انتخب مجمع الكرادلة مساء أمس الكاردينال روبرت فرنسيس بريفوست بابا جديدا خلفا للبابا فرنسيس الذي رحل عن هذا العالم في الحادي والعشرين من الشهر الفائت. واختار البابا الجديد اسم ليو الرابع عشر تيمنا بأسلافه الذين حملوا هذا الاسم، وبما يشير له هذا الاسم من معانٍ التي يجدر التوقف عندها.
أولا، اسم ليو، يعني الأسد. لكن ليس المقصود هنا أسد الذي يستعمل القوة المعهودة في العالم، بل أسدا يستعمل قوة المحبة، على مثال مؤسس الكنيسة ومعلمها الأكبر يسوع المسيح.
ما سبب اختيار البابا اسم ليو؟
كما أعتقد أن البابا الجديد اتخذ اسمه تيمنا بالبابا ليو الأول الذي التقى في العام 452 اتيلا الهوني، الذي غزا أوروبا وأخاف قيصر روما، فذهب البابا لملاقاته بدون جيوش واستطاع إقناعه بعدم التوجه لمحاربة روما.
وهنالك من يقول بأن البابا الجديد اتخذ هذا الاسم تيمنا بالبابا ليو الثالث عشر الذي اشتهر برسالته Rerum Novarump التي أصدرها في 16 أيار 1891 والتي اعتبرت وثيقة هامة دافعت عن حقوق الطبقة العاملة التي عانت آنذاك من الكثير من الاستغلال والتحديات.
shutterstock
ثانيا، هناك من يخشى البابا الجديد بسبب كونه أمريكيا، لكن هذه الخشية تنبع من تحليل سطحي للأمور، أولًا لأنها تشمل تعميمًا للأمريكيين بصورة تتنافى مع الواقع، وثانيًا، هذه النظرة تتجاهل بأن البابا المنتخب ترك الولايات المتحدة وخدم لأكثر من 25 عامًا في البيرو في أمريكا الجنوبية بعيدا عن أهله ومهتما بالفئات الضعيفة والمهمشة.
تجدر الإشارة بأنه في خطابه الأول الذي ألقاه مساء أمس من شرفة كنيسة القديس بطرس، لم يتحدث البابا بالانجليزية او عن أصوله الامريكية، بل تحدث بالاسبانية مخاطبا الأبرشية التي ترأسها في الماضي في البيرو.
ثالثًا، يميل الكثير من البشر إلى تفضيل "أحد منا" على غيره، وهذا أمر طبيعي، لكن هذا التوجه لا يتلاءم بالضرورة مع رسالة السيد المسيح والكنيسة اللذان يرون وجه الله في كل انسان.
الكنيسة جسد السيد المسيح على الأرض
والكنيسة هي جسد السيد المسيح على الأرض، أي انها تشمل الجميع بدون تمييز. لذلك، جميل هو التنوع بالخلفية العرقية للبابوات طالما أنهم يسيرون على مثال الراعي الصالح.
بهذه المناسبة، من المفيد الإشارة الى ما قاله السيد المسيح: " الله قادر ان يخلق من الحجارة أبناء لإبراهيم. كل شجرة لا تثمر ثمرا جيدا تقطع وتلقى في النار" (الآيتان 9 و10 من الفصل الثالث من إنجيل متى)، أي أن الله لا ينظر الى عرق الإنسان بل إلى ثمره، فبالنسبة لله، كل البشر أبناء متساوون له.
رابعًا، أشار البابا الجديد في خطابه إلى انه "أوغسطيني"، أي انه ينتمي للرهبنة الأوغسطينية التي دعيت على اثر القديس أوغسطينوس الذي عاش في شمال أفريقيا (354-430). ومن أبرز مبادئ هذه الرهبنة هي مشاركة ما لديك مع الآخرين، بعكس الكثيرين، خاصة من القيادات السياسية المعاصرة، الذين لا يكتفون بما لديهم بل يسعوا للحصول على ما هو لغيرهم.
سمعة البابا الجيدة وراء انتخابه بصورة سريعة
خامسًا، من الملفت الإشارة إلى أن البابا الجديد انتخب بصورة سريعة نسبيا، حيث تم الإعلان عن انتخابه في جلسة الاقتراع الثالثة لمجمع الكرادلة وبعد أقل من ثلاثين ساعة على بدء "الكونكلاف". يدل هذا الأمر على ثقة كبيرة التي حظى بها البابا الجديد من الكرادلة، حيث حصل على أكثر من ثلثي الأصوات.
هذا الأمر يعود ربما للسمعة الطيبة عنه أثناء خدمته في البيرو إضافة الى عمله إلى جانب البابا فرنسيس في الأعوام الثلاثة الماضية كمسؤول عن مجمع الأساقفة.
سادسًا، يخطئ الكثيرون بالتركيز بتعاملهم مع البابا على أنه رئيس دولة فقط. الخطأ شائع بالأساس بين بعض السياسيين الذين يتوقعون من البابا أن يدعم طرفا ضد الآخر، أو أن يتحالف سياسيا مع محور معين.
من هو بابا الفاتيكان؟
البابا هو رئيس اصغر دولة في العالم، لكنه راعي أكبر كيان على الأرض: الكنيسة الكاثوليكية. لذلك، فعندما يتم الحديث عن البابا، يخطئ البعض بالتشديد على الفاتيكان لأن الفاتيكان هو مقر البابا الذي يرأس "الكرسي الرسولي" الذي تمتد سلطته على أكثر من مليار وثلاثمائة مليون من البشر.
لذلك، من المهم الانتباه بأن الغالبية العظمى من مواقف البابوات وتحركاتهم تنبع من كونهم رعاة وليس بالضرورة من كونهم سياسيين. مع أنه علينا عدم تجاهل التأثيرات السياسية على مر العصور، إلا أن الغالبية العظمى من البابوات سعوا ليكونوا رعاة على مثال مؤسس الكنيسة، مع التشديد بأن لكل منهم طرقه ووسائله للعمل، بما يتلاءم مع شخصيته والأوضاع المحيطة به.
سابعا، أنصح من يبحث عن موظف بشخص البابا البحث عن موظفين في مكان آخر. فلا يمكن للبابا أن يؤيد الخطأ أو يسكت عليه، خاصة في وقتنا الراهن الذي يشهد فيه العالم تزايدا بعدد الحكام النرجسيين والشعبويين الذين يشكلون خطرا ليس فقط على محيطهم بل أيضا على استقرار العالم كله.
رجاء ومصالحة
لقد اختار البابا ليو الرابع عشر كلمتين كشعار له: "رجاء ومصالحة".
أي أنه في عصر يملؤه الاضطراب، يبقى الرجاء موجودا، وبالتالي، على مثال السيد المسيح، يريد منح أمل للناس السالكين في الظلمة وللساكنين بخوف وقلق. كما انه يريد تعزيز المصالحة بين البشر، أي أن يبني جسورا مع الجميع وبين الجميع، بطريقة التي تعزز رغبة المسيح أن يحب الإنسان أخاه مثل حبه لنفسه.
لقد استذكر البابا الجديد في خطابه بالأمس مصادفة يوم انتخابه مع عيد "سيدة بومبي"، وهو أحد ألقاب السيدة العذراء. كما أنهى خطابه بصلاة "السلام عليك يا مريم"، التي تطلب من خلالها الكنيسة شفاعة السيدة العذراء.
اضم صوتي الى صوت البابا ليو الرابع عشر بطلب شفاعة السيدة العذراء وبالصلاة إلى العلي القدير أن يسند البابا في مهمته الجديدة ويوفقه لما فيه خير البشر عامة والمؤمنين خاصة، وأن يواجه جميع التحديات بقوة المحبة، كما علمنا معلمنا القائم من الموت، لا بمحبة القوة التي يعظمها الأشرار وبعض البشر!.