منذ أن دوّى اسم "بيليه فلسطين" سليمان العُبيد في منصات الأخبار بعد مقتله أثناء انتظاره المساعدات في خان يونس، خرجت كرة القدم من قوقعة "الحياد" إلى ساحة مساءلة علنية.
نعى "يويفا" الرجل بلا ذكر لظروف موته، فكتب محمد صلاح سؤالًا واحدًا هزّ صمت المؤسسات: "قولوا لنا كيف مات؟ وأين؟ ولماذا؟"
في ساعات قليلة انتقل الموضوع من منشور تعزية باهت إلى قضية رأي عام، وصارت مدرجات أوروبا تتعامل مع القصة على أنها اختبار للذاكرة الأخلاقية للعبة.
هذه اللحظة لم تكن عابرة؛ كانت شرارة أطلقت نقاشًا واسعًا حول معنى العدالة حين تُختزل في عبارات دافئة بلا فاعل ولا مسؤول.
روابط المشجعين تدفع عجلة القانون
واصلت الجماهير دفع الملعب إلى الوضوح. لم يعد الوشاح الفلسطيني أو اللافتة اليدوية مشهدًا محليًا؛ صار فعلًا أوروبيًا كذلك، تقوده روابط مشجعين ترى أن "لا سياسة في كرة القدم" تحوّلت عمليًا إلى "لا مسؤولية في الخطاب". ومع ازدياد صور الضحايا في الشاشات، تغيّرت أذن الجمهور: لم تعد تحتمل التعميم الذي يساوي بين الجلاد والضحية. هنا بالضبط بدأ المشهد الرياضي يُنتج عواقبه:
حسابات الأندية في السوق، مخاوف من سمعة سامة لصفقات معيّنة، وتدقيق مضاعف في صور المدرجات التي قد تُحدث كلفة تجارية لا يمكن تجاهلها.
هذا كلّه لم يأتِ بقرار مكتوب، بل بسلسلة ضغوط مجتمعة:
هتاف يعلو، بيان من رابطة مشجعين، موقف لاعب كبير يتكلم في اللحظة الصحيحة، تغطية صحفية غربية تتعامل بجدية مع الوقائع لا مع "الكليشيه الإنساني".
في الخلفية، تتحرك العجلة القانونية البطيئة لكرة القدم. فخلال كونغرس فيفا 2024، تقدّم الاتحاد الفلسطيني بمقترح لتعليق عضوية إسرائيل، فطلبت فيفا مراجعة قانونية عاجلة، قبل أن تُرجئ الحسم لاحقًا مع إبقاء ملفّ التمييز والمشاركة داخل أراضٍ محتلة قيد التحقيق.
هذه ليست "خطوة شكلية"، بل إشارة إلى أن الملف خرج من مساحة التصريحات إلى مائدة اللجان القانونية، حيث تُوزن السوابق والنصوص والانتهاكات المحتملة. وبالتوازي، ظهرت تحليلات قانونية مستقلة تُجادل بأن سلوك إسرائيل يخرق مواد من لوائح فيفا ويستوجب عقوبات. إن لم تكن هذه مقدمات لمسار عقابي، فهي على الأقل وضعٌ رسميٌّ يُشرعن النقاش حول العقوبة ويمنح المطالبين بها أرضًا صلبة.
shutterstock
هل يمكن أن تُنبذ إسرائيل كما نبذت جنوب أفريقيا؟
ولكي نفهم إلى أين يمكن أن تذهب كرة القدم حين تتراكم الأدلة والضغوط، لا بد أن نرجع إلى دفتر السوابق: جنوب أفريقيا في حقبة الفصل العنصري تعرّضت لمقاطعة رياضية شاملة، وصولًا إلى إقصائها من معظم الاتحادات، ولم تُستعد عضويتها في فيفا إلا في 1992 بعد مسار سياسي واضح لنهاية النظام العنصري.
هذا ليس تماثلًا ميكانيكيًا بين حالتين، لكنه يبرهن أن كرة القدم تعرف أن تتخذ قرارات كبرى حين تشعر أن الضمير العالمي استقر على معنى محدد للعدالة. كذلك، شاهدنا في 2022 كيف جرى التعامل سريعًا مع روسيا على خلفية غزو أوكرانيا (كسابقة حديثة لطريقة تحرك المنظومات الرياضية حين تجتمع السياسة والقانون والضمير العام). إذًا، الفكرة ليست "تسييس كرة القدم"، بل سؤال: متى تتحول الجريمة العامة إلى ملف رياضي له كلفة ومقتضيات؟
تشير المعطيات اليوم إلى أن هذا التحول جارٍ بالفعل. فبعد لحظة صلاح، تزايدت الضغوط على يويفا وفيفا، ليس فقط عبر البيانات، بل عبر ثقافة المدرج التي بدأت تمتحن كل رسالة رسمية على محكّ الدقة: هل تُسمّي الفاعل؟ هل تربط التضامن بسياقه؟ هل تتجنب التبرير الموارِب؟ ومع كل مباراة تشهد لافتات واضحة وصيحات ضد قتل المدنيين، تتغير بنية "المقبول" في الملاعب.
ليست المؤسسة هي التي تحدّد سقف الكلام وحدها؛ الجمهور أصبح شريكًا يُعدّل هذا السقف عمليًا، ووسائل الإعلام الكبيرة بدأت تعكس ذلك، بتغطيات تُظهر تفاصيل من قُتلوا وكيف وأين، بدل الاكتفاء بجمل عامة.
في هذا المناخ، المصالح المؤسسية تجد نفسها أمام خيارين: إما التصلّب الذي يفاقم الكلفة الأخلاقية والسمعية، أو البدء بخطوات تنظيمية تحافظ على "سلامة اللعبة" عبر إجراءات ملموسة تجاه الأطراف محلّ الاتهام بانتهاكات جسيمة.
ما الذي يعنيه هذا عمليًا لإسرائيل؟
حتى لو استمرت بالظهور في البطولات على المدى القريب، فإن مسار تسييل الغضب الجماهيري إلى أدوات قانونية جارٍ: لجان تقصّي في فيفا، مذكرات قانونية من خبراء حقوقيين، مطالبات من اتحادات وطنية، ومناخ رأي عام بات يرى أن “الإنسانية” بلا تحديد مسؤولية ليست حلًا بل تعطيلًا للحل.
كل هذا يراكم رأسمالًا أخلاقيًا وقانونيًا يمكن أن يُستثمر في أي محطة قادمة—مؤتمر استثنائي، حكم من محكمة التحكيم الرياضي، أو قرار من مجلس اتحاد قاري—ليتحول إلى عقوبة رياضية فعلية، قد تبدأ بإجراءات جزئية وتنتهي بإقصاء مؤقت، كما حدث في حالات سابقة حين تشكّل الإجماع الأخلاقي والقانوني. القول هنا ليس نبوءة، بل قراءة في منطق المؤسسات حين يتقاطع النصّ مع الرأي العام ومع سوابق مشابهة.
وعلى خط موازٍ، تتزايد المبادرات الشعبية التي تضغط باتجاه التعليق أو الحظر، من عرائض واسعة الانتشار إلى حملات منظمات أوروبية تطالب بتعليق المشاركة الرياضية. هذه ليست أدوات ملزمة قانونيًا، لكنها تغذي ماكينة الرأي العام وتمنح اللجان والاتحادات "الغطاء" الذي تحتاجه لتبرير قرارات قاسية. حين يصبح "ثمن الإبقاء على الوضع" أكبر من "ثمن التغيير"، تميل الاتحادات إلى التغيير، لا سيما إذا صار يُنظر إلى بعض المباريات باعتبارها مخاطر أمنية ورمزية معًا بسبب الاشتباك مع الجمهور.
هذا النوع من الضغط الناعم هو ما سبق أن مهّد تاريخيًا لمقاطعات كبرى، وهو ما نراه اليوم يتشكل ببطء ولكن بثبات.
تحوّل بنيوي لا حالة إنسانية
لهذا كلّه، أنا لا أرى ما يجري في الملاعب "حالة إنسانية" تُدار بعبارات رخوة وأقمشة ملونة، بل تحولًا بنيويًا في ضمير كرة القدم يضع إسرائيل على طريقٍ مرجّحٍ لعقاب رياضي لا تُحمد عقباه إذا استمرت الوقائع على حالها وتأكدت اللجان مما بين أيديها. ليس لأن المدرجات قررت أن تكون "محكمة"، بل لأن اللعبة نفسها امتلكت سوابق ومعايير تُفعَّل عندما يتقاطع الظلم الفاقع مع الإصرار المؤسسي على التعميم.
حينها، لا يعود السؤال: هل نسمح بالسياسة في كرة القدم؟ بل: هل نحمي معنى العدالة في كرة القدم؟ وإجابتي الواضحة أن المشهد يتجه نحو مرحلة يكون فيها العقاب خيارًا واقعيًا، لا ورقة ضغط خطابية.
وهذا جوهر الرأي: هذا التغيّر مهمٌّ وجذري، وليس حالة إنسانية يتعامل معها في الملاعب، بل مسارٌ منضبطٌ بسوابق وقوانين قد ينتهي بعقوبات ثقيلة على إسرائيل رياضيًا.