ما بَعد الدين والقطيع: نحو وحدة وطنية مَدنية

shutterstock

shutterstock

مُنذ أن ارتقى الإنسان ليُصبح صيادًا وجامعًا للثمر، تَبلورت حاجته الواعية لقطيع يَزيد مِن فُرص نجاته، وربما قبل ذلك بكثير إذا نظرنا إلى الطبيعة. وفي نظرة إضافية لِـدماغ الإنسان، نجد أن القطعة الإضافية التي أضافت الخَواص التي نعتبرها إنسانية هي قطعة صغيرة فوق طبقات كثيرة مِن عقل حيواني غَريزي، يحتكم إلى أبسط قواعد التعامل التي تهدف إلى البقاء والتكاثر لا غير.



المُعضلة الكُبرى تبدأ عندما يُوظَّف الوعي الإنساني، وهو أرقى ما فينا، لِيخدِم تِلك الغَريزة البِدائية؛ فينقلها من مستوى البقاء الفيزيائي إلى مستوى البقاء العقائدي.


تَزامَن تطور الديانات مَع تطور التاريخ المُسجّل، ليرتبط ارتباطًا وثيقًا بأسس التعامل البَشرية، وخاصة في زمن الإمبراطوريات التي تَشكّلت قبل حوالي خَمسة آلاف سَنة في منطقة الهلال الخصيب، فصارت الأداة الفَصل في تَكتُّل البَشر، لتتفوق بالنقاط على عوامل لا تقل ثِقلًا كاللغة والعِرق.



تَسييس الإيمان وتحويل الصِّراع


حينما انبثقت الحركة الصهيونية، مُزِجَت الحقائق بالأساطير لتخلق مزيجًا مُصطَنَعًا غير مسبوق بين الدين والعرق، في محاولة لطمس كل ما لا يَخدم تلك الرواية. هذا المزيج لم يكن مجرد بناء ذاتي، بل كان آلة إقصاء مُبَرْمجَة لِتَنتَزِع الشرعية مِن أي سردية لا تخدم تفرُّدَه المطلق.


تَرافق هذا بتناغم غير مسبوق مَع الكثير مِن الحركات الوَطنية والدينية المُناوئة، بحيث خَدمت كلاهما الأخرى. فكراهية الغرباء عامة واليهود خاصة صارت تَصُبُّ الزيت على نار دعم الهجرة إلى دولة اليهود الحامية لهم، التي زاد خوف مُريديها مِن الأغيار وكراهيتها لهم، لتخلق دائرة مِن الموت ما زالت مستمرة منذ أكثر مِن مائة عام.


ولربما كانت إحدى أهم النقاط المَفصلية في تبلورها هي أحداث حائط البُراق التي أفرزت بالنتيجة في الجانب الفلسطيني خوفًا بنيويًا مِن هذا المزيج القومي والديني اليهودي، دون القدرة على العودة إلى مُسلّمات الشَرق القَديمة بالفصل بينهما.



فَخّ التقسيمات الوِدِّية والعَدائية


في خِضم الصراع وقبل قيام الدولة، قام الفلسطينيون بتشكيل لجان إسلامية مسيحية بغرض التعاون على مُناهضة الصهيونية. ولا زال يَطرب أغلبنا على مُناهضة إسلامية لاعتداء على كنيسة، ومُناهضة مسيحية لاعتداء على مسجد.


يَقوم الكثير مِن الفلسطينيين (أو حتى في بعض الدول العربية) بنشر فيديوهات لِمسيحي يوزع التمر والماء على الصائمين في رمضان، وتَبدو تلك لفتة جميلة تنشر بنية حسنة بغرض تعزيز وتصوير التسامح الديني، وهو أمر قائم في هذه البلاد.


لكننا لا ننتبه لإشكاليات مثل هذه التقسيمات، بينما نَتجاوز المَفروغ منه. الوحدة الوطنية الحقيقية تبدأ عندما نتوقف عن إبراز الأديان كسبب للتعاون، فَمُعارضتنا أساسها رَفض الظلم والتجبُّر، سَواء كان المظلوم مسلمًا أو مسيحيًا أو يهوديًا أو لا دينيًا. نحن نُبالغ في الاحتفاء بما هو بديهي، وبذلك نَجعل التعايش حدثًا استثنائيًا بدلًا من أن يكون هو الإطار الطبيعي لوجودنا الإنساني المُتعدّد.


إن الفشل في رؤية هذا الأساس المشترك هو ما يفتح الباب أمام استغلال الهويات.



مِن صِراع الهُوِيات إلى صِراع السَّردِيات


دوائر الهوية هي مِن مُميزات الشَرق الجميلة، تتفاوت وتتباعد بطرق إبداعية لا يمكن أن نتخيلها. ولكن الحكاية الصهيونية تُحاول توظيفها في تَفكيك حكايتنا إلى حكايات غير مُتناسقة، وتُحاول إلصاق بعض هذه الهويات تحت مَظلة حكايتها، لِتُباهي بقدرتها على مُقاومة الحكاية "الإسلامية" بمعية هؤلاء الأغيار.


نرى مَثلًا في التاريخ غير البَعيد كيف أن أوروبا الكاثوليكية قامت بمحو كل وجود غير مسيحي فيها بأبشع الطرق، لتلغي أي وجود للمُخالفين فيها. وما باقي الحركات التي نشأت لاحقًا سوى رُدود فعل على القسوة والاستغلال الديني في عصر الظلمات. ونكتشف في عصر ظلماتنا الشرق أوسطي ديانات صَمدت آلاف السنين لِتجد انتكاستها في القرن الحادي والعشرين.


تَداوَرت أسماء حكاية الصراع بين "صراع عربي إسرائيلي"، لتتهاوى دول عربية على قارعة الطريق ليصبح صراعًا فلسطينيًا إسرائيليًا. ومِن ثم تتوالى ضربات مِطرقة الحركات اليهودية الأصولية المُتحالفة مَع المسيحية الصهيونية على سندان الحركات الدينية الإسلامية، لِتُحوِّر الصراع إلى صراع ديني بين مسلم ويهودي على الأرض المقدسة.


نَتغافل عن أن الصراع الحقيقي هو صراع على السردية (الحكاية)، صراع على حقنا في أن نرى الأمور مِن زاويتنا الخاصة، سَواء كانت مَصبوغة بِصبغة دينية أو قومية، أو حتى طبقية. كثيرًا ما نرفض تمامًا الآخر المُختلف ونُصادر حقه في الكلام.



الخاتمة: تَحدِّي القَطيع المَدني


وَفقَ مَنظوري للأمور في دولة مدنية حديثة، واجب علينا أن نَنتقد فكرة الآخر وأن نَحترم حقه بسردها، أن نُهاجم فكرته وندافع عنه وعن حقه بفكرة خاصة. ولِكي نصل إلى هذا المستوى مِن الرُقي المدني، علينا أن نَتخَلّص من شِعارات مثل "وحدة وحدة وطنية، إسلام ودروز ومسيحية" ولا حتّى يهود، والتي تُبقينا أسرى تقسيمات الهوية.



نحن في شرقنا لدينا خصوصيتنا ولا نريد نسخ ولصق تجربة أحد، ولكن بالمقابل لا نريد أن نبدأ من نقطة الصفر، أو العودة إلى الماضي دون التعلم مما حدث حتى الآن.



هذا الهدم يبدأ بتعريف المواطنة بناءً على الحقوق والواجبات، لا على الانتماء الديني أو العرقي. إن الانتماء إلى هذا المفهوم يَفرض علينا التزامًا مختلفًا. إنه تحدٍ هو في الحقيقة هدم لكل ما بنته غريزة القَطيع فينا. فالتحدي الأعمق ليس في هزيمة الآخر، بل في الانتصار على 'الآخر' الساكن في أعماقنا، الذي يخشى الانفصال عن دائرة الحماية الضيقة.



فهل نحن، في الشَرق الذي يسعى للوحدة بعيدًا عن الدين، جاهزون لِمواجهة هذا التحدي الوجودي؟


يتم الاستخدام المواد وفقًا للمادة 27 أ من قانون حقوق التأليف والنشر 2007، وإن كنت تعتقد أنه تم انتهاك حقك، بصفتك مالكًا لهذه الحقوق في المواد التي تظهر على الموقع، فيمكنك التواصل معنا عبر البريد الإلكتروني على العنوان التالي: info@ashams.com والطلب بالتوقف عن استخدام المواد، مع ذكر اسمك الكامل ورقم هاتفك وإرفاق تصوير للشاشة ورابط للصفحة ذات الصلة على موقع الشمس. وشكرًا!

phone Icon

احصل على تطبيق اذاعة الشمس وكن على
إطلاع دائم بالأخبار أولاً بأول

Download on the App Store Get it on Google Play