الحرية… تلك الكلمة التي تتردد كثيرًا على الألسنة، وتُرفع باسمها الشعارات، وتُسفك من أجلها الدماء. لكنها، في عمقها، أكثر من مجرد شعار سياسي أو مطلب شعبي.
إنها سؤال وجودي يضع الإنسان أمام ذاته: هل الحرية تُمنَح له من الخارج، أم أنها مسؤولية عليه أن يتحملها؟ وفي هذا السؤال، يتقاطع الشخصي بالسياسي، وتتداخل الفلسفة مع الواقع، وخصوصًا في سياق العالم العربي، حيث يعلو الصمت فوق كل الأصوات.
بين الفلسفة والواقع: ماذا تعني أن تكون حرًا؟
لتفكيك مفهوم الحرية تمعنت طويلا في ما قاله جان بول سارتر، الفيلسوف الوجودي الفرنسي: "محكوم على الإنسان بأن يكون حرًا... وهذا عبء." فبالنسبة له، الحرية ليست منحة من سلطة أو نظام، بل هي جوهر الوجود الإنساني. يولد الإنسان، لا ليُقاد، بل ليختار. وكل اختيار يحمّله مسؤولية، حتى لو اختار عدم الاختيار.
لكن هذه الحرية النظرية، تصطدم دومًا بأسئلة الواقع: ماذا يحدث عندما تكون تكلفة الاختيار باهظة؟ عندما يكون ثمن الكلمة الواحدة هو السجن، أو النفي، أو حتى الموت؟
العالم العربي: حين تصبح الحرية رفاهية
في المجتمعات العربية، لطالما كانت الحرية حلمًا مؤجلًا. من المحيط إلى الخليج، عاشت الشعوب تحت أنظمة تستثمر في القمع أكثر مما تستثمر في الإنسان. حرية التعبير مقموعة، وحرية التنظيم مشبوهة، وحرية الرفض تُعد تآمرًا.
في هذا السياق، لم تعد الحرية مطلبًا يوميًا، بل تحوّلت إلى نوع من الترف الخطير، الذي قد يُكلّفك أكثر مما يحتمل جسدك وروحك. وبالتالي، يصبح الصمت في كثير من الأحيان، ليس فقط ملاذًا، بل ضرورة.
الداخل الفلسطيني: صمتٌ يتفجر
يتجلّى هذا المشهد بشكل مؤلم في الداخل الفلسطيني، خصوصًا منذ اندلاع الحرب على غزة.
الفلسطينيون في إسرائيل وجدوا أنفسهم أمام خيارين كلاهما مرّ: إما الصمت، أو مواجهة الاعتقال والمطاردة والفصل من العمل.
لم تعد الحرية مسألة نظرية، بل أصبحت امتحانًا يوميًا. كثيرون اختاروا الصمت، ليس جبنًا، بل خوفًا على لقمة العيش، وعلى مستقبل أبنائهم، وعلى بقائهم في إطار حياة طبيعية بعيدًا عن "وجع الرأس".
أسباب الخوف لا تنتهي
إلا أن هذه الحياة الطبيعية لم تعد طبيعية، ولم يعد هناك "مبررٌ" للصمت، خشيةً على فقدان ما يقوله الكبار دومًا: "حياة أفضل من أماكن كثير حول العالم".
فحين تصبح أرواحنا على كفوفنا حتى داخل منازلنا، وتنهش الجريمة مجتمعنا وكل أماكنه، وحين نخسر الحياة التي خشينا أن نخسرها، أتساءل: لماذا لا نثور، لا نغضب، لا نصرخ؟ هل نحاول دوما إيجاد شماعة نعلق عليها مبررات جُبننا؟
الصمت كاستراتيجية حياة
قد يبدو هذا الصمت، من الخارج، استسلامًا أو أنانية. لكن عند النظر إليه من الداخل، يتكشف كفطرة دفاعية. فالإنسان كائن يبحث عن البقاء، وفي لحظات الخطر، يقدم السلامة على الموقف، والهدوء على الثورة.
ومع ذلك، يبقى سؤال الأخلاق قائمًا: هل البقاء مبرر كافٍ للصمت؟ وهل الحفاظ على الحياة يبرر التنازل عن معناها؟
سؤال لا يملك أحد الحق في الإجابة عنه، يظل حاضرًا، يطرق كل ضمير، كل يوم.
الأمن مقابل الحرية
لا يتمخض الصمت عن الخوف من القمع أو القتل فحسب، بل أحيانًا ينبع من الرضا المشروط. فبعض الأنظمة يُقدِّم للمواطنين نموذجًا مختلفًا: ازدهار اقتصادي، أمن اجتماعي، وبنية تحتية فائقة التنظيم، مقابل الامتناع التام عن العمل السياسي أو النقد العلني.
في هذا النموذج، لا يُطلب منك أن تصمت خوفًا، بل أن تصمت شكرًا. يتم تأطير الحرية السياسية كتهديد لهذا "الاستقرار الذهبي"، ولا ينفكون عن تذكيرك بفزاعة "الربيع العربي" كي لا تتجرأ وتنسى بأن أي مطالبات بالحقوق والحرية تجلب الفوضى والانهيار والتطرف.
وبين رفاه اقتصادي حقيقي، وحرية مقموعة، يختار كثيرون هذا النوع من "السلام مقابل السكوت". ولعله أصلا ليس سكوتًا بمعناه المعتاد. فالإنسان لا يبحث عن أكثر من حياة كريمة وحقوق أساسية ودولة تفرض الأمن والأمان وحق الإنسان في الوجود وتحقيق ذاته. فالعيش بكرامة بحد ذاته حرية.
عبء الحرية وامتياز ممارستها
يتضح أن الحرية لا تُمنَح من أحد. هي ليست هدية، ولا مكرمة، ولا قانونًا مكتوبًا على ورق. الحرية تُنتزع، تُمارَس، وتُدفَع كلفتها من جيب الحياة نفسها.
كلفةٌ باهظةٌ جدًا أحيانا، دائما ما تضعنا أمام معضلة الاختيار.
الحرية مسؤولية لها تداعيات مصيرية، على الأرجح ليس لدى الجميع المقدرة على تحمل نتائجها أو حتى الحق في ممارستها، والديمقراطية التي تفرض حاكمًا فاشلا بسبب حرية الشعب في الاختيار، خير دليل على ذلك.
الحرية.. كلمة عظيمة في جوهرها ومعناها، وفكرة ترافقنا يوميًا، نسعى جاهدين لنيلها، لعلنا نبلغها يومًا.