اللعب على المكشوف في الحرب على غزة: أوراق تحترق وتحالفات تتعرّى

shutterstock

shutterstock

في عالم السياسة، كثيرًا ما تُدار المعارك خلف الستار، وتُعقد الصفقات تحت الطاولة. لكن هناك لحظات نادرة، تضيق فيها مساحات المناورة، وتُلقى فيها كل الأوراق على الطاولة، فتنكشف النوايا وتتعطل الأقنعة.


تلك اللحظة تسمّى مجازًا: اللعب على المكشوف. العبارة، المأخوذة من عالم الألعاب الورقية، تعني أن يكشف اللاعب كل أوراقه دون مواربة. في السياسة، تعني أن تتحدث القوى عن مصالحها الحقيقية، وتتصرف بناءً على استراتيجياتها الفعلية، لا وفقًا لشعاراتها المعلنة.


هذا ما نراه اليوم، بوضوح مؤلم، في المشهد الفلسطيني – الإقليمي – الدولي حول الحرب المستمرة على غزة منذ أكثر من عام ونصف.


حماس: ظهر إلى الحائط وورقة أخيرة


بعد أكثر من 18 شهرًا من القصف والتدمير والحصار، لم تعد حركة حماس تمتلك الكثير من الخيارات. لقد فقدت معظم أوراقها التفاوضية: شبكة الأنفاق تآكلت، والقيادة الميدانية تضررت، والجناح العسكري تلقى ضربات قاسية، والدعم العربي الرسمي غائب أو خافت.


لكن رغم كل ذلك، ما زالت حماس تحتفظ بورقتها الأخيرة: الرهائن الإسرائيليون. تلك الورقة التي تُحاول من خلالها فرض شروط لإنهاء الحرب، أو على الأقل منع استسلام غير مشروط. رسالتها للعالم باتت صريحة: "لن نخضع، ولو بقيت ورقة واحدة بيدنا". وهذا هو قمة اللعب على المكشوف؛ فحماس، المُحاصَرة من الجو والبر والبحر، تلعب بما تبقّى من أدوات، مدفوعة


بظهرها إلى الحائط، وبين خيارين: الاستسلام أو الموت وبينهما شعب بأطفاله ونسائه يقصف يوميا .


السلطة الفلسطينية: هشاشة وصراع وراثة


على الطرف الآخر من المشهد الفلسطيني، تبدو السلطة الفلسطينية أكثر هشاشة من أي وقت مضى. وسط غياب دور فعّال في الحرب، وانعدام القدرة على التأثير في مجريات الأحداث، تحولت السلطة إلى كيان إداري مهدد داخليًا.


والأخطر أن الحديث عن وراثة الرئيس محمود عباس بات علنيًا، حيث تدور صراعات خفية داخل فتح وبين أجهزة الأمن المختلفة، دون وجود رؤية وطنية جامعة لما بعد "أبو مازن".

السلطة أيضًا تلعب اليوم على المكشوف: ترفض الحرب، وتخشى حماس، وتتطلع لدور ما في غزة بعد الحرب، لكنها لا تملك لا أدوات القوة ولا ثقة الشارع الفلسطيني.



shutterstock

إسرائيل: من الحرب إلى مشروع التهجير العلني


لم يعد مشروع التهجير بالنسبة لإسرائيل فكرةً هامشية أو مجرد تسريبات إعلامية. بل بات الترانسفير خطابًا سياسيًا رسميًا على لسان وزراء وأعضاء كنيست من الائتلاف الحاكم. بعد عام ونصف من الدمار الممنهج في غزة، والحديث المتواصل عن "المنطقة الآمنة" و"إفراغ الشريط الحدودي"، بدأت تتضح معالم مشروع تهجير واسع النطاق، يستهدف دفع السكان قسريًا نحو العريش وسيناء، تحت عنوان "حل إنساني" و"فرصة لإعادة الإعمار" خارج


القطاع والبحث عن دول في إفريقيا وآسيا يمكنها استيعاب الفلسطينيين النازحين من قطاع غزة ولتبدأ أيضا إجراءات "لم شمل" عكسية من خلال إرسال الفلسطيني الى أوروبا أو كندا إذا كان لديه قريب هناك يحمل الجنسية في تلك الدولة.


هذه السياسة، التي كانت محرّمة في الخطاب العلني سابقًا، أصبحت اليوم جزءًا من السردية الإسرائيلية الرسمية:

تصريحات متكررة عن "استحالة التعايش مع مليوني فلسطيني في غزة". ترويج داخلي لفكرة "ترانسفير طوعي" بدعم أمريكي أو عربي.


shutterstock


محاولات فعلية لدفع المدنيين جنوبًا في مراحل متعددة من الحرب


لكن رغم وضوح هذا "اللعب على المكشوف"، تقابل هذه السياسة الاسرائيلية بصمت دولي، ورفض عربي خجول، في ظل انهيار المنظومة الحقوقية، وتحوّل المأساة إلى مجرد أزمة إنسانية يُدار فيها الملف عبر الغذاء لا الحرية.


إن سياسة التهجير ليست مجرد تكتيك حربي، بل مشروع استراتيجي طويل الأمد، يسعى لإعادة رسم الخارطة الديمغرافية في غزة، وتقويض أية إمكانية لقيام كيان فلسطيني مستقل حتى داخل القطاع.


إيران: أوراق تتساقط ونفوذ يتراجع


لسنوات، قدّمت إيران نفسها باعتبارها راعية محور المقاومة، والمتحكمة بخيوط اللعبة من غزة إلى بيروت، مرورًا بصنعاء ودمشق. لكن في العام الأخير، بدأت أوراقها تسقط واحدة تلو الأخرى.


حماس، رغم دعم طهران، باتت معزولة ومطاردة. حزب الله مُقيد بردع إسرائيلي وأمريكي، ويقف عند حافة المواجهة دون التورط الشامل ويواجه تحديا لبنانيا داخليا حول شرعية سلاحه ومعادلة الشعب والجيش والمقاومة.


الحوثيون يتلقّون ضربات مركزة من واشنطن ولندن. وحتى الضربة الإيرانية الأخيرة تجاه إسرائيل، وإن كانت رمزية واستثنائية، لم تغيّر قواعد اللعبة.

إيران اليوم تلعب على المكشوف، لكن من موقع دفاعي. تكشف حدود ردعها، وتُلوّح بالقوة، لكنها حريصة على عدم الانزلاق إلى حرب شاملة، قد تُهدد الداخل الإيراني وتُسرّع من عزلة النظام.


shutterstock


الأنظمة العربية: ضعف مستدام وخوف من ترامب


أما الأنظمة العربية، فقد كشفت الحرب عن تحول كبير في أولوياتها. لم تعد القضية الفلسطينية في مقدمة الأجندة الرسمية، بل باتت عبئًا سياسيًا محرجًا.


التطبيع مع إسرائيل أصبح واقعًا علنيًا، والانتقادات موجهة أكثر لحماس والسلطة الفلسطينية تحت ذريعة "المصلحة الوطنية" و"الواقعية السياسية وحسابات داخلية حول من يقود المرحلة القادمة وكيف".


هذا هو اللعب على المكشوف بأجلى صوره: مواقف بلا أقنعة، وتحالفات تعلن نفسها بلا تردد.



shutterstock


بين الوضوح والانكشاف: من يربح في النهاية؟


الحرب على غزة لم تعد مجرد صراع جغرافي، بل أصبحت اختبارًا وجوديًا لكل الأطراف:

حماس تقاتل لأجل البقاء.

السلطة تبحث عن شرعية مفقودة.


إسرائيل تُراهن على الزمن والسلاح وتطبيق مشروع التهجير في قطاع غزة والضم في الضفة الغربية وإنهاء الحلم الفلسطيني بتقرير المصير.

إيران تخوض معركة نفوذ مؤجلة وتسعى الى اتفاق حول برنامجها النووي. والأنظمة العربية تنظر من بعيد، بحسابات مصلحة بعيدة عن طرح حل سياسي واضح للفلسطينيين.


في زمن اللعب على المكشوف، تُعرّي الحرب الجميع. وتُصبح الحقيقة، لا الخطاب، هي المعيار الوحيد. من يملك القوة؟ من يملك الشرعية؟ من يصمد؟ ومن يدفع الثمن في النهاية؟


هذه الأسئلة ستُجيب عنها الأيام، لكن الثابت أن زمن الأقنعة انتهى واللعب الآن على المكشوف.

يتم الاستخدام المواد وفقًا للمادة 27 أ من قانون حقوق التأليف والنشر 2007، وإن كنت تعتقد أنه تم انتهاك حقك، بصفتك مالكًا لهذه الحقوق في المواد التي تظهر على الموقع، فيمكنك التواصل معنا عبر البريد الإلكتروني على العنوان التالي: info@ashams.com والطلب بالتوقف عن استخدام المواد، مع ذكر اسمك الكامل ورقم هاتفك وإرفاق تصوير للشاشة ورابط للصفحة ذات الصلة على موقع الشمس. وشكرًا!

phone Icon

احصل على تطبيق اذاعة الشمس وكن على
إطلاع دائم بالأخبار أولاً بأول