بقلم: هاني المصري
ما بعد المجلس الوطني قراءة في الاحتمالات والتداعيات لجنة السياسات في مركز مسارات
إذا سارت الأمور كما مخطط لها، وإذا لم تحصل معجزة تؤدي إلى تغيير حاسم، سيعقد المجلس الوطني، يوم الاثنين، في الثلاثين من نيسان الجاري.
من غير الواضح حتى الآن توفر النصاب العددي القانوني للمجلس الوطني، رغم تأكيد المنظمين توفره. أما النصاب السياسي، فغير متوفر بشكل كبير، ذلك لعدم دعوة حركتي حماس والجهاد، اللتين كان يمكن دعوتهما كأعضاء مراقبين إلى حين انضمامهما بصفتيهما فصيلين أسوة بفصائل المنظمة، ومقاطعة الجبهة الشعبية، إلى جانب مقاطعة حوالي 145 عضوًا، يشملون أعضاء كتلة التغيير والإصلاح (حماس)، وكتلة النائب محمد دحلان، وفصائل في منظمة التحرير، ومستقلين.
كما أنّ العديد ممن أعلنوا مشاركتهم أو متوقع أن يشاركوا في دورة المجلس، بمن فيهم الجبهة الديمقراطية والمبادرة وفدا، أعربوا عن مواقف معارضة لعقد مجلس وطني دون توافق، مع دعمهم وتفضيلهم لعقد مجلس وطني توحيدي في الخارج، أو على الأقل توفير تقنية "الفيديو كونفرنس" لتمكين كل من يرغب بالحضور، وليس اقتصار الحضور على من يقيم في الضفة الغربية، أو من توافق سلطات الاحتلال على إصدار تصريح له لكي يتمكن من الحضور.
انتقاص من التمثيل والشرعية
لم يكن من قبيل السهو أنّ النظام الأساسي لمنظمة التحرير نصّ على ضرورة توفر الثلثين لعقد دورة عادية للمجلس الوطني، ذلك لأن المنظمة ليست فريقًا سياسيًا، ولا يجب أن تتحول إلى فريق سياسي، وإنما كيان وطني يجمع ويمثل كل أفراد الشعب الفلسطيني كأعضاء طبيعيين في المنظمة، فهي بمنزلة جبهة وطنية عريضة حصلت على الشرعية الفلسطينية والعربية والدولية بوصفها الممثل الشرعي الوحيد للشعب الفلسطيني.
لقد تعرضت المكانة التمثيلية والشرعية التي جسدتها المنظمة لامتحان مصيري بعد إبرام اتفاق أوسلو الذي تجاوز الأسس التي تستند إليها المنظمة. وزاد الطين بلة أن دور السلطة التي ساهمت المنظمة في إنشائها، تضخّم على حساب الأخيرة، إذ تقزم دور المنظمة إلى درجة تغييبها بشكل شبه كامل، بدليل عدم عقد المجلس الوطني أية دورة بعد تلك التي عقدها في العام 1996، مع أن النظام الأساسي للمنظمة ينصّ على عقده دوريًا مرة كل عام.
تأسيسًا على ذلك، إنّ عقد دورة المجلس الوطني بعد سنوات طويلة على آخر دورة عادية له، كان ينبغي أن يراعي متغيرات ومعطيات عدة طيلة الفترة الماضية، من ضمنها صعود "حماس" و"الجهاد الاسلامي" ومساهمتهما في النضال الفلسطيني، وموافقتهما على الانضمام إلى المنظمة، وموافقة قيادة المنظمة على ذلك كما جاء في إعلان القاهرة في آذار 2005، واتفاق القاهرة الموقع يوم 4 أيار 2011، وانخراط "حماس" بعد ذلك في السلطة من خلال المشاركة في الانتخابات المحلية والتشريعية (2005 و2006) وحصولها على أغلبية المقاعد.
كان ولا يزال من الملح ومن المفترض الاتفاق على متطلبات وقواعد مشاركتهما في المنظمة قبل الموافقة عليها، وليس الموافقة ثم سحبها عمليًا من دون تبرير مقنع، وليس المقصود في ذلك ضرورة موافقتهما على اتفاق أوسلو والتزاماته.
لذلك، لن تستطيع دورة عادية بحضور الثلثين من الأعضاء، أو عدم توفر نصابها القانوني، أن تؤكد صحة الادعاء بأنها تمثل الشعب، أو تجسد الشرعية. وهو ما كان يقتضي تحويل الدعوة إلى عقد اجتماع غير عادي لملء الشواغر وفق النظام الأساسي، عقب استقالة من يرغب، أو يرغب فصيله باستبداله، من أعضاء اللجنة التنفيذية، على أن تتواصل الجهود والتحضيرات لعقد مجلس وطني توحيدي، درءًا للتداعيات السلبية التي سوف تترتب على انعقاد الدورة العادية وسط مقاطعة واسعة، وعدم إغلاق الأبواب أمام جهود المصالحة.
إنّ عملية استعادة الدور والشرعية متعذرة إذا لم تُعالج الأسباب التي أدت إلى وصول المنظمة إلى الوضع الذي آلت إليه، جراء توقيع اتفاق أوسلو وما تضمنه من تنازلات كبيرة لم تترافق مع تحقيق إنجازات توازيها، وما ترتب عليه من تجميد فعلي لدور المنظمة تحت وطأة تأثير الوهم بأن الدولة على مرمى حجر، وأن المفاوضات هي الأسلوب الوحيد لتحقيقها. وتفاقم هذا الوضع، خصوصًا بعد وصول المسيرة السياسية التي انطلقت بعده جراء تحرر إسرائيل، ومن ثم أميركا بعد مجيء دونالد ترامب إلى البيت الأبيض، من الالتزام بالتوصل إلى تسوية تفاوضية، إذ شهدنا تخليًا إسرائيليًا متزايدًا، ثم جوهريًا وحاسمًا، من الالتزامات الإسرائيلية، وانتقال الحكومات الإسرائيلية من سياسة إدارة الصراع تمهيدًا لحل غير متوازن، إلى سياسة فرض الحل الإسرائيلي.
في هذا السياق، شهدنا تعميق الاحتلال، وتوسيع الاستعمار الاستيطاني، وفصل الضفة عن القطاع، وتحوله إلى أسوأ وأكبر سجن عبر التاريخ، والإمعان في سياسة استكمال تهويد القدس وأسرلتها، وتقطيع الأوصال، وجمع الفلسطينيين في معازل منفصلة عن بعضها البعض، من خلال المستوطنات والطرق الالتفافية العنصرية والمناطق العسكرية وجدار الفصل والضم والتوسع العنصري، ما أدى إلى وصول القضية إلى وضع حرج يهددها بالتصفية.
استمر المضي في عقد المجلس الوطني رغم وجود إمكانية لنجاح محاولة اللحظات الأخيرة لإنقاذ ما يمكن إنقاذه، عن طريق تحويل الدعوة من دورة عادية إلى اجتماع غير عادي يكون على جدول أعماله بند وحيد هو تجديد اللجنة التنفيذية عبر الانتخاب، ومن ثم اتخاذ قرار بتوفير متطلبات عقد مجلس وطني توحيدي.
السيناريوهات والتداعيات
في ضوء ما سبق هناك سيناريوهات محتملة عدة على النحو الآتي:
السيناريو الأول: أن يكون عقد المجلس نهاية المطاف
يتحقق هذا السيناريو عبر إغلاق الطريق، بعد انتهاء أعمال دورة المجلس، أمام مواصلة الجهود الرامية لإنهاء الانقسام واستعادة الوحدة، وكذلك إذا تواصل التمسك بالتزامات اتفاق أوسلو كما يظهر بالتمسك بمبادرة الرئيس محمود عباس التي تعتبر إعادة إنتاج للمسار التفاوضي الذي أوصلنا إلى ما نحن فيه، رغم الحديث اللفظي عن رفضه وتجاوزه، لدرجة اتخاذ قرارات سابقة بهذا الخصوص في المجلس المركزي دون أن تنفذ، ولسنا بحاجة إلى إصدار قرارات لا توجد نية لتنفيذها.
كما يتحقق هدا السيناريو إذا اعتبر أنصار عقد المجلس "بمن حضر" و"شاء من شاء وأبى من أبى"، أنهم بعقده جددوا القيادة والشرعية ولم تعد هناك حاجة لمواصلة الجهود لتحقيق الوحدة.
وكذلك إذا لم يتخذ المجلس قرارات تلزم اللجنة التنفيذية الجديدة بإعطاء الأولوية لإنهاء الانقسام واستعادة الوحدة وفق منظور تأمين متطلبات ليس من بينها الإقصاء والهيمنة والتفرد، وعلى أساس اعتماد صيغة "لا غالب ولا مغلوب"، انطلاقًا من رؤية واحدة، وإستراتيجية واحدة، وقيادة واحدة، وضم مختلف ألوان الطيف الفكري والسياسي التي تؤمن بالمشاركة على أساس برنامج منظمة التحرير؛ برنامج حق تقرير المصير الذي يشمل حق إقامة الدولة المستقلة كاملة السيادة على حدود 1967، وحق العودة، والمساواة لشعبنا في أراضي 48، وتغيير وظائف والتزامات السلطة وفق عملية تدرجية لتصبح سلطة تضم الجميع بعيدًا عن التقاسم الوظائفي والمحاصصة الفصائلية، الثنائية والعامة، خصوصًا في الأجهزة الأمنية التي يجب أن تكون مهنية وللشعب بعيدًا عن الحزبية والفصائلية، ما يقتضي العمل وفق هذه المقاربة لعقد مجلس وطني توحيدي بأسرع وقت ممكن.
تزيد احتمالات تحقق هدا السيناريو إذا انهارت عملية المصالحة التي ترعاها مصر كليًا، مع إدراكنا أنها وصلت إلى طريق مسدود وفق المقاربات التي جربت، لأنها لم تعتمد مبدأ الرزمة الشاملة التي تتضمن تمكين الحكومة التي يجب إعادة تشكيلها لكي تمثل الكل الوطني.
وعلى الرغم من أن المصالحة كانت ولا تزال شكلية، لكن نعيها بشكل رسمي يمكن أن تترتب عليه مجموعة من الخطوات والتداعيات التي ستعمق الانقسام وتحوله إلى انفصال، ومن ضمنها مواصلة الإجراءات العقابية على قطاع غزة على أساس تطبيق معادلة "إما الحكومة تشيل كل شيء من الباب للمحراب، وإما سلطة الأمر الواقع تشيل كل شيء". وهذا يعني إنهاء كل أنواع العلاقات بين الضفة والقطاع، بما في ذلك إمكانية إعلان القطاع إقليمًا متمردًا، وحل المجلس التشريعي، وقد يصل الأمر إلى إعلان "حماس" تنظيمًا خارجًا على القانون.
من النتائج التي قد تترتب على ما سبق تفجر الصراع على الشرعية عبر قيام "حماس" ومن يتفق معها بنزع الشرعية عن الرئيس، وهذه خطوة خاطئة، فمثلما لا يستطيع الرئيس ومعسكره ادعاء تمثيل الشرعية، لا تستطيع "حماس" ومعسكرها نزع الشرعية وادعاء تمثيل الشعب وحدهم بعقد جلسة للمجلس التشريعي بمشاركة نواب "حماس" وكتلة النائب دحلان، وتشكيل حكومة لإدارة قطاع غزة يمكن أن تسمى "لجنة إدارية"، أو "مجلس إنقاذ".
وقد تذهب الأمور إلى حد تشكيل "حكومة عموم فلسطين"، وإعلان نزع الشرعية عن المجلس الوطني الذي يوصف بـ"مجلس رام الله"، ورفض الاعتراف بما يصدر عنه من نتائج وقرارات، وتشكيل أطر موازية تنازع المنظمة على تمثيل الفلسطينيين بصورة مباشرة أو غير مباشرة.
لا نستطيع أن نقلل من احتمالات وقوع هذا السيناريو في ظل الهوة الواسعة بين طرفي الانقسام، وإعلان "حماس" أن الأمور بعد المجلس لن تكون مثلما كانت قبله، وبعد وقف رواتب موظفي القطاع ضمن رزمة عقوبات ستطبق تدريجيًا.
ستزداد احتمالية تحقق هذا السيناريو بعقد المجلس من دون توافق وطني، ولكن ليس من المرجح وقوعه، لأن هناك داخل كل معسكر من المعسكرين المتخاصمين من يعارضه بشدة، وهناك معارضة قوية له من قطاع واسع من الفصائل والمستقلين والمجتمع المدني والقطاع الخاص، بما في ذلك الفصائل الديمقراطية والجهاد الإسلامي، لا سيما أن هناك مخاطر تتهدد الجميع وتجعلهم بحاجة إلى بعضهم، جراء تبني إسرائيل لخطة إقامة "إسرائيل الكبرى" مع حكم ذاتي للفلسطينيين، والشروع في تطبيق صفقة ترامب، التي لا مكان فيها لأي حق من الحقوق الفلسطينية، ولا يجب أن تنطلي على أحد الادعاءات حول إمكانية تعديلها لتصبح مقبولة أو متوازنة، فكل ما يجري هو محاولة لوضع بعض العسل على السم حتى يبتلعه الفلسطينيون، وذلك رغم ادعاء "فتح" أن "حماس" قاطرة تمرير صفقة ترامب، وادعاء "حماس" أن الرئيس و"فتح" هما من يسعيان ويعملان على تمريرها.
صفقة ترامب ضد الكل الفلسطيني، والرئيس و"فتح" و"حماس" وغيرهم من الفلسطينيين ضدها، لكن عدم إعطاء الأولوية لتحقيق الوحدة وتقديم التنازلات المتبادلة من أجلها يساعد على تمريرها، أو على عدم معارضتها بأفضل طريقة ممكنة.
ما يجعل هذا السيناريو مستبعدًا أن مصر، وهي الدولة العربية الكبرى، وراعية المصالحة، والمجاورة جغرافيًا للقطاع، لا تريده، لأنه يهدد الأمن القومي المصري ويرمي القطاع في حضن مصر، وأنّ المجتمع الدولي وأوروبا والصين وروسيا ضده، وأن إسرائيل والولايات المتحدة ليستا شديدتي الحماسة له، لأنه يمكن أن يدفع الوضع الفلسطيني نحو الفوضى، بحيث لا يستطيع أحد أن يسيطر وحده عليه، ما يترك الباب مفتوحًا لكل الأطراف واللاعبين، ويزيد من احتمال وقوع الحروب على هذه الجبهة أو تلك أو على الجبهات جميعًا. فلا أحد يريد اندلاع حرب إقليمية تحتمل التحول إلى حرب عالمية، وما يجري من صراعات وتهديدات بالحرب يهدف لرسم خارطة سوريا والمنطقة ومحاولة كل طرف أن يأخذ أكبر حصة ممكنة.
السيناريو الثاني: بقاء الوضع على حاله وعدم إغلاق طريق المصالحة
يتحقق هذا السيناريو إذا اكتفى الرئيس و"فتح" بتجديد القيادة وتعزيز السيطرة على منظمة التحرير، ولم يتم الاستمرار والإمعان في سياسة الإجراءات العقابية، ولم يتم الإعلان عن فشل الجهود المصرية لرعاية المصالحة؛ أي عدم تغيير الواقع الراهن بشكل كبير، لا في هذا الاتجاه ولا في ذلك الاتجاه.
يبدو هذا السيناريو، على سوئه، محتملًا، ويعززه أن الأطراف المختلفة لا تملك - رغم ادعائها خلاف ذلك - بدائل فعلية لوضعها الراهن، بصرف النظر عن تهديدها بذلك بصورة شبه مستمرة.
فالرئيس إذا أوقف جهود المصالحة مع استمرار القطيعة مع الإدارة الأميركية سيخسر أكثر، وسيدفع خصومه نحو الخيارات المتطرفة، إذ إن "حماس" في مأزق ولكنها ليست ضعيفة إلى حد الاستسلام لشروطه، بما يعني أنها لن تقبل بأن "تخرج من المولد بلا حُمُّص"، دون ضمانات بالاحتفاظ بدورها حتى لو تركت السلطة بالكامل.
كما أن "حماس" يمكن أن تذهب أكثر نحو المرونة مع مصر وإسرائيل والولايات المتحدة دون اعتراف بإسرائيل، وقد تذهب مضطرة كخيار أخير نحو المواجهة العسكرية، وقد تختار الاقتراب أكثر من المحور الإيراني - السوري الذي يحقق نقاطًا مهمة في المنطقة، مع أنها تدرك أو يجب أن تدرك خطورة ذلك على تحالفاتها الأخرى مع تركيا وقطر وحدود الرهان على أهمية هذا المحور، وعدم المبالغة فيه وبقدراته وأهدافه.
وقد تلجأ "حماس"، وهذا محتمل جدًا، إلى المضي في مسيرات العودة التي حققت تأييدًا شعبيًا وفصائليًا ووحدويًا، وفرضت الحركة كلاعب من الصعب تجاوزه.
السيناريو الثالث: الوحدة والتقدم نحو عقد مجلس وطني توحيدي
هذا السيناريو محتمل، ولكنه غير مرجح حتى الآن على الأقل، لأنه بحاجة إلى رافعة تحمله، مع أنه خيار الخلاص الوطني، لأنّ أولوية الرئيس و"فتح" ما زالت استعادة السلطة في قطاع غزة من "حماس" دون توفير ضمانات بأن تكون شريكة في السلطة والمنظمة، لا سيما أن مشاركتها يمكن أن تنهي تفرد الرئيس وهيمنة "فتح" اللذين يراهنان على إمكانية تراجع إدارة ترامب عن خطتها، أو تعديلها جوهريًا، أو رحيل ترامب تحت ضربات الفضائح التي تلاحقه، بحيث يمكن أن يحقق معه على خلفية فضائحه، ويضطر للاستقالة، أو أن يقال، أو يهزم حزبه في الانتخابات النصفية للكونجرس في نهاية هذا العام.
وهناك من يبالغ فيما أنجزه الرئيس عباس على هذا الصعيد - وهو مهم فعلًا - لدرجة القول إنه أحبط إعلان صفقة ترامب، غير أن واشنطن تمضي في تنفيذ بعض الجوانب ضمن هذه الخطة، وبخاصة فيما يتعلق بالقدس واللاجئين، بدليل أن احتفالات نقل السفارة في الرابع عشر من أيار على الأبواب، وسيشارك فيها صهر الرئيس وابنته، بل ألمح ترامب إلى إمكانية مشاركته شخصيًا في الاحتفال.
على الرئيس أن يعلم أنّ استقالة ترامب ستعني تولي نائبه الأشد دعمًا لإسرائيل، وأن مجيء مرشح الحزب الديمقراطي في الانتخابات الرئاسية الأميركية القادمة لن يغير الوقائع التي أوجدها ترامب، في ظل أنّ الحزبين الجمهوري والديمقراطي، والأهم، النظام الأميركي ملتزم عضويًا وإستراتيجيًا بدعم إسرائيل وأطماعها التوسعية والعنصرية.
إن إحباط صفقة ترامب والمخطط الإسرائيلي لتصفية القضية ممكن جدًا، ولكنه يتطلب وضوح الرؤية ووحدة وطنية وخطة عمل قادرة على استنفار وحشد طاقات الشعب الفلسطيني وإمكاناته وقواه في جميع أماكن تواجده.
إن ما يعيق ذلك أولًا أن "حماس" تريد الاحتفاظ بسلطتها في غزة، والمراكمة عليها بتحقيق إنجازات أخرى، مثل صرف رواتب موظفيها ودخولها المنظمة، وذلك من خلال استمرار تحكمها بمصادر الحكم والقوة، التي ليس بالضرورة أن تتم من خلال تشكيل حكومة منفردة أو المشاركة في الحكومة، فضلًا عن تمسكها بسلاح المقاومة التي يمنحها مزايا لا يستطيع أحد التقليل من شأنها.
تدرك "حماس"، أو يجدر بها أن تدرك، أنه لن يُعترف بها وبسلطتها ودورها أميركيًا وإسرائيليًا ودوليًا ما لم تعترف بشروط اللجنة الرباعية الدولية، وليس سهلًا على الإطلاق إقدامها على ذلك، فالاعتراف بإسرائيل وحقها في الوجود، والتخلي عن المقاومة ونبذها ومحاربتها، والالتزام بكل ما ترتب على أوسلو مقابل الاعتراف بسلطتها على غزة، يعتبر انتحارًا سياسيًا، وأكبر دليل على ذلك ما حصل مع "فتح" بعد إقدامها على تلك الخطوة، لذلك أقصى ما أقدمت ويمكن أن تُقدم عليه "حماس" الاستعداد لهدنة طويلة، وضمان الالتزام بهدم الأنفاق الهجومية، ووقف بناء المزيد منها، ووقف أو الحد من سعيها للحصول على أسلحة أكثر تقدمًا، وتطوير الأسلحة، وخصوصًا الصواريخ، وقد تصل إلى تساوق مع فكرة إقامة دويلة في غزة منفصلة عن الضفة.
الحد الذي وصلت إليه "حماس" أعطاها معادلة "هدوء مقابل هدوء"، وما يمكن أن تقدمه يمكن أن يساهم في تخفيف الحصار لا رفعه، فلن ترفع إسرائيل الحصار أو تسمح بقيام "دولة" ذات سيادة في قطاع غزة في ظل تحكم تنظيم عقائدي يطرح ضرورة زوال إسرائيل من خلال المقاومة المسلحة كطريق أساسي، وأُضيف إليها مؤخرًا المقاومة السلمية.
إنّ الحدود التي يمكن أن تذهب إليها الأمور قد لا تتجاوز الحؤول دون انفجار قطاع غزة أو انهياره، خشية من وقوع الفوضى التي لا تفتح الطريق لعودة السلطة، بل تجعل القطاع ساحة مفتوحة لاستخدام كل اللاعبين العرب والإقليميين والدوليين الرسميين من داعشيين وقاعديين وغيرهم.
أما الرئيس عباس، فهو يريد البقاء في الحكم واستمرارية السلطة، والحفاظ على الوضع القائم دون استسلام ولا مواجهة، ولا تغيير جوهري بقواعد اللعبة المستمرة منذ سنوات إلى أن يقضي الله أمرًا كان مفعولًا. وأكبر دليل على ذلك المبادرة الاعتراضية التي طرحها في مجلس الأمن، والتي تهدف إلى إبقاء الأمر كما كان قبل صفقة ترامب، وهو لا يزال يراهن من خلالها على الخيار التفاوضي في ظل موازين قوى مختلة لصالح إسرائيل، مع أنّ الأحداث والتطورات تجاوزته بشكل كبير.
مأزق نهج الرئيس يتفاقم، لأن الأمور تتدهور باستمرار، ولا يمكن الحفاظ على الوضع الراهن والتقدم إلى الأمام دون اعتماد مقاربة جديدة مختلفة جوهريًا، بما يكفل تغيير المسار. فليس المطلوب التخلي عن هدف الحرية والاستقلال الوطني، ولا عن العمل السياسي والديبلوماسي، وإنما اعتماد إستراتيجية جديدة ومختلفة قادرة على تحقيقه.
أما "حماس"، فتراهن على الوقت وعلى متغيرات عربية وإقليمية ودولية، لا يجب انتظار حدوثها، لأنها حتى لو حدثت كما تأمل الحركة، فإنّ الانتظار ليس سياسة يمكن الرهان عليها، وبخاصة أن التطورات قد تكون مغايرة.
لذا، لا بد من مغادرة طرفي الانقسام مربع الانتظار والأوهام والرهان على ما يمكن أن يأتي، والانتقال إلى المبادرة والفعل والرهان على الذات، وعلى الشعب الفلسطيني العظيم، وعدالة قضيته وتفوقها الأخلاقي، وتأثيرها على الأمن والاستقرار والسلام في المنطقة والعالم، من خلال الانضواء من الجميع تحت المظلة الفلسطينية، ومواصلة الطريق الذي سارت فيه "حماس"، كما ظهر في اعتماد وثيقتها السياسية في أيار 2017، وتعميق الطابع الوطني لها على حساب كونها امتدادًا لجماعة الإخوان المسلمين، والاستعداد للسير خطوة أخرى نحو الواقعية السياسية، ولكن مع التمسك بالحقوق والأهداف، لا سيما ما يتعلق بالموافقة على قرارات الشرعية الدولية التي تتضمن الحد الأدنى من الحقوق الفلسطينية، دون اعتراف بإسرائيل، وما يسمى شروط اللجنة الرباعية، وذلك لإفشال محاولات شيطنتها وتصنيفها ضمن قائمة "الإرهاب"، ولسحب الذريعة المتمثلة بالخشية من سحب الاعتراف الدولي بالمنظمة إذا انضمت إليها "حماس".
هنا لا بد من القول إن من العبث واللاعقلانية مطالبة "حماس" بالاعتراف باتفاق أوسلو والتزاماته، في الوقت الذي يقول فيه الرئيس و"فتح" إنه وصل إلى طريق مسدود، ويجب سحب أو تعليق الاعتراف بإسرائيل، ووقف التنسيق الأمني، والخروج من بروتوكول باريس الاقتصادي الذي كرس تبعية الاقتصاد الفلسطيني للاقتصاد الإسرائيلي.
فيكفي أن يوافق كل من ينضم للمنظمة على برنامج حق تقرير المصير، والعودة، والدولة المستقلة، والمساواة لشعبنا في 48، واحترام حقوق الإنسان وحرياته، والاحتكام للشعب عبر الانتخابات، وإخضاع قرار السلم والحرب (المفاوضات والمقاومة) للمؤسسات الوطنية الموحدة. وسبق أن قدمت وثيقة الأسرى التي أصبحت "وثيقة الوفاق الوطني" صيغة للتعامل مع سلاح المقاومة، وأكدت "حماس" عبر تصريحات عديدة، خصوصًا على لسان يحيى السنوار، قائدها في قطاع غزة، أن سلاح المقاومة لن يستخدم لحسم الأمور لصالحها في الأوضاع الداخلية، ولا لإحراج السلطة، ويمكن أن يخضع لمظلة وطنية متفق عليها، واقترحت تشكيل جيش وطني يضم كل أفراد الأجنحة العسكرية للفصائل المختلفة، وهذا موقف مهم جدًا لم يتم التعامل معه باهتمام وجدية، ويجب اختبار مدى استعداد من يطرحه لتطبيقه.
خاتمة وتوصيات
في ضوء ما سبق، يمكن ألا يصبح عقد المجلس الوطني دون توافق وطني، على خطورته، نهاية المطاف، إذا توفرت المتطلبات الآتية:
الامتناع بعد عقد المجلس الوطني عن حصر الشرعية به وبمن شارك فيه، لأن شرعيته ناقصة. وفي المقابل، امتناع المقاطعين والرافضين عن نزع الشرعية وتشكيل منظمات وأطر موازية للمنظمة.
أن يُلقي الرئيس عباس في افتتاح المجلس خطابًا إيجابيًا توافقيًا، يُبقي الباب مفتوحًا لمواصلة الجهود لعقد مجلس وطني توحيدي، على أن يتم الاتفاق على تشكيل لجنة وطنية للاتفاق على كيفية تشكيله بوصفه مجلسًا جديدًا كونه سيشكل من جديد وفق أسس تضمن تمثيلًا حقيقيًا لكل تجمعات الشعب الفلسطيني عبر الانتخابات حيثما أمكن ذلك، والتوافق الوطني على أسس ومعايير موضوعية عندما يتعذر إجراء الانتخابات، وأن يصدر على أساس ذلك قرارٌ من المجلس الوطني بمتابعة عمل اللجنة التحضيرية التي عقدت في بيروت، على أن يضم لها ممثلون عن الشباب والمرأة والشتات.
التراجع عن قرار وقف الرواتب لموظفي القطاع، وعدم اتخاذ عقوبات جديدة تستهدف شعبنا في غزة ووقف العقوبات السابقة.
عدم حلّ المجلس التشريعي، أو اتخاذ أي خطوات جوهرية في ظل غياب مكونات أساسية. وفي المقابل، عدم دعوة التشريعي للانعقاد بصورة انفرادية، وعدم إعادة تشكيل اللجنة الإدارية في القطاع، أو مجلس إنقاذ، أو حكومة عموم فلسطين.
اعتماد رؤية شاملة تنطلق من ضرورة التخلي عن اتفاق أوسلو والتزاماته، عبر عملية تدريجية يُتفق عليها من خلال حوار وطني شامل يستهدف الاتفاق على مقاربة جديدة على أساس هذه الرؤية الشاملة، وتنبثق عنها إستراتيجية واحدة وقيادة واحدة.
عدم الإقدام على مبايعة الرئيس أو انتخابه من المجلس الوطني مباشرة وليس من اللجنة التنفيذية، لأن هذا يعمق من التفرد المتفاقم في المنظمة والسلطة، الذي ألحق أفدح الأضرار بالقضية وزاد الهوة بين الشعب والقيادة.
الالتزام بالدعوة لعقد مؤتمر دولي مستمر وكامل الصلاحيات في إطار الأمم المتحدة، مرجعيته القانون الدولي وقرارات الأمم المتحدة، على أن تجري المفاوضات بهدف تنفيذ قرارات الشرعية الدولية وليس التفاوض حولها، مع الإدراك أن هذا حتى يتحقق بحاجة إلى نضال لتغيير موازين القوى والحقائق على الأرض كطريق مضمون لاستعادة الحقوق وتحقيق الأهداف.
اتخاذ قرار بمواصلة الجهود لإنجاز المصالحة على أساس اتفاق القاهرة وملحقاته وتطويرها، بحيث يتم الاتفاق على دور السلطة في المرحلة الجديدة، وكيفية تجسيد الدولة وإنجاز سيادتها واستقلالها، فلا وحدة دون الاتفاق على برنامج سياسي يجسد القواسم المشتركة، ودون الاتفاق على أسس الشراكة.
دعم مسيرات العودة وتعميمها على مختلف أماكن وتجمعات الشعب الفلسطيني، لما أنجزته منذ اندلاعها وحتى الآن، بوصفها تُجسد مقاومة شعبية سلمية وحدوية كما تدل عليه مشاركة مختلف القوى السياسية والمجتمعية والشبابية، ويجب أن تبقى كذلك، لأنها تتيح مشاركة جماهيرية واسعة، وكونها تستنفر نقاط القوة الفلسطينية وتُحيد نقاط القوة الإسرائيلية وتضغط على نقاط ضعفها.