في خطوة لافتة على المستويين الإقليمي والدولي، وقّعت السعودية وباكستان اتفاقية دفاع مشترك جاءت بعد أيام قليلة من التصعيد الإسرائيلي ضد قطر، الأمر الذي منحها أبعادًا جيوسياسية عميقة. لم يكن الإعلان عن الاتفاق مجرد خطوة عابرة، بل حمل في طياته إشارات إلى تحولات محتملة في موازين القوى، خاصة بعدما أكدت إسلام آباد أن الاتفاقية تشمل مظلتها النووية، في سابقة تجعل السعودية أقرب إلى امتلاك غطاء ردع استراتيجي غير مسبوق في تاريخها الحديث.
هذه التطورات تأتي في ظل تعقّد العلاقة بين الرياض وواشنطن، حيث كانت السعودية تطمح إلى الحصول على اتفاقية دفاعية رسمية من الولايات المتحدة، لكن الأخيرة اشترطت في المقابل خطوة التطبيع مع إسرائيل، وهو ما جعل الرياض تبحث عن بدائل تعزز أمنها القومي دون أن تضطر لتقديم تنازلات سياسية غير متوافقة مع أولوياتها الحالية.
من هنا، يبرز سؤال جوهري: هل يعني التحالف مع باكستان بداية مسار ابتعاد تدريجي عن واشنطن، وتقارب أكبر مع بكين؟
السياق الإقليمي: الخليج بين الضغط الإسرائيلي وتوازن الردع
توقيت الاتفاق لم يكن صدفة. فالهجوم الإسرائيلي على قطر مثّل صدمة في المشهد الخليجي، وأعاد إلى الواجهة مسألة هشاشة الأمن الإقليمي في مواجهة التفوق العسكري الإسرائيلي. بالنسبة للسعودية، التي تسعى لتثبيت موقعها كقوة إقليمية كبرى، لم يعد مقبولًا الاعتماد الكامل على الغطاء الأمريكي، خصوصًا في ظل مؤشرات تراجع الالتزام الأمريكي التقليدي تجاه حلفائه في الشرق الأوسط.
التحالف مع باكستان يوفّر للسعودية ركيزتين أساسيتين: الأولى هي التعاون العسكري التقليدي من تدريب وتسليح وخبرات ميدانية، والثانية هي المظلة النووية الباكستانية، والتي تُعد تطورًا نوعيًا يفتح الباب أمام معادلات ردع جديدة في الخليج. هذا الإعلان يرسل رسالة مزدوجة: ردع مباشر لإسرائيل من جهة، وإعادة تموضع أمام الولايات المتحدة من جهة أخرى.
ولي العهد السعودي ورئيس وزراء جمهورية باكستان - وزارة الخارجية السعودية
السياق الدولي: بين واشنطن وبكين
منذ سنوات، تعمل السعودية على تنويع شراكاتها الدولية، في إطار رؤية 2030 التي تتطلب استقلالية أكبر في القرار السياسي والأمني. وفي هذا المسار، تلعب الصين دورًا متعاظمًا، ليس فقط كأكبر شريك تجاري للرياض، بل أيضًا كمصدر أساسي للتكنولوجيا العسكرية والنووية.
العامل اللافت أن جزءًا كبيرًا من السلاح الباكستاني مصدره الصين، ما يعني أن الاتفاقية السعودية – الباكستانية تحمل ضمنيًا بصمة صينية واضحة. بكين، التي رعت قبل بضع سنوات المصالحة السعودية – الإيرانية، تجد في هذا التقارب فرصة جديدة لتعزيز حضورها في الخليج على حساب النفوذ الأمريكي التقليدي.
بالنسبة لواشنطن، هذا التطور ينطوي على تحدٍّ مباشر، فالولايات المتحدة كانت تراهن على أن السعودية لن تجد بديلًا مقنعًا عن المظلة الأمنية الأمريكية. لكن توقيع اتفاقية دفاع مع قوة نووية مثل باكستان، مدعومة تكنولوجيًا من الصين، يضع واشنطن أمام معادلة جديدة لم تكن في الحسبان.
shutterstock
السعودية والتطبيع: هل أُغلقت النافذة؟
من الواضح أن المطلب الأمريكي بربط الاتفاقية الدفاعية بالتطبيع مع إسرائيل لم يلقَ استجابة سعودية، لا سيما أن الحرب على غزة وتداعياتها الإقليمية جعلت خطوة كهذه أكثر كلفة سياسيًا وشعبيًا.
الاتفاق مع باكستان قد يُقرأ كرسالة مباشرة إلى واشنطن وتل أبيب بأن الرياض لن تُرغَم على التطبيع تحت الضغط الأمني. بل إن دخول السعودية تحت المظلة النووية الباكستانية يمنحها أوراق قوة إضافية، تسمح لها بإعادة صياغة شروط اللعبة: إما اتفاقية دفاع مع واشنطن على أسس متوازنة، أو بدائل إقليمية ودولية أكثر استقلالية.
باكستان: الرابح الأكبر
لا شك أن إسلام آباد خرجت من هذا الاتفاق بمكاسب استراتيجية. فهي تعزز حضورها في الخليج، وتستعيد دورها كقوة نووية إسلامية وازنة قادرة على لعب أدوار تتجاوز جنوب آسيا.
كما أن هذا التعاون يفتح الباب أمام مكاسب اقتصادية مهمة عبر الاستثمارات السعودية في البنية التحتية والطاقة بباكستان، وهو ما تحتاجه إسلام آباد بشدة في ظل أزماتها الاقتصادية.
ثلاثة سيناريوهات مستقبلية للعلاقة السعودية – الأمريكية
بعد توقيع اتفاقية الدفاع مع باكستان، تقف العلاقات السعودية – الأمريكية على مفترق طرق، يمكن تلخيصه في ثلاثة سيناريوهات رئيسية:
1. الاستمرار مع التوتر المحسوب
تبقى السعودية ملتزمة بتحالفها الاستراتيجي مع واشنطن، مع استمرار شراء السلاح الأمريكي والتنسيق الأمني. لكن في الوقت ذاته ستُبقي على علاقاتها الدفاعية مع باكستان والصين كورقة توازن وضغط. هذا الخيار يمنحها قدرة أكبر على التفاوض في ملفات التطبيع والنووي المدني.
2. التباعد المتدرج
قد يؤدي توسع التعاون السعودي – الباكستاني – الصيني إلى تراجع الثقة مع واشنطن. فإذا شعرت الولايات المتحدة أن الرياض تُقلل من الاعتماد عليها أو تنقل بعض مشاريعها النووية والعسكرية إلى بكين، قد تتسع الفجوة تدريجيًا، ما يضع السعودية أمام تحديات في الحصول على التكنولوجيا المتقدمة الأمريكية أو الضمانات الأمنية التقليدية.
3. إعادة التموضع والتحالف الأوسع
من الممكن أن يدفع الاتفاق الرياض إلى موقع تفاوضي أقوى، فتنجح في التوصل إلى اتفاقية دفاعية مع الولايات المتحدة بشروط أكثر توازنًا، من دون أن يكون التطبيع مع إسرائيل شرطًا حصريًا. في هذه الحالة، تتحول السعودية إلى لاعب محوري يدير شبكة تحالفات متعددة: مع واشنطن من جهة، ومع باكستان والصين من جهة أخرى.
خاتمة
اتفاقية الدفاع بين السعودية وباكستان ليست مجرد تفاهم ثنائي، بل إشارة إلى تحولات أعمق في بنية النظام الإقليمي والدولي. فهي من جهة تعكس رغبة سعودية في التحرر من القيود الأمريكية والبحث عن شراكات أكثر مرونة، ومن جهة أخرى تُظهر تنامي دور الصين كفاعل أساسي في الخليج عبر البوابة الباكستانية.
وبين واشنطن وبكين، تقف الرياض اليوم في موقع يتيح لها إعادة صياغة معادلات الأمن والتحالفات، ليس فقط في الخليج، بل في الشرق الأوسط بأسره. إنها لحظة مفصلية قد تحدد ملامح المرحلة المقبلة: هل تبقى السعودية رهينة المظلة الأمريكية، أم تصبح هي من يعيد رسم موازين القوى من جديد؟