منذ بدء الحرب الحالية، الأطول في تاريخ إسرائيل، يوم 7 أكتوبر، دخلت البلاد في حالة صراع طويل ومعقد، لا تُقاس خسائره فقط بالمعارك الميدانية، بل تمتد إلى عمق الاقتصاد في أبعاد عدة. تتنوع التأثيرات بين فورية ومتوسطة وطويلة الأجل، وتشمل القطاعات الإنتاجية، والمالية، والميزانية العامة، وسوق العمل، والقطاع التصديري، وغيرها. في هذا المقال، نستعرض أبرز هذه التأثيرات ونناقش المخاطر المتوقعة والفرص المحتملة لمرحلة ما بعد الحرب.
الخسائر المباشرة وتكاليف الحرب
أحد أبرز الآثار الفورية هو الارتفاع الهائل في الإنفاق العسكري، وتكاليف التجنيد وتعبئة الاحتياطيات. يقدّر أن إسرائيل استدعت نحو 300 ألف عنصر احتياطي، ما أدى إلى غيابهم عن سوق العمل لفترات طويلة. حسب تقديرات وزارة المالية، فإن تكلفة يوم واحد لقرابة مائة ألف جندي احتياطي قد تصل إلى عشرات ملايين الشواقل في الرواتب والتجهيزات والدعم اللوجستي.
shutterstock
كما أن الاستهلاك الضخم للأسلحة والذخائر، واستنزاف المخزون الحربي، وضرورة تجديده، تزيد من الأعباء المالية بصورة تفوق التوقعات. وتُضاف إلى ذلك النفقات على تهيئة البنى التحتية المتضررة، ودعم النازحين، والتعويضات، وغيرها من الأعباء الاجتماعية المفروضة على الخزينة.
بعض التقديرات تشير إلى أن تكاليف الحرب المباشرة وغير المباشرة بين 2023 و2025 قد تبلغ نحو 55.6 مليار دولار، أي ما يعادل نحو 10٪ من الناتج المحلي الإجمالي في تلك الفترة.
وهناك تقديرات أبعد تقول إن الخسائر على مدى عقد قد تتجاوز 400 مليار دولار من النشاط الاقتصادي المفقود.
التراجع في النمو الاقتصادي والعائدات الضريبية
الحرب أدّت إلى تباطؤ حاد في النشاط الاقتصادي. في الربع الأخير من 2023، شهد الناتج المحلي لاسرائيل تراجعًا سنويًا بنحو 20٪ نتيجة الضربة الاقتصادية المفاجئة، في حين انخفضت الاستثمارات والاستهلاك بشكل كبير.
على الرغم من أن إسرائيل أنهت 2023 بنمو إجمالي إيجابي، إلا أن النمو كان محدودًا بالمقارنة مع السنوات السابقة.
تراجع الاستهلاك الخاص كان من أبرز العوامل المساهمة، إذ شهد المواطنون انكماشًا في إنفاقهم، في وقتٍ ارتفعت فيه المخاوف المستقبلية.
وتأثّرت العوائد الضريبية، لا سيما من ضريبة القيمة المضافة والضرائب على الشركات، بسبب انخفاض النشاط الاقتصادي العام. هذا بدوره أثّر على قدرة الحكومة في تغطية النفقات المرتفعة.
shutterstock
التأثير على سوق العمل والعمالة
الحرب أثّرت بشكل كبير في سوق العمل. من جهة، غاب آلاف الموظفين الاحتياطيين عن وظائفهم الدائمة إثر تعبئتهم، مما خفّض العرض في بعض القطاعات الحيوية.
من جهة أخرى، أوقفت إسرائيل دخول العمال الفلسطينيين من الضفة الغربية الذين كانوا يعملون في قطاعات البناء والزراعة والصناعة، تاركة فجوة عمالية كبيرة.
كما غادر عدد من العمال الأجانب البلاد، نتيجة الأوضاع الأمنية والقيود المفروضة.
هذه النقص في اليد العاملة أثر سلبًا على قطاعات البناء، والبنى التحتية، والزراعة، والصناعات التحويلية، ما أدى إلى تأخر المشاريع وارتفاع تكاليف اليد العاملة البديلة.
shutterstock
مع ذلك، لم تشهد إسرائيل ارتفاعًا هائلًا في معدل البطالة بحسب بعض الإحصائيات، حيث استمر المعدّل في حدود متدنية، ربما بسبب ضخ الدولة للموارد أو استيعاب بعض الأفراد في وظائف عسكرية أو مدعومة.
التأثير على التجارة الدولية والصدور والاستيراد
ألحقت الحرب ضررًا بالقطاع التجاري. فقد تراجع حجم الصادرات بسبب تعطّل سلاسل التوريد والمخاطر الأمنية التي صاحبت الشحن عبر الموانئ والمناطق الحدودية. وأشارت تقديرات إلى انخفاض الصادرات بنسبة نحو 18٪ والاستيراد بنسبة 42٪.
هذا التراجع في الاستيراد قد يرتبط أيضًا بعدم الطلب المحلي أو الصعوبات في التمويل أو ارتفاع الكلفة على العملات الأجنبية.
قطاع السياحة، الذي كان من ركائز الاقتصاد الإسرائيلي، تضرر بشدة. زاد التوتر الأمني، وتقلّص عدد الزوار، خصوصًا من الدول التي تشدد الحذر بشأن السفر إلى إسرائيل في ظل النزاع.
هذا الانخفاض في السياحة يكبّل العوائد المرتبطة بالفنادق، والطيران، والخدمات الاستهلاكية المرتبطة بالزائرين، ويعمق التراجع في النشاط الاقتصادي، إضافة إلى انخفاض كمية العملات الأجنبية التي تدخل السوق الإسرائيلية مع قدوم السياح.
التمويل العام والديون والعجز في الميزانية
مع احتدام الحرب، اضطرت الحكومة إلى تكييف الميزانية وتخصيص موارد ضخمة للأمن والدعم الاجتماعي. من المتوقع أن يرتفع العجز المالي إلى مستويات قياسية، ما يدفع إلى زيادة الاقتراض.
هذا الاقتراض غالبًا سيأتي من الداخل والخارج، ما قد يرفع تكلفة الدين العام. بالفعل، خضعت إسرائيل لتخفيض في تصنيفها الائتماني من عدة وكالات بسبب مخاطر الحرب والتحديات المالية.
بعض التقديرات تقول إن نسبة الدين إلى الناتج المحلي، التي كانت في طريقها للانخفاض، قد ترتفع من نحو 60٪ إلى نحو 66٪ أو أكثر بسبب الأعباء الجديدة.
وحتى لتغطية النفقات الطارئة، لجأت الحكومة إلى قطع الميزانيات في بعض الوزارات، أو فرض زيادات ضريبية مؤقتة، بما في ذلك رفع ضريبة القيمة المضافة بنسبة نقطة مئوية من 17٪ إلى 18٪.
التأثير في الثقة الاستثمارية والقطاع التكنولوجي
في منطقة ذات حساسية أمنية، تلعب الثقة دورًا حاسمًا. الحرب قد أضعفت بعضًا من هذه الثقة، خاصة في القطاعات المرتبطة بالاستثمارات الأجنبية والمخاطر السياسية. يُحتمل أن بعض المستثمرين يؤجلون مشاريعهم أو ينتقلون إلى دول بديلة أكثر استقرارًا.
لكن من جهة أخرى، يبدو أنّ القطاع التكنولوجي الإسرائيلي أظهر مقاومة نسبية، مع استمرار جذب رؤوس الأموال في بعض الفترات، خاصة للمشاريع الأمنية العسكرية والتقنيات المرتبطة بالأمن.
لكن هذا لا ينفي أن التوظيف أو الإنتاج في بعض الشركات قد تأثر نتيجة تعبئة العاملين أو تراجع الطلب العالمي.
التأثيرات المتوسطة والبعيدة: الخطر على النمو المستدام
ربما تكون التأثيرات الأكثر ضررًا هي تلك التي تظهر على المدى المتوسط والبعيد:
انخفاض الاستثمار الأجنبي: المخاطر الأمنية تجعل بعض المستثمرين الدوليين يعيدون تقييم مشاريعهم في إسرائيل أو يوجهون استثماراتهم إلى دول أقل توترًا
تراجع الإنتاجية ونمو العوائد: التشويش المستمر، والانقطاع، والضرر بالبنية التحتية تؤدي إلى انخفاض قدرة الاقتصاد على النمو
ضغوط على الخدمات الاجتماعية: مع ارتفاع الإنفاق العسكري، قد تضطر الحكومة إلى تقليص الدعم في مجالات مثل التعليم أو الصحة أو البنية التحتية المدنية
هجرة الأدمغة: مع استمرار تدهور الأوضاع الأمنية والاقتصادية، ازدادت هجرة الكوادر الماهرة إلى دول أكثر استقرارًا
التحديات البيئية والتنموية: البناء العاجل، واستخدام مصادر طاقة ملوّثة بهدف ملء فجوات الطاقة، والاغلاقات المؤقتة قد تؤثر على جودة البيئة على المدى الطويل (رغم أن التركيز الآن ينصبّ على الأولويات الأمنية)
shutterstock
فرص التعافي والمرونة الممكنة...رغم كل الضغوط، ليس كل شيء سلبيًا:
قد تستثمر الحكومة في إعادة البناء، وهو ما يولد فرصًا في قطاع البناء والإنشاءات، والاستثمارات في البنية التحتية، والتكنولوجيا المرتبطة بإعادة الإعمار.
الدعم الدولي قد يتدفق، خصوصًا من الولايات المتحدة والشركاء الذين يرون في استقرار إسرائيل مصلحة استراتيجية.
بعض القطاعات المقاومة كالتكنولوجيا الأمنية والعسكرية قد تستقبل طلبًا متزايدًا، مما يعوّض بعض الخسائر في القطاعات الأخرى.
إذا تمّ الوصول إلى تسوية أو تهدئة، فإن عودة النشاط تتسارع، خصوصًا في التجارة والسياحة.
إن حرب السابع من أكتوبر تركت بصمة عميقة على الاقتصاد الإسرائيلي. ما بدا في البداية صدمة مؤقتة سرعان ما تحوّلت إلى عبء ثقيل على الميزانية، وسوق العمل، والنمو، والثقة المحلية والدولية. التحدي الآن يكمن في موازنة احتياجات الحرب مع الحفاظ على استدامة الاقتصاد، وتفادي انهيار هيكلي، وإعادة بناء البنية الإنتاجية لكي لا تسقط إسرائيل في فخ الركود المزمن.