في السنوات الأخيرة، بات العالم يعيش سباقًا لا يشبه أي سباق سابق في التاريخ البشري: سباق السيطرة على الذكاء الاصطناعي. دول كبرى تتنافس لبناء نماذج أذكى، وشركات عملاقة تُنفق مليارات لتطوير شرائح معالجة أكثر قوة، بينما تستعد قطاعات كاملة - من الأمن إلى الطب، ومن الصناعة إلى الإعلام - لثورة شاملة تعيد تشكيل ملامح الحياة البشرية.
لكن خلف كل هذه الضوضاء التكنولوجية، تتكشف معركة أخرى صامتة وغير مرئية، لكنها قد تكون الأكثر حسمًا في تحديد من يقود هذه الثورة ومن سيُهمش على أطرافها. تلك المعركة هي الحرب على الطاقة.
الذكاء الاصطناعي… وحش جائع للطاقة
عندما نتحدث عن الذكاء الاصطناعي اليوم، نحن لا نتحدث عن خوارزميات صغيرة أو تطبيقات بسيطة. نحن نتحدث عن نماذج عملاقة تضم مئات المليارات من المعاملات، تحتاج إلى تدريب يمتد لأسابيع أو أشهر على آلاف وحدات المعالجة الرسومية.
هذه العملية تستهلك كميات هائلة من الكهرباء، تتجاوز في بعض الأحيان استهلاك مدن كاملة.

shutterstock
وعندما تنتهي مرحلة التدريب، لا تتوقف الحاجة للطاقة، بل تتواصل في مرحلة التشغيل، حيث تعمل مراكز البيانات على مدار الساعة لمعالجة ملايين الطلبات التي يرسلها المستخدمون والشركات والمؤسسات.
بهذا المعنى، الذكاء الاصطناعي لم يعد مجرد منظومة برمجية؛ إنه "قطاع صناعي ثقيل" يحتاج إلى طاقة كثيفة مثل الصناعات النفطية والبتروكيماوية… وربما أكثر.
الغرب يدرك الأزمة… ولكن متأخرًا
الولايات المتحدة وأوروبا تقفان اليوم أمام معضلة استراتيجية:
لقد نجحتا في تطوير أقوى الشرائح الإلكترونية، وأهم الخوارزميات، وأكثر منظومات الحوسبة تقدمًا.
لكن البنية التحتية للطاقة لم تُبنَ بالوتيرة نفسها.
التقديرات الأميركية تشير إلى أن الطلب على الكهرباء خلال العقد القادم قد يرتفع بنسبة تصل إلى 80% في بعض الولايات بسبب مراكز البيانات وحدها. شركات الكهرباء تتلقى طلبيات لا تستطيع تلبيتها، ومشاريع ضخمة تُؤجل لأنها ببساطة… لا تجد كهرباء لتشغيلها.
وفي الوقت نفسه، تسعى الجهات الحكومية لفرض قيود بيئية تقلل من قدرة الولايات على بناء محطات توليد جديدة بالوقود الأحفوري. أما مشاريع الطاقة الخضراء - رغم أهميتها - فهي لا تُبنى بالسرعة التي تتطلبها ثورة الذكاء الاصطناعي.
الصين تتحرك بسرعة… وقد تغيّر قواعد اللعبة
على الجانب الآخر، تتحرك الصين بسرعة هائلة.
هي تبني محطات كهرباء جديدة أسبوعيًا تقريبًا - أغلبها يعمل بالفحم - وتوسع شبكات النقل وتصدر القرارات المركزية التي تسمح ببناء مراكز بيانات ضخمة خلال أشهر، لا سنوات.
الصين قد لا تملك التفوق الكامل في تصميم الشرائح المتقدمة بسبب العقوبات الأميركية، لكنها تسابق الزمن لبناء نظام طاقة قادر على تشغيل أضخم قدر ممكن من الخوارزميات.
ومع الوقت، قد تجد الشركات الصينية نفسها قادرة على تدريب نماذج ضخمة بكميات بيانات هائلة فقط لأنها تملك ما يكفي من الكهرباء… بينما يقف الغرب عاجزًا أمام نقص الطاقة.
وهنا يكمن الخطر الأكبر بالنسبة للغرب: أن يصبح النقص الكهربائي العامل الوحيد الذي يعطل أميركا وأوروبا عن الاستمرار في قيادة الذكاء الاصطناعي، رغم تفوقهما التكنولوجي.
الذكاء الاصطناعي ليس مجرد مسألة تقنيات… بل استراتيجية دولة
عندما بدأ الحديث عن الذكاء الاصطناعي قبل عقد أو اثنين، كان يُنظر إليه كفرع من علوم الحاسوب. اليوم لم يعد كذلك.
الذكاء الاصطناعي صار مفهومًا استراتيجيًا، ومجال نفوذ، وسلاحًا جيوسياسيًا.
إن الدول التي ستنجح في بناء شبكات طاقة قوية ومستقرة ستتمكن من تشغيل أكبر عدد من الموديلات، ومعالجة أكبر كمية من البيانات، وتطوير أعمق الخوارزميات - وهذا يعني السيطرة على:
* الاقتصاد العالمي
* الصناعات الدفاعية
* التطور العلمي
* الأمن السيبراني
* البورصات والأسواق
* الإعلام والثقافة الرقمية
باختصار، من يملك الطاقة… يملك الذكاء الاصطناعي. ومن يملك الذكاء الاصطناعي… يملك المستقبل.
هل تكون الطاقة هي "النفط الجديد"؟
تمامًا كما كان النفط هو العنصر الذي شكل قوة القرن العشرين، يبدو أن الطاقة - بكافة أشكالها - ستصبح العنصر الحاسم في القرن الحادي والعشرين.
والدول التي تدرك هذه الحقيقة ستسعى لتأمين موارد طاقة هائلة، سواء كانت تقليدية أو متجددة، لتشغيل مراكز البيانات العملاقة التي تعتمد عليها نماذج الذكاء الاصطناعي.
في المقابل، الدول التي تتجاهل هذه الحقيقة ستواجه أزمة وجودية في عالم يعتمد بشكل كامل على المعالجة الرقمية.
الخلاصة: المستقبل سيُكتب في محطات الكهرباء… لا في المختبرات
قد ننبهر جميعًا بالنماذج الذكية التي تجيب عن أسئلتنا وتعالج بياناتنا وتكتب نصوصنا، لكن الحقيقة الصادمة أن كل ذلك لا يمكن أن يحدث دون حجم هائل من الكهرباء.
وإن لم تُعالج أزمة الطاقة بسرعة، فإن ثورة الذكاء الاصطناعي ستتوقف عند حدود إمكانات الشبكات الكهربائية، لا حدود القدرات البرمجية.
إن العالم اليوم يخوض معركة صامتة، عنوانها "حرب الطاقة"، ونتيجتها ستحدد من يقود الذكاء الاصطناعي خلال العقود القادمة.
وفي النهاية، قد نكتشف أن السؤال الأهم لم يعد:
من يملك أفضل المعالجات أو أقوى الخوارزميات؟
بل أصبح:
من يملك ما يكفي من الطاقة ليشغّلها؟