بعد دخوله إلى البيت الأبيض، وتعيينه رسميًّا رئيسًا للولايات المتحدة الأمريكية، فاجأ الرئيس الأمريكي دونالد ترامب العالم عندما أعرب عن اهتمامه بشراء غرينلاند، الجزيرة الأكبر في العالم، والتي تعد إقليمًا تابعًا للدنمارك. رغم أن هذا الاقتراح قوبل بالسخرية والاستهجان، إلا أن اهتمام الولايات المتحدة بهذه الجزيرة ليس جديدًا، بل يعود إلى عقود طويلة. فما الذي يجعل غرينلاند ذات أهمية استراتيجية واقتصادية كبرى في نظر ترامب؟ ولماذا كانت رغبته في ضمها إلى الولايات المتحدة موضوعًا جادًا وليس مجرد فكرة عابرة؟ حيث ازداد الحديث في الأيام الأخيرة حول الموضوع، خاصة بعد زيارة أجراها قبل أيام، نائب الرئيس الأمريكي وعدد من المسؤولين الأمريكيين إلى قاعدة "ثول" الجوية الأمريكية في غرينلاند، دون أن تتم دعوتهم بشكل رسمي من سلطات الجزيرة.
أهمية غرينلاند الاستراتيجية: مفتاح السيطرة في القطب الشمالي
غرينلاند ليست مجرد جزيرة ضخمة يغطيها الجليد، بل هي نقطة استراتيجية بالغة الأهمية بسبب موقعها الجغرافي، حيث تقع بين المحيطين الأطلسي والمتجمد الشمالي، مما يجعلها نقطة محورية في أية خطط جيوسياسية للولايات المتحدة.
1. النفوذ العسكري ومواجهة روسيا والصين
غرينلاند تضم قاعدة "ثول" الجوية الأمريكية، وهي إحدى أهم القواعد العسكرية الأمريكية خارج حدودها، حيث تلعب دورًا أساسيًا في نظام الإنذار المبكر للصواريخ الباليستية، نظرًا لقربها من القطب الشمالي، حيث تتزايد التوترات بين الولايات المتحدة وروسيا على النفوذ في المنطقة.
بالإضافة إلى ذلك، تسعى الصين إلى توسيع نفوذها في القطب الشمالي من خلال الاستثمارات في البنية التحتية والموانئ في غرينلاند، مما أثار قلق واشنطن. ترامب، الذي يرى في الصين أكبر تهديد اقتصادي وعسكري للولايات المتحدة، أدرك أن السيطرة على غرينلاند ستمنح أمريكا ميزة استراتيجية كبرى في مواجهة بكين وموسكو.
2. التحكم في الطرق البحرية الجديدة
مع ذوبان الجليد في القطب الشمالي بسبب التغير المناخي، أصبحت المنطقة مهيأة لفتح طرق ملاحية جديدة يمكن أن تقلل من أهمية الممرات التقليدية مثل قناة السويس. وبالتالي سيمنح امتلاك غرينلاند الولايات المتحدة سيطرة مباشرة على هذه الطرق، مما يعزز نفوذها البحري والتجاري عالميًا.
الموارد الطبيعية: كنز لم يُكتشف بالكامل
تحت الغطاء الجليدي لغرينلاند، يُعتقد أن هناك احتياطيات هائلة من المعادن النادرة، والنفط، والغاز الطبيعي، وهي موارد تلعب دورًا أساسيًا في الاقتصاد العالمي. ترامب، كرجل أعمال قبل أن يكون رئيسًا، أدرك تمامًا أن امتلاك هذه الجزيرة يعني السيطرة على ثروات طبيعية قد تزداد قيمتها مع مرور الزمن.
1. المعادن النادرة: سلاح استراتيجي في الحرب الاقتصادية
تحتوي غرينلاند على كميات كبيرة من المعادن الأرضية النادرة، وهي معادن تستخدم في صناعة التكنولوجيا المتقدمة مثل الهواتف الذكية، والطائرات الحربية، وأجهزة الكمبيوتر. الصين تحتكر حاليًا إنتاج هذه المعادن، ولذلك فإن امتلاك الولايات المتحدة لمصدر بديل، مثل غرينلاند، سيكون ورقة ضغط استراتيجية في النزاعات التجارية المستقبلية.
2. النفط والغاز: بديل محتمل لمصادر الطاقة التقليدية
مع تزايد التوقعات بنضوب النفط في مناطق أخرى، ينظر الخبراء إلى القطب الشمالي كمصدر جديد للطاقة. وفقًا لتقديرات بعض الجيولوجيين، فإن غرينلاند قد تحتوي على كميات ضخمة من النفط والغاز، مما يجعلها هدفًا مغريًا لدولة تعتمد على الطاقة مثل الولايات المتحدة.
ترامب وعقلية "شراء الأراضي": استراتيجية تاريخية أمريكية
ترامب لم يكن الرئيس الأمريكي الأول الذي يفكر في شراء غرينلاند. في الواقع، الولايات المتحدة لديها تاريخ طويل في توسيع أراضيها عبر صفقات شراء ضخمة، مثل:
شراء لويزيانا من فرنسا (1803)
شراء ألاسكا من روسيا (1867)
في عام 1946، عرضت الولايات المتحدة على الدنمارك 100 مليون دولار لشراء غرينلاند، لكن العرض قوبل بالرفض. بالنسبة لترامب، فإن شراء الجزيرة كان يمكن أن يكون إنجازًا جغرافيًا مشابهًا لهذه الصفقات الكبرى في التاريخ الأمريكي.
لماذا رفضت الدنمارك الفكرة؟
رغم أن غرينلاند تتمتع بحكم ذاتي، إلا أنها لا تزال تابعة رسميًا للدنمارك، التي رفضت عرض ترامب بشكل قاطع، ويمكن إعادة ذلك إلى الأسباب التالية:
1. السيادة والهوية الوطنية
رأت الدنمارك أن بيع غرينلاند سيمثل تنازلًا عن جزء من سيادتها، وهو أمر غير مقبول سياسيًا. كما أن سكان غرينلاند أنفسهم، ومعظمهم من الإينويت (السكان الأصليين)، يفضلون إما البقاء تحت الحكم الدنماركي أو الاستقلال التام، وليس الانضمام إلى الولايات المتحدة.
2. الضغوط الأوروبية
غرينلاند، رغم أنها لا تنتمي رسميًا إلى الاتحاد الأوروبي، لا تزال تحت تأثير أوروبا اقتصاديًا وسياسيًا. أي خطوة لبيعها إلى أمريكا كانت ستؤدي إلى أزمة دبلوماسية كبيرة بين الدنمارك والاتحاد الأوروبي من جهة، وأمريكا من جهة أخرى.
الخلاصة: هل كانت فكرة ترامب منطقية؟
قد تبدو فكرة شراء غرينلاند غريبة للوهلة الأولى، لكنها تعكس بوضوح تفكير ترامب كرجل أعمال يرى في كل شيء فرصة استثمارية. الجزيرة تحمل قيمة استراتيجية واقتصادية هائلة، من موقعها الجغرافي إلى مواردها الطبيعية، مما يجعلها هدفًا مغريًا لأي قوة عالمية.
لكن مع ذلك، فإن فكرة شراء أرض في القرن الحادي والعشرين تبدو قديمة الطراز وغير واقعية في عالم تحكمه السيادة الوطنية والقوانين الدولية. رفض الدنمارك لهذا العرض لم يكن فقط لأسباب اقتصادية، بل أيضًا بسبب أهمية غرينلاند لهويتها الوطنية واستراتيجياتها السياسية.
انتهت ولاية ترامب السابقة دون تحقيق هذا الطموح، وبدأت ولايته الحالية بنفس الطموح. الاهتمام الأمريكي بغرينلاند لم ينتهِ، ومن المحتمل أن تستمر الولايات المتحدة في محاولة تعزيز نفوذها في المنطقة، سواء عبر التعاون الاقتصادي، أو النفوذ العسكري، أو غيرها من الوسائل، ويمكن متابعة تصريحات ترامب، مسؤولي البيت الأبيض، للتأكد بأنّ هذا المسلسل لم ينته بعد.