تعمّ مدينة ام الفحم حالة من القلق والتباين في الأراء ازاء الاعلان عن تنظيم حفل موسيقي لجوقة سراج في مسرح وسينماتك - امّ الفحم، وأثير الجدل في المدينة مؤخرا، بعد البيان الذي اصدره الشيخ مشهور فوّاز وفيه يعلن عن انّ هذه الفعاليّة مخالفة للشريعة الاسلاميّة - على حدّ قوله-.
بيان الشيخ د. مشهور فوّاز أثار حالة من التحفّظ والغضب عند الكثيرين من أبناء المدينة المثقّفين والمتعلّمين وغيرهم.
رسالة دعم من د. أيمن إغبارية إلى عاملي وعاملات المركز الجماهيري- أم الفحم
بسم الله الرحمن الرحيم، الَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ كَبَائِرَ الْإِثْمِ وَالْفَوَاحِشَ إِلَّا اللَّمَمَ ۚ إِنَّ رَبَّكَ وَاسِعُ الْمَغْفِرَةِ ۚ هُوَ أَعْلَمُ بِكُمْ إِذْ أَنشَأَكُم مِّنَ الْأَرْضِ وَإِذْ أَنتُمْ أَجِنَّةٌ فِي بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ ۖ فَلَا تُزَكُّوا أَنفُسَكُمْ ۖ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنِ اتَّقَىٰ (32) أَفَرَأَيْتَ الَّذِي تَوَلَّىٰ (33) وَأَعْطَىٰ قَلِيلًا وَأَكْدَىٰ (34) أَعِندَهُ عِلْمُ الْغَيْبِ فَهُوَ يَرَىٰ
إخوتي وأخواتي الكرام في المركز الجماهيري - أم الفحم
أولاً، أسجل اعتزازي بدوركم التنويري واحترامي الفائق لجهودكم المتواصلة في نشر قيم الثقافة الملتزمة وعرض الأعمال الفنية النوعية. أما بعد، فقد ساءني ما وَصل إليه النقاش حول العَرض الموسيقي المُرتقب لجوقة “سراج” عـلى خشبـة مسـرح وسينماتـك أم الفحـم. وعليه أودُ التأكيد علي ما يلي:
لا سلطة دينية في الإسلام.
الإسلام رفع الحجب بين الارض والسماء وجعل علاقة الأنسان بخالقه جَل جلاله علاقةً مباشرةً لا وصاية عليها ولا كهنوت فيها. هذا ومن المفيد أن نُذكر هنا بموقف الإمام “محمد عبده” الذي رأى أن هذا الدين الحنيف لم يدع لأحد بعد الله ورسوله الكريم سلطاناً على عقيدة أحد ولا سيطرة على إيمانه، وليس لمسلم أو مسلمة على أحدٍ إلا حق النصيحة والإرشاد. قال ربُّ العِزة: “فَذَكِّرْ إِنَّمَا أَنتَ مُذَكِّرٌ (21) لَّسْتَ عَلَيْهِم بِمُصَيْطِرٍ (22)”. وليس في معنى التذكير لا الترهيب ولا التحريض….ولا التكفير.
وظيفة عالم أو عالمة الدين.
وظيفة عالم أو عالمة الدين هي قبل كل شيء تأكيد الفصل ما بين الدين (نصاً وظاهرةً) وكيف نفهم الدين ( الفهم الإنساني للدين). بكلمات أخرى، فصلٌ ما بين الشريعة بوصفها أمراً إلّهياً والفِقّه بوصفه جهداً إنسانياً لفهم ما أمر الله به ونهى عنه، وفصلُ ما بين شريعة الله بوصفها دائمة ونهائية وفقّه الإنسان بوصفه متغيراً وظرفياً. وظيفة عالم الدين في هذا السياق هي أن يُبين ويشرح ويقارن دون إكراه أو ترويج لموقف بعينه دون غيره. ولعل الموقف من الغِناء والموسيقى الذي عَبر عنه بعضُ الاخوة خيرُ دليلٍ على الخلط بين الفقه والشريعة، حيث تمت صياغة الموقف المُحرِّمِ للحفل كموقف شرعي (والأصح هو موقف فقهي) عليه إجماعٌ ( لم يبّن لنا أحد من حرّم َ ومتى؟ ولماذا؟) صريح (هذا من وجهة نَظر صاحب الإجتهاد) في القرآن والسُنة ( والأصح أن نقول في تفاسير القرآن والسنة). هذا وبإمكان المتصفح للأنترنت أن يلاحظ بسهولةٍ بالغةٍ أن موضوع الغناء والموسيقى (وبالمناسبه هناك فوارق بينهما في الحكم الفقهي عليهما) هو موضوع خلافي إلى حدٍ كبير. واقع الأمة وواقع الحال هو أنه يوجد من يُحلّل ( بشروط وبغير ذلك) ويوجد من يُحرم ( بمسوغات وبدونها) ، ولكل طرف أدلته “الشرعية” وما يستند عليه في فهمه للقرآن والسنة.
من هنا وفي خضم هذه الفوضى الفقهية، كان الآجدى أن يُعرف علماءُ الدين بالمواقف المختلفة وأن يُبينوا للناس حُجة كل طرفٍ. كان الأجدى أن يمارسوا دورهم كعلماء لا كأوصياء. طبعاً، لهم كامل الحق في أن يتخذوا موقفاً ، لكن دون أن يُجبروا الناس عليه أو أن يُصوروا خياراتهم الفقهيه كأنها هي ودون غيرها الأصوب والأنفع والمنقذة من التهلكة يوم القيامة. كان الآجدى لو عرضنا ، مثلاً ، الفرق بين الاختلاط والخلوة واحكامهما والاعتراضات على هذه الاحكام ومسوغات كل طرف على ضوء التاريخ والمقاصد، أو أن نتحاور حول ما الذي يجب تجنبه في الغناء والموسيقى كي يظلا غذاء للروح كما قال البعض ، أو أن نتعاطي مع بعضنا في كيف لنا أن نوظف الموسيقى والغناء لنشر قيم الجمال والعدل والحرية : قيم الاسلام الخالدة. قديماً ، اعتاد العلماء أن يختتموا كتاباتهم بقول “والله أعلم” ، فهل من يرددها معي ؟؟
الدين في الحيز العمومي
نؤمن أن الأسلام دين الحيّزين العام والخاص وأنه دين “معاش ومعاد ودنيا وأخره” كما يقول استاذنا الفليلسوف المسلم “طه عبد الرحمن”. لكننا، نؤمن أيضاً أن الإسلام دين حضور لا تمظهر. يحضر قلباً وعقلاً وأخلاقاً وسلوكاً ولا يستلزمُ التمظهر في جسمٍ تنظيمي أو زيٍّ رسمي أو لازمة ٍكلامية . يحضر الدين قلباً يوجه العقل لعبادة الله ولتحقيق ما استخلفنا الله عليه وكلفنا به من أجل عمارة الأرض وخيرها ، ويَحضر عقلاً يوجه الأخلاق لكل ما هو حسن وجميل ومفيدٌ وأمن ، ويحضر أخلاقاً توجه السلوك لتحقيق العدل والتحرر والتآخي وحسن الخلق. قال عليه الصلاة والسلام: “أكمل المؤمنين إيماناً أحسنهم خلقا” (رواه أحمد وأبو داود). من هنا، حضور الموسيقى والغناء في أشكالهما الراقية وغير المبتذلة هو في النهاية حضور الأخلاق والجمال ، وحضورٌ لنِعم الله ولقيم الإسلام السَمحة. حضورٌ فيه فرصة ليتواصل الجيل الجديد من الشباب مع حديث أخر للروح في حياته في قالبٍ لا ضرر ولا ضرار فيه، وفي مناسبة غلبت فيها المصلحة المؤكدة على أي مفسدة محتملة ، وفي مركزٍ ثقافي وأهلي لم نعتد من عامليه إلا حسن النية والطَوية.
في حقوق الأخوة والصحبة.
مرةً أخرى، الاختلاف بخصوص الحفل المنتظر هو اختلاف رأي لا اختلاف في العقيدة او الإيمان، اختلافٌ في وجهة النظر الفقهية لا الشرعية . لكن، هذا الاختلاف يجب أن يظل في دائرة حقوق الأخوة والصحبة. يقول الإمام الغزالي في إحياء علوم الدين “ فلأخيك عليك حق في المال والنفس وفي اللسان والقلب بالعفو والدعاء وبالإخلاص والوفاء وبالتخفيف وترك التكلف”. وأشدد في سياق هذه الرسالة على حق “التخفيف”. فتعالوا نُخفف عن بعضنا بكثير من الحكمة والتواضع والتآخي.
أشدّ على اياديكم جميعاً. موعدنا السبت القادم مع مشيئة الرحمن. (الى هنا بيان د. أيمن كامل اغباريّة)