في القدس، المدينة التي تنبض بأديانها وتاريخها وتناقضاتها، لم تكن البصقة مجرّد فعل مهين، بل تحوّلت إلى عدسة تكشف طبيعة نظام قانوني مزدوج المعايير، وتسلّط الضوء على عمق التمييز العنصري الذي تمارسه السلطات الإسرائيلية. فقد تم، مؤخرًا، اعتقال شاب فلسطيني بعد الاشتباه بأنه "بصق" على ضابطة إسرائيلية داخل حافلة، وسرعان ما مُدِّد اعتقاله لأربعة أيام على ذمة التحقيق، في خطوة توحي بأن الفعل يمس هيبة الدولة وسلطاتها الأمنية.
لكن الصورة تنقلب رأسًا على عقب عندما نضع هذه الحادثة في سياق أوسع. إذ تملأ مواقع التواصل الاجتماعي في الأشهر الأخيرة مقاطع فيديو وصور لشبان يهود متدينين، بعضهم طلاب في مدارس دينية، وهم يبصقون باتجاه رجال دين مسيحيين أو عند مرورهم أمام كنائس في القدس القديمة، في مشاهد متكررة ومثيرة للغضب. رغم أن وجوه هؤلاء المعتدين واضحة، وغالبًا ما تكون هوياتهم معروفة، لم يُبلَّغ عن أي اعتقال، ولم تُمدَّد أي فترات توقيف، ولم تُفتح قضايا جدّية ضدهم.
ازدواجية في العدالة
تكشف هذه المفارقة الصارخة عن عمق الازدواجية في تطبيق القانون الإسرائيلي، الذي يبدو صارمًا ومتعجرفًا عند التعامل مع الفلسطينيين، بينما يظهر متسامحًا أو حتى متواطئًا عند التعامل مع اعتداءات اليهود المتطرفين. فكيف يمكن تفسير الفرق في ردود الفعل القانونية على فعل واحد: البصق؟ أهو الفعل بحد ذاته، أم هوية الفاعل والمفعول به هي التي تُحدد مستوى التعامل القضائي؟
في الحالتين، الفعل غير أخلاقي، ومهين، وربما يستدعي المساءلة. لكن في الحالة الفلسطينية، يُنظر إلى الفعل وكأنه تحدٍّ لسيادة الدولة، بينما في الحالة اليهودية يُعامل على أنه تجاوز فردي لا يستحق أكثر من تجاهل.
أداة قمع سياسي؟
منذ سنوات، يستخدم النظام الإسرائيلي أدوات القانون كجزء من منظومة السيطرة على الفلسطينيين. الاعتقال الإداري، والتوقيفات غير المبررة، والعقوبات الجماعية، كلّها مؤشرات على أن القانون ليس أداة للعدالة، بل وسيلة لضبط وإخضاع فئة محددة من السكان. ما حدث مع الشاب الفلسطيني هو انعكاس لهذا النهج: رد فعل مبالغ فيه، يهدف ليس فقط إلى معاقبته، بل إلى إرسال رسالة رادعة إلى كل فلسطيني يفكّر بمخالفة "الحدود المسموحة".
في المقابل، فإن التغاضي عن أفعال المتدينين اليهود، حتى عندما تستهدف مؤسسات ورموزًا دينية لمجتمعات أخرى، يُظهر تواطؤًا خطيرًا. إنه تهاون يتغذى من خطاب سياسي يميني يُغذي الكراهية، ويبرّر سلوكيات جماعات متطرفة باعتبارها جزءًا من "الهوية الدينية" أو "ردود فعل تاريخية".
أين الشرطة؟ أين القضاء؟
اللافت في الأمر أن غالبية هذه الأفعال موثّقة. المقاطع منتشرة، والوجوه واضحة، وحتى المواقع معروفة. ومع ذلك، لم نشهد أي حملة أمنية أو تحقيقات جدّية. وبدورها لم تعلن الشرطة عن اعتقال متهم واحد من بين عشرات الحالات المصورة والموثقة، رغم أن البصق بات أداة شبه يومية للإهانة الدينية ضد المسيحيين في المدينة.
هذا الغياب شبه التام لإنفاذ القانون في جانب، وتشدده في الجانب الآخر، ليس عشوائيًا. إنه يعكس توجّهًا مؤسسيًا يرسم خطوطًا حمراء فقط عندما يتعلق الأمر بالفلسطينيين، بينما يتيح مساحة واسعة لليهود المتطرفين لتجاوز القوانين دون حساب.
ليست حادثة فردية
من الخطأ التعامل مع هذه الأحداث على أنها مجرد تجاوزات فردية. ما يحدث هو انعكاس لبيئة سياسية وثقافية واجتماعية تُشجع على العنصرية، وتُعزز من شعور فئات يهودية معينة بأنهم فوق القانون، خصوصًا عندما تكون ضحاياهم من الفلسطينيين أو من غير اليهود عمومًا.
التحريض المتواصل من قِبَل شخصيات سياسية ودينية، والتقاعس المتعمد من قِبَل الشرطة والنيابة، كلّها تخلق بيئة يُنظر فيها إلى العنف الرمزي والفعلي ضد الآخر كأمر مشروع أو حتى مُستحب.
عن العدالة التي تكشفها بصقة
ليست البصقة في حد ذاتها هي ما يشعل الجدل، بل ما تفضحه من معايير مزدوجة، ومن نظرة انتقائية للعدالة. في دولة تنام وتصحو على القول إنّها الديمقراطية الوحيدة في الشرق الأوسط، يبرز سؤال: هل العدالة فيها فعلًا عمياء؟ أم أنها ترى جيدًا، لكنها تُميز بين عربي ويهودي، بين فلسطيني ومستوطن، بين بصقة وبصقة؟
في القدس، حيث تختلط القداسة بالسياسة، يثبت الواقع مرة أخرى أن القانون لا يُطبّق بالتساوي، وأن الهوية العرقية هي من تحدد غالبًا إن كنت مذنبًا أم لا، حتى في أبسط وأتفه القضايا. وبين بصقة وأخرى، تتكشف هوية الدولة كما لم تُكشف من قبل.