مثلث الطيران العالمي.
عقبات تواجه الصين
لكن الطريق ليس مفروشًا بالورود. هناك عدد من التحديات الجوهرية:
ثقة السوق: شركات الطيران العالمية تتردد في استخدام طائرات جديدة لم تثبت جدارتها على مدى سنوات.
الجودة والسلامة: سجل السلامة يجب أن يكون خاليًا من العيوب، وهذا يتطلب عقودًا من العمليات الناجحة.
الاعتماد على الخارج: حتى الآن، الصين لا تملك القدرة الكاملة على إنتاج كل مكونات الطائرات محليًا.
البيئة الجيوسياسية: التوتر بين الصين والغرب قد يعرقل دخول كوماك إلى الأسواق الدولية، خصوصًا الأمريكية والأوروبية.
الخلاصة: هل نرى بداية نهاية الاحتكار؟
يمكن القول إن صناعة الطيران المدني العالمية تقف على أعتاب تغيير محتمل. احتكار بوينغ وإيرباص قد يستمر لسنوات قادمة، لكن دخول الصين إلى الساحة يشكّل تحديًا جديًا على المدى البعيد.
إذا استطاعت الصين أن توفّر بدائل ذات جودة عالية وبأسعار منافسة، فستكون كوماك رقمًا صعبًا في المستقبل. ولكنّ الاختبار الحقيقي سيكون في قدرة الصين على بناء ثقة السوق، وضمان أعلى معايير السلامة، وتحقيق استقلال تكنولوجي في صناعة الطيران.
حتى ذلك الحين، تبقى السماء مفتوحة، لكن السيطرة عليها لا تزال في يد عملاقين فقط... فهل سينضم إليهما ثالث قريبًا؟