في خضمّ سباق عالمي على الاستثمار في الذكاء الاصطناعي والتقنيات المتقدمة، تصطدم الآمال المطروحة أمام واقع يمور بمخاطر اقتصادية جمة. التقييمات المبالغ فيها للشركات التقنية، الديون المتصاعدة، والتوسع في أدوات الائتمان كلها عوامل تُذكّرنا اليوم بما يُعرف بـ "Minsky Moment" - لحظة انهيار الأصول التي تنبأ بها هيمان مينسكي منذ عقود.
لكن وسط هذا القلق، يذهب مستثمر بارز مثل مايكل باري أبعد من ذلك: إن ما يظهر اليوم من أرباح وشركات مقدّرة بقيم خيالية قد يُخفي خسائر حقيقية… خسائر سيكتشفها الاقتصاد حين تنهار الفقاعة.
نظرية مينسكي: لماذا تتكوّن الفقاعات، لا لماذا تنهار؟
هيمان مينسكي - اقتصادي كينزي درس تاريخ الأسواق المالية - وضع فرضية جدّ بسيطة لكنها ثورية: الاستقرار يولّد عدم الاستقرار. ترتبط الفقاعات المالية بدورة ائتمانية تمضي عبر ثلاث مراحل:
تمويل التحوّط (Hedge Finance): شركات ومقترضون يديرون ديونهم بحذر، قادرون على سداد الفوائد والأصل من تدفقاتهم النقدية.
التمويل المضاربي (Speculative Finance): المقترضون يدفعون الفوائد فقط، ويعتمدون على إعادة تمويل الدين أو ارتفاع قيمة الأصول.
تمويل "بونزي" (Ponzi Finance): المقترض لا يدفع فائدة ولا أصل الدين، بل يعتمد بالكامل على توقع ارتفاع مستمر في قيمة الأصول.
عندما يصل الاقتصاد إلى المرحلة الثالثة، يبدأ ما سماه Minsky "اللحظة" - انهيار مفاجئ حيث تنهار الأسعار، وتنهار معها القروض، وانعدام السيولة يجتاح النظام.
سبق أن شهد العالم لحظات مينسكي العديدة: فقاعة آسيا 1998، فقاعة الأسهم اليابانية، أزمة الرهن العقاري 2007–2008.
الذكاء الاصطناعي: فقاعة جديدة أم ثورة اقتصادية؟
اليوم، يقف قطاع الذكاء الاصطناعي في مركز دُمغ عالمي للاستثمارات والمضاربات: شركات ناشئة تُقدَّر بمليارات الدولارات، ومدن كاملة من مراكز البيانات تُبنى على فرض نمو لا يتوقف.
لكن التحولات السريعة والتقييمات الفلكية تثير الشك لدى عدد من المستثمرين. مايكل باري - الذي توقع أزمة 2008 - عاد لتحذير الأسواق من أن "فقاعة الذكاء الاصطناعي" قد تكون أكبر من فقاعة dot-com (بداية سنوات الألفين) أو فقاعة العقارات (2007 - 2008)، بادّعاء أن شركات كبرى قد تختبئ خلف حسابات مضخّمة: تمديد عمر الأصول (خوادم، ومعدات ذكاء اصطناعي) لتقليل مصروف الإهلاك، وبالتالي تضخيم الأرباح، وتقديم صورة مضللة لطبيعة ربحية هذه الشركات.
باري ذهب خطوة أبعد حين وضع رهانات بيع (Put Options) ضخمة ضد شركات مثل Nvidia وPalantir، معبّرًا عن إيمانه بأن الهستيريا الاستثمارية في الذكاء الاصطناعي "أكبر صفقة مضاربية في التاريخ".
الدين الأمريكي: عبء ثقيل يضيف وقودًا لخطر الانهيار
لا يمكن فصل هذا التوتر في سوق الأصول عن الدين الأمريكي الضخم. اقتصاد الولايات المتحدة - المركز الأساسي لرأسمالية التكنولوجيا والاستثمار- يعاني من مستويات ديون غير مسبوقة، سواء على صعيد الحكومة أو الشركات أو صناديق التحوط أو حتى الأفراد.
صناديق الاستثمار غير المصرفية وصناديق السندات باتت تزود الأسواق بالسيولة، لكنها تحتفظ بدرجات عالية من الأصول غير السائلة. في حال تصحيح في أسعار الأسهم أو الذكاء الاصطناعي، قد تضطر إلى بيع هذه الأصول، ما يفاقم انهيار القيمة ويخلق أزمة سيولة.
الديون - بفوائد مرتفعة بعد رفع سعر الفائدة من البنوك المركزية - تضغط على الشركات والمستهلكين على حد سواء. في بيئة حيث تكلفة الاقتراض ترتفع، يجد كثيرون أنفسهم عاجزين عن خدمة ديونهم. هذا السيناريو يلتقي بسيناريو "لحظة مينسكي": انهيار الديون، وانهيار الأصول، وانهيار الثقة.
لماذا قد تكون الفقاعة مؤجلة… وليس معدومة؟
من المهم أن نوضح أن بعض المحللين لا يرون انهيارًا وشيكًا. في مقالات عن إمكانات الذكاء الاصطناعي، يُشير مثلًا الخبير مايكل سبينس إلى أن الذكاء الاصطناعي قد يكون أداة قوية لتعزيز الإنتاجية وتحفيز النمو الاقتصادي، خصوصًا في فترة ما بعد الجائحة، في قطاعات الطاقة، والرعاية الصحية، والتصنيع، والخدمات العامة.
أيضًا، بعض شركات التكنولوجيا الكبيرة تعلن أنها ترى في ما يحدث اليوم "شيئًا مختلفًا تمامًا عن الفقاعات السابقة".
لكن يبقى السؤال: هل النمو الحقيقي في الإنتاجية والاستفادة الاقتصادية سيكون كافيًا لتبرير القيم السوقية الحالية؟ أم أن الحماس مؤقت والمضاربات مبنية على فرضيات غير مستدامة؟
ماذا يمكن أن يحدث؟ سيناريوهان مرجّحان
سيناريو الانفجار (مينسكي / باري):
تصفية جماعية في أسهم الذكاء الاصطناعي والتكنولوجيا.
انهيار في صناديق التحوط التي اعتمدت على دين أرباح مستقبلية.
أزمة سيولة تمتد إلى الائتمان، والعقارات، والأسواق الناشئة.
ركود عالمي واسع، وانخفاض في الوظائف، وانهيار استثماري.
سيناريو التحوّل الحقيقي:
الذكاء الاصطناعي يؤسس لمرحلة إنتاجية جديدة: استبدال الالتزامات الثقيلة بالكفاءة، وخفض تكاليف رؤوس الأموال، ودفع الابتكار في الطاقة، والصحة، والتعليم.
قَبول اجتماعي وتنظيمي للتكنولوجيا - ما يضمن استقرارًا بعيد المدى.
تحوّل في سوق العمل: وظائف جديدة تتطلب مهارات عالية، بينما يُعاد توزيع العمل المتكرّر.
خلاصة: هل نحن على أعتاب "لحظة مينسكي" جديدة؟
نظرية هيمان مينسكي تمنحنا إطارًا لفهم كيف يمكن للازدهار أن يولد الانهيار. إن التحذيرات الراهنة من مايكل باري ليست مجرد كآبة قديمة - بل استشراف لحسابات مالية قد تنهار بمجرد أن تتغير معطيات السوق.
ومع تراكم الديون الأمريكية، وتعويل كبير على التكنولوجيا لتوليد نمو في عالم مثقل بالتحديات - التضخم، وتغير المناخ، والبطالة، والتفاوتات الاقتصادية - يبدو أن الخيارات أصبحت محدودة: إما استثمار حقيقي يبني اقتصادًا جديدًا، أو فقاعـة تهوي بنا إلى أزمة جديدة.
في كل الأحوال، من الحكمة اليوم أن نتابع الأسواق بحذر، وأن نفهم أنّ كل سهم، كل تقييم، وكل قرض قد يحمل في طياته بذور الأزمة. لأن كما قال مينسكي: "الوقت الطويل من الاستقرار لا يزيل المخاطر، بل يجمّدها مؤقتًا… حتى تنفجر في اللحظة الأشد هشاشة".