"أنا من هناك".. النصّ المسرحي كناقل لعدوى الشعر

shutterstock

shutterstock

حاوَلْتُ الاصطِيَادَ في المَاءِ العَكِرِ، فَرَبَابُ رَبَّةُ البَيْتِ لَهَا سَبْعُ دَجَاجَاتٍ وَلَيْسَ عَشْرَ دَجَاجَاتٍ، لَكِنَّ فِذْلِكَتِي اللُّغَوِيَّةَ تَفَرْكَشَتْ سَرِيعًا أَمَامَ "الحَاجّ غُوغْل" الَّذِي أَوْضَحَ خَطَئِيَ القَدِيمَ، وَأَعَادَ ثَلَاثَ دَجَاجَاتٍ دَفْعَةً وَاحِدَةً لِعَامِرَ، رُبَّمَا تَعْوِيضًا لَهُ عَنْ تَعَبِهِ هَذِهِ اللَّيْلَةَ مَعَنَا.



يَمْزُجُ عَامِرُ الشِّعْرَ بِالمَسْرَحِ فِي هَذِهِ المَسْرَحِيَّةِ بِطَرِيقَةٍ لَبِقَةٍ وَسَلِسَةٍ عَادَةً، مُحَاوِلًا نَشْرَ عَدْوَى الشِّعْرِ بَيْنَ مُتَلَقِّيهِ.


اعتراف شخصي: لم أحب الشعر يومًا


وهُنا يَجِبُ أنْ أُسجِّلَ اعْتِرَافًا خَطِيرًا... لَمْ أُحِبَّ الشِّعْرَ فِي طُفُولَتِي أَبَدًا. كَرِهْتُ المَحْفُوظَاتِ، وَذَلِكَ الكَلَامَ الغَرِيبَ المُقَفَّى الَّذِي كُنَّا نَأْكُلُ العِصِيَّ مِنْ أَجْلِهِ. لِذَلِكَ، فَضَّلْتُ دَائِمًا النَّثْرَ؛ فَضَّلْتُ "ذَاكِرَةً لِلنِّسْيَانِ" عَلَى "مَدِيحِ الظِّلِّ العَالِي"، وَفَضَّلْتُ مَقَالَاتِ رَاشِدٍ عَلَى أَشْعَارِهِ، وَآثَرْتُ "نَثْرَ" المَاغُوطِ عَلَى شِعْرِ قَبَّانِي. فِي نَفْسِ الوَقْتِ، كُنْتُ أُحِبُّ أَغَانِيَ مَارْسِيل خَلِيفَة وَالشَّيْخِ إِمَام وَأَغَانِيَ فَيْرُوز.


أَصَابَتْنِي عَدْوَى الشِّعْرِ حَقِيقَةً عِنْدَمَا انْكَشَفْتُ لِعِلْمِ العَرُوضِ، الَّذِي وَفَّرَ لِي مَنْفَذًا بَيْنَ عَالَمِي الرِّيَاضِيِّ (رِيَاضِيَّات وَلَيْسَ رِيَاضَة وَالعِيَاذُ بِاللهِ) وَعَالَمِ الأَدَبِ.


مِكَرْ رِنْ \ مِفَرْ رِنْ مَقْ

بِلَنْ مَدْ \ بِرَنْ مَعَنْ

كِجِلْ مُو \ دَ صَخْرِنْ حَطْ

طَهْسَ سِي \ لَمِنْ عَلِي


لِتَنْتَابَنِي بَعْدَهَا هَوَاجِسُ الحَرْبِ الخَاسِرَةِ بَيْنَ الوَزْنِ وَالمَعْنَى، فَأَصْطَفَّ مَعَ لِينِين ضِدَّ مَارْكِس، وَمَعَ الوَزْنِ ضِدَّ المَعْنَى، لِأَكْتُبَ الشِّعْرَ ثُمَّ أَتَوَقَّفَ سَرِيعًا لِأَسْبَابٍ كَثِيرَةٍ تَحْتَاجُ مَقَالًا مُنْفَرِدًا.


عامر.. من الخجل إلى الصرخة


لِحُسْنِ حَظِّنَا، خَرَجَ عَامِرُ مِنْ بُؤْرَةِ الخَجَلِ، وَتَعَلَّمَ فَنَّ المَسْرَحِ وَصَارَ يَصْرُخُ لِلْعَالَمِ بِصَوْتِهِ، بِصَوْتِنَا. لَكِنَّنَا بَقِينَا نَحْنُ صُمًّا بُكْمًا نَخَافُ مِنَ الشُّرْطِيِّ لِأَنَّهُ شُرْطِيٌّ، وَمِنَ الجُنْدِيِّ لِأَنَّهُ جُنْدِيٌّ، وَمِنْ أَنْفُسِنَا لِأَنَّنَا أَجْبَنُ مِنْ أَنْ نَصِيرَ أَنْفُسَنَا. هَكَذَا، أَصْبَحَ عَامِرُ صَوْتَنَا لِيَصْرُخَ بِاسْمِنَا، يَصْرُخُ بِشِوَيْشٍ كَيْ لَا يَقَعَ بِوَرْطَةٍ مَعَ الشُّوَيْطِر (الشُّرْطِيِّ) أَوْ مَعَ العَفَارِيان (ذَوِي السَّوَابِقِ).


هَلْ هِيَ مُفَارَقَةٌ سَمِجَةٌ؟ أَنَّ الصُّورَةَ الوَحِيدَةَ الَّتِي أَتَذَكَّرُهَا مِنْ طُفُولَتِيَ المُبَكِّرَةِ، هِيَ رِحْلَتُنَا لِتَلْ أَبِيبَ أُسْوَةً بِالأُغْنِيَةِ حَيْثُ زُرْنَا فِيهَا "جُنَيْنَةَ الدَّلَافِينِ"! بَيْنَ الفَيْنَةِ وَالأُخْرَى، يَنْجَحُ عَامِرُ فِي دَفْعِكَ لِنَوْبَاتٍ مِنَ الضَّحِكِ، وَبَيْنَمَا تَتَعَافَى مِنْ نَوْبَاتِ الضَّحْكِ وَالبُكَاءِ، تُولَدُ هُنَالِكَ نَغْزَةٌ لِتَكْبُرَ حَتَّى تُصْبِحَ غُصَّةً.


لَمْ يُفَاجِئْنِي عَامِرُ فِي هَذِهِ المَسْرَحِيَّةِ، فَقُدُرَاتُهُ المَسْرَحِيَّةُ يَمْلِكُهَا مِثْلَ المَعْجُونِ وَيَأْسِرُ جُمْهُورَهُ. لِيُثْبِتَ مَرَّةً أُخْرَى تَفَوُّقَهُ فِي الأَدَاءِ المَسْرَحِيِّ، فَتَشْعُرَ أَنَّ البَرْزَخَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ العَالَمِيَّةِ هُوَ البَرْزَخُ بَيْنَ عَامِر حُلَيْحِل وَبَيْنَ آمِر خُولِيخِل أَوْ آمِر هُولِيهِل.


في مرايا الوطن والذاكرة


سَأَبْقَى أُحَرِّضُ عَلَى عَامِرَ. أَوْ بِاسْمِهِ التَّلْ أَبِيبِيِّ آمِر خُولِيخِل. كَيْ يَأْتِيَ يَوْمٌ أَقُولُ فِيهِ: آه! هَذَا عَامِرُ مِنْ عَنَّا مِنْ حَيْفَا مِنْ هُون (لَا أَنَا حَيْفَاوِيٌّ وَلَا عَامِرٌ، بَسْ الشُّوَيْطِر حَيْفَاوِيٌّ أُسْلِي).

قِصَّةُ عَامِرَ هِيَ قِصَّتُنَا، نَخْتَلِفُ عَنْهَا حِينًا وَنَتَقَاطَعُ مَعَهَا أَغْلَبَ الأَحْيَانِ. وَبِمَا أَنَّنَا - كَمَا يَبْدُو - مِنْ نَفْسِ الجِيلِ تَمَامًا، فَقَدْ تَشَابَهَتْ دَرَجَاتُ كَيِّ وَعْيِنَا فِي نَفْسِ المَشَاهِدِ مِنَ الحُرُوبِ. لِحُسْنِ حَظِّي رُبَّمَا، كُنْتُ بَعِيدًا عَنْ مَسَارِ الطَّائِرَاتِ الَّتِي قَصَفَتْ لُبْنَانَ.


مَاذَا يَعْنِي أَنْ تَكُونَ أَعْزَلَ فِي حَرْبٍ بَيْنَ عَدُوٍّ يُدَافِعُ عَنْكَ وَصَدِيقٍ يَدُكُّكَ بِالصَّوَارِيخِ؟


فِي وَطَنِنَا المُشْتَهَى، أَتَخَيَّلُنِي أُنَاكَفُ عَامِرَ: فَهُوَ يُلَوِّحُ بِأَشْعَارِ مَحْمُود دَرْوِيش ابْنِ الجَلِيلِ، وَأَنَا أُلَوِّحُ بِأَشْعَارِ أَحْمَد حُسَيْن ابْنِ المُثَلَّثِ. أَوْ نَبْحَثُ مَعًا عَنْ مَدَامِيكِ الأُصُولِ اللَّفْظِيَّةِ الَّتِي تُفَنِّدُ رِوَايَةَ الآخَرِ عَنْ أَصْلِ كَلِمَةِ إِسَّه الجَلِيلِيَّةِ أَوْ هَسَّه المُثَلَّثِيَّةِ.

كَيْفَ يُمْكِنُنَا أَنْ نَمُوتَ كُلَّ يَوْمٍ، وَمَعَ ذَلِكَ نَسْتَمِرَّ بِالتَّنَفُّسِ وَالأَكْلِ وَالشُّرْبِ وَالضَّحِكِ؟

مَتَى سَيَنْتَهِي كُلُّ هَذَا؟ وَنَعُودُ إِلَى مَشَاكِلِنَا التَّافِهَةِ لِنَغْرَقَ بِهَا، وَنَشْتَاقَ إِلَى آشِر الَّذِي يُحَقِّقُ مَعَ عَامِرَ، زَارَ مَالِكَةُ بَيْتِ عَامِرَ، زَارَتِ القُضْبَانُ خَيَالَ عَامِرَ.


وَمِنْ بَيْنِ السُّطُورِ الشِّعْرِيَّةِ، وَمُحَاوَلَاتِ عَامِرَ الحَثِيثَةِ عَلَى إِنْتَاجِ أَنْطُولُوجْيَا شِعْرِيَّةٍ فِي مَسْرَحِيَّةٍ وَاحِدَةٍ، حَضَرَ بِغِيَابِهِ مُظَفَّرُ النَّوَّابُ:

سُبْحَانَكَ! كُلُّ الأَشْيَاءِ رَضِيتُ سِوَى الذُّلِّ

وَأَنْ يُوضَعَ قَلْبِي فِي قَفَصٍ فِي بَيْتِ السُّلْطَانِ

وَرَضِيتُ نَصِيبِيَ فِي الدُّنْيَا كَنَصِيبِ الطَّيْرِ

وَلَكِنْ سُبْحَانَكَ، حَتَّى الطَّيْرُ لَهَا أَوْطَانُ

وَتَعُودُ إِلَيْهَا

وَأَنَا مَا زِلْتُ أَطِيرُ

فَهَذَا الوَطَنُ المُمْتَدُّ مِنَ البَحْرِ إِلَى البَحْرِ

سُجُونٌ مُتَلَاصِقَةٌ

سَجَّانٌ يُمْسِكُ سَجَّانَا


لَا يُمْكِنُ مُقَارَنَةُ مَسْرَحِيَّاتِ عَامِرَ بِالرَّدَاءَةِ المَحَلِّيَّةِ المُسْتَشْرِيَةِ. أَسْتَحِي هُنَا أَنْ أَكْتُبَ عَنْهَا شَيْئًا رِفْقًا بِالعَامِلِينَ عَلَيْهَا. وَحْدَهَا مَسْرَحِيَّاتُ عَامِرَ يُمْكِنُ مُقَارَنَتُهَا بِمَسْرَحِيَّاتِ عَامِرَ. وَمَعَ ذَلِكَ، رُبَّمَا تَأْتِي "وَلَكِنْ" صَغِيرَةٌ: فَهَذِهِ المَسْرَحِيَّةُ إِذَا مَا وُضِعَتْ أَمَامَ مَسْرَحِيَّةٍ مِثْلِ "طَهَ"، نَجِدُ تَفَاوُتًا فِي تَمَاسُكِ القِصَّةِ. الشِّعْرُ فِي مَسْرَحِيَّةِ "طَهَ" كَانَ ضَرُورَةً خَدَمَتِ المَسْرَحِيَّةَ بِشَكْلٍ مُطْلَقٍ، لِيَضَعَنَا أَمَامَ شِعْرٍ لَا نَعْرِفُهُ أَوْ نَعْرِفُ بَعْضَهُ لِأَحَدِ عَمَالِقَةِ الشِّعْرِ الفِلَسْطِينِيِّ، لَكِنْ فِي هَذِهِ المَسْرَحِيَّةِ كَانَ النَّجَاحُ جُزْئِيًّا. وَبَيْنَمَا قِصَّةُ "طَهَ"، وَخُصُوصًا مَا حَدَثَ فِي النَّكْبَةِ، تَتَحَوَّلُ تَمَامًا عِنْدَمَا يُلْقِي عَامِرُ هَذَا المَقْطَعَ: "نَحْنُ لَمْ نَبْكِ سَاعَةَ الوَدَاعِ! فَلَدَيْنَا لَمْ يَكُنْ وَقْتٌ وَلَا دَمْعٌ وَلَمْ يَكُنْ وَدَاعٌ! نَحْنُ لَمْ نُدْرِكْ لَحْظَةَ الوَدَاعِ أَنَّهُ الوَدَاعُ فَأَنَّى لَنَا البُكَاءُ؟!"، فَأَنْتَ تَتَحَوَّلُ حَيَاتُكَ إِلَى مَا قَبْلَ هَذَا البَيْتِ الشِّعْرِيِّ وَإِلَى مَا بَعْدَهُ. فَأَنَّى لِعَامِرَ أَنْ يَجِدَ مِثْلَ هَذِهِ المَأْسَاةِ التَّارِيخِيَّةِ فِي قِصَّةِ حَيَاتِهِ الَّتِي تُشْبِهُنَا وَتَسِيرُ بَيْنَ الخَوْفِ وَالتَّخَبُّطِ وَانْعِدَامِ الأَمَلِ فِي ظِلَالِ وُجُودِ هَذِهِ "الدَّلَّةِ" أَمَامَ مَأْسَاةٍ كَوْنِيَّةٍ بَيْنَ مَنِ امْتَلَكَ كُلَّ شَيْءٍ لِيَتَحَوَّلَ إِلَى لَا شَيْءٍ.


لَنْ أَتَوَقَّفَ عَنِ التَّحْرِيضِ عَلَى عَامِرَ. فَعَامِرُ هُوَ صَوْتُنَا إِلَى العَالَمِ، صَوْتُ الجَالِسِينَ فِي الصُّفُوفِ الخَلْفِيَّةِ الَّذِينَ يَلْتَهِمُونَ الطَّعَامَ بِشَرَاهَةِ المَهْزُومِينَ، وَتَرْحَلُ عُيُونُهُمْ كُلَّ يَوْمٍ عَنْ أَحْلَامِهِمْ.

فِي انْتِظَارِ الجَدِيدِ مِمَّنْ أَنْجَزَ خَطًّا مَسْرَحِيًّا رَفَعَ بِهِ صَوْتَنَا إِلَى العَالَمِ.

يتم الاستخدام المواد وفقًا للمادة 27 أ من قانون حقوق التأليف والنشر 2007، وإن كنت تعتقد أنه تم انتهاك حقك، بصفتك مالكًا لهذه الحقوق في المواد التي تظهر على الموقع، فيمكنك التواصل معنا عبر البريد الإلكتروني على العنوان التالي: info@ashams.com والطلب بالتوقف عن استخدام المواد، مع ذكر اسمك الكامل ورقم هاتفك وإرفاق تصوير للشاشة ورابط للصفحة ذات الصلة على موقع الشمس. وشكرًا!

phone Icon

احصل على تطبيق اذاعة الشمس وكن على
إطلاع دائم بالأخبار أولاً بأول

Download on the App Store Get it on Google Play