حين نسمع عن حرب تُشنّ على إيران، تُختزل الصورة غالبًا في ملفها النووي. لكن الحقيقة أن هذا الملف ما هو إلا رأس جبل الجليد، يخفي خلفه صراعًا أشمل وأعمق، يدور حول الجغرافيا، والاقتصاد، والممرات الحيوية في قلب آسيا. فالمواجهة التي تجري اليوم ليست مجرد نزاع عسكري، بل حلقة مفصلية في صراع عالمي على النفوذ والثروات والمسارات التجارية، من الخليج العربي حتى بحر الصين الجنوبي.
إيران كعقدة جغرافية حساسة
تقع إيران على مفترق طرق استراتيجي يفصل بين آسيا الوسطى، القوقاز، الخليج العربي، والمحيط الهندي. وتشرف على واحد من أهم الممرات المائية في العالم، مضيق هرمز، الذي يعبر منه نحو 20% من النفط العالمي. هذا الموقع يعطي إيران أداة ضغط جيوسياسي لا يمكن تجاهلها، ويمكّنها من تعطيل جزء كبير من حركة التجارة العالمية إذا اختارت التصعيد.
ولأن العالم – وخاصّة الدول الصناعية الكبرى – ما زال يعتمد بشكل كبير على النفط والغاز، فإن السيطرة أو حتى التهديد بالسيطرة على ممر مثل هرمز يمنح إيران موقعًا تفاوضيًا أقوى من وزنها الاقتصادي الفعلي.
التحوّل إلى "بوابة الصين" في الغرب
واحدة من أخطر التهديدات التي تراها الولايات المتحدة في إيران ليست عسكرية فقط، بل اقتصادية وجيواستراتيجية. فإيران باتت واحدة من أهم محطات "مبادرة الحزام والطريق" الصينية، التي تسعى بكين من خلالها إلى إنشاء شبكة برية وبحرية تربطها بالشرق الأوسط، وأفريقيا، وأوروبا.
من خلال استثمارات ضخمة، وسكك حديد وموانئ، تعمل الصين على تحويل إيران إلى معبر رئيسي لصادراتها نحو الغرب، خارج السيطرة الغربية التقليدية. وهذا التطور يقلق واشنطن بشدة، لأنه يهدد بإنهاء هيمنة الشركات الأمريكية والغربية على طرق التجارة الدولية.
في هذا السياق، يمكن فهم بعض الهجمات على الموانئ الإيرانية، وعرقلة الاستثمارات الصينية، كمحاولات لمنع طهران من أن تصبح منصة لعبور البضائع الصينية إلى البحر الأبيض المتوسط، والخليج، وما بعدهما.
النفط والغاز: كنز وتهديد في آن
تمتلك إيران رابع أكبر احتياطي نفطي في العالم، والثاني في الغاز الطبيعي. لكنها، منذ عقود، تعاني من صعوبات في تصدير هذه الموارد بسبب العقوبات الغربية.
إلا أن الشراكة مع الصين وروسيا فتحت بابًا خلفيًا للالتفاف على الحظر، من خلال التبادل بالعملات المحلية، أو مشاريع البنية التحتية التي تُسدّد بقيمة الغاز والنفط.
في نظر واشنطن، فإن هذه التحركات تُضعف فاعلية العقوبات، وتمنح إيران موارد مالية كافية لمواصلة دعم حلفائها في المنطقة، وتوسيع نفوذها. وهنا يظهر هدف غير معلن للحرب: منع إيران من التحول إلى مزوّد مستقرّ للطاقة في الشرق، ينافس الخليج المدعوم أمريكيًا.
حصار الصين يبدأ من طهران؟
تعتقد واشنطن أن التضييق على إيران يشكل جزءًا من استراتيجية تطويق الصين. فإذا كانت بكين تستورد جزءًا كبيرًا من طاقتها من الخليج، وتموّل مشاريع عبر إيران، فإن ضرب الاستقرار الإيراني يهدد الأمن الطاقوي الصيني، ويُربك خطوط الإمداد.
وهذا ما يجعل الحرب على إيران في نظر البعض، ليست موجهة ضدها كدولة فقط، بل كأداة في مواجهة الصين. كل خطوة تُضعف طهران، هي خطوة تضرب العمق الاستراتيجي لبكين في طريق حريرها الجديد.
إيران كحائط صد أمام التفكك الإقليمي
من منظور إقليمي، شكّلت إيران خلال العقدين الماضيين حائط صدّ أمام مشروعات التفتيت والتفكيك في الشرق الأوسط. من العراق إلى سورية واليمن ولبنان، ساعدت طهران في منع انهيار كيانات الدولة، أو على الأقل وفرت توازنًا مضادًا للنفوذ الأمريكي والإسرائيلي.
إضعاف إيران عسكريًا واقتصاديًا، يعني – بنظر بعض الأطراف الغربية – فتح الباب أمام إعادة رسم المنطقة، سياسيًا واقتصاديًا. وهو ما يفسر أيضًا التخوفات لدى دول مثل باكستان والسعودية، التي – رغم تناقضاتها مع طهران – تدرك أن سقوط إيران لا يعني فقط نهاية نظام، بل نهاية توازن هش يمنع زلزالًا إقليميًا.
التحالفات: بين الغرب والشرق
التحالفات هي التي تُحسم عادة شكل الحروب. إيران ليست وحدها: الصين، وروسيا، وفنزويلا، وكوريا الشمالية، كلها أطراف تدعمها بدرجات مختلفة. مقابل ذلك، تقف إسرائيل، والولايات المتحدة، وبريطانيا، إلى جانب تحالفات إقليمية ترى في إيران خصمًا أو تهديدًا.
لكن الحروب الحديثة لا تُخاض فقط بالتحالفات العسكرية، بل أيضًا بالسفن التجارية، وخطوط الإمداد، وأسواق الطاقة، وخرائط الاستثمارات. وكلّها تُعيدنا إلى الجغرافيا والاقتصاد، لا إلى الترسانة النووية فقط.
إسرائيل: الذراع التنفيذي للحرب
منذ الثالث عشر من حزيران الجاري، تشنّ إسرائيل سلسلة من الغارات الجوية المكثفة والمركّزة على مواقع عسكرية وبنية تحتية داخل إيران. هذا التحرك العسكري الإسرائيلي لا يأتي فقط ضمن حدود ما تحب إسرائيل أن تدعوه "الدفاع عن النفس" أو الردع، بل في إطار دور أوسع تُنفّذه تل أبيب كذراع تنفيذية للمحور الغربي في مواجهة إيران.
إسرائيل لا تتحرك بمعزل عن الولايات المتحدة، بل في تنسيق عسكري واستخباراتي مستمر، وتستفيد من دعم غير محدود في التمويل والتكنولوجيا والدبلوماسية. لكنها، في الوقت ذاته، تمتلك دوافعها الذاتية؛ فهي ترى في إيران تهديدًا وجوديًا بسبب برنامجها النووي وتحالفها مع حزب الله، ما يجعلها أكثر الأطراف استعدادًا لإشعال المواجهة وتحمل تبعاتها.
وهكذا، تتحول إسرائيل من مجرد لاعب إقليمي إلى رأس حربة في الصراع الجيوسياسي الأوسع، حيث تنفذ الضربات الميدانية، بينما تدير واشنطن الحسابات الكبرى للردع، والتحالفات، وإدارة الرأي العام الدولي.
خلاصة
الحرب على إيران، ليست معركة طائرات ومسيرات فقط، بل صدامًا بين رؤيتين للعالم: واحدة تريد الاحتفاظ بهيمنة الغرب على التجارة والطاقة والممرات، وأخرى تسعى إلى عالم متعدّد الأقطاب، تُعاد فيه صياغة الموازين، ويُفتح فيه الطريق لشرق يصنع مصيره بعيدًا عن واشنطن ولندن وتل أبيب.
وفي قلب هذا الاشتباك… تقف إيران، لا كقوة نووية فحسب، بل كنقطة ارتكاز جيوسياسية، تسعى كل القوى الكبرى إلى كسرها… أو الحفاظ عليها.