ما بين البحث والجواب، الذكاء الاصطناعي يشعل المنافسة بخوارزميات تختصر رحلتنا نحو المعلومة ويعيد تشكيل مفهوم المعرفة ذاتها.
حدثٌ رقميّ قد يبدو عاديًّا في ظاهره، لكنه يحمل بين طيّاته تحوّلًا عميقًا في علاقة الإنسان بالمعرفة. فموقع ويكيبيديا، الذي شكّل لعقود "الذاكرة الجماعية للإنترنت"، أعلن مؤخرًا عن تراجعٍ بنسبة تقارب 8٪ في عدد الزوار خلال عامٍ واحد فقط. رقم صغير في عيون الإحصائيين، لكنه كبيرٌ في دلالاته؛ إذ يعكس تغيّرًا جذريًا في طريقة تعامل البشر مع المعلومة ذاتها.
shutterstock
ففي مطلع الألفية، كانت رحلة البحث عن المعرفة تبدأ عادة من "شريط البحث" في جوجل وتنتهي في صفحات ويكيبيديا. كان القارئ يبحر بين الفقرات، يربط بين الروابط، يقرأ أكثر مما يسأل، ويكتشف أكثر مما يتلقّى.
أما اليوم، فقد تبدّلت المعادلة تمامًا. لم يعد المستخدم يبحث ليقرأ، بل يسأل ليُجاب. لم تعد المعرفة تُكتسب بالقراءة، بل تُقدّم في سطورٍ قليلة، جاهزةٍ للهضم دون مضغ.
محركات الذكاء الاصطناعي، مثل ChatGPT وغيرها، حوّلت عملية البحث من مغامرة فكرية إلى "إجابةٍ فورية". بضغطة زر، تختصر لك آلاف المقالات في فقرةٍ واحدة، وتقدّم لك خلاصة ما تحتاج إليه دون أن تغادر الشاشة أو تتعمّق في المصدر. إنها ثورة في الكفاءة، نعم، لكنها أيضًا تحوّل ثقافي ومعرفي يمسّ جذور الطريقة التي نفكر ونتعلّم بها.
لسنا أمام مؤامرةٍ ضد القراءة أو المعرفة، بل أمام قوة طبيعية جديدة، أشبه بفيضانٍ تكنولوجي يعيد تشكيل مجرى السيول. فالذكاء الاصطناعي لا "يسرق" القرّاء من ويكيبيديا، بل يعيد توزيع أدوار المنصات والمعرفة ذاتها. وكما غيّر الإنترنت طريقة تداول الأخبار والموسيقى والأفلام، ها هو اليوم يغيّر طريقة تداول الأفكار والمعلومات.
ومع كل تحوّل كهذا، يبرز سؤال جوهري: كيف يمكن أن نحافظ على عمق الفهم في عالمٍ يزداد سطحيةً؟ كيف نحمي التفكير النقدي في زمنٍ تُكتب فيه الإجابات قبل أن نطرح الأسئلة؟
ربما يكون الجواب في إعادة صياغة علاقتنا بالمعرفة. فبدلًا من النظر إلى التكنولوجيا كمنافسٍ، يمكن أن نراها كأداةٍ للتوسّع، شرط أن نحافظ على فضولنا الإنساني وقدرتنا على التساؤل. أن نستخدم الإجابة السريعة كبوابة، لا كوجهةٍ نهائية. أن نسمح للآلة بأن تُرشدنا، لا بأن تُفكّر نيابةً عنّا.
تراجع ويكيبيديا ليس مجرد حدث رقمي في تقارير الزيارات، بل علامة على تحوّل حضاري ثقافي في طريقة تعامل الإنسان مع المعلومة. نحن ننتقل من "عصر القراءة" إلى "عصر الإجابة"، ومن البحث إلى التلقّي، ومن التراكم إلى التلخيص. ومع هذا الانتقال، علينا أن نُعيد بناء علاقتنا بالمعرفة على أسسٍ جديدة: أكثر نقدًا، وأعمق فهمًا، وأكثر وعيًا بدور الإنسان في عالمٍ تتسارع فيه الآلات.
فالقصة ليست في انخفاض أعداد الزوار، بل في تحوّل الوعي. وربما يكون التحدي الحقيقي اليوم، ليس في أن نواكب الذكاء الاصطناعي، بل في أن نحافظ على ذكائنا الإنساني.