في تموز من عام 2005، صعد المستوطن نتان زاده إلى حافلة متجهة من حيفا إلى شفاعمرو، وأطلق النار على ركابها، فقتل أربعة مواطنين فلسطينين وأصيب 12 آخرين.
منذ ذلك الحين وحتى اليوم، تتكرر أحداث مشابهة بأشكال مختلفة في مناطق متعدد، فهو ذاته المستوطن الذي يحرق البيوت في بورين، ويشارك في الهجمات المنظمة على أحياء العرب في اللد ويافا خلال هبّة الكرامة عام 2021. وهو ذاته الذي قتل الناشط عودة محمد الهذالين.
تعددت الأسماء، لكن الدافع واحد: أيديولوجيا عنصرية، تؤمن بالتفوّق العرقي وتُربّي الافراد على أن الأرض "هبة إلهية" لهم، وتنزع عن الفلسطيني إنسانيته، وتمنح المستوطن حقًّا مطلقًا في البطش، ما دام خصمه عربيًّا.
ارتفاع وتيرة العنف: أرقام ومؤشرات
صرحت هيئة مقاومة الجدار والاستيطان الفلسطينية أن الجيش الإسرائيلي والمستوطنين نفذوا خلال تموز الماضي 1821 اعتداء في الضفة الغربية، بما فيها القدس الشرقية.
وتراوحت الاعتداءات بين هجمات مسلحة على قرى فلسطينية، وفرض وقائع على الأرض، وإعدامات ميدانية، وتجريف أراضٍ، واقتلاع أشجار، والاستيلاء على ممتلكات، إلى جانب إغلاقات ونصب حواجز تقطع أواصر الجغرافيا الفلسطينية.
التحريض، الخطاب، والتأثير الأيديولوجي
ما يجري ليس انفلاتا ولا حالات فردية كما يحاول بعض السياسيين الترويج لها، بل يجب النظر إليها في ضوء سياقات أوسع تتعلق بخلفيات أيديولوجية، وخطابات تحريضية، وواقع قانوني وأمني يوفّر أحيانًا الغطاء أو يتساهل في تطبيق القانون. والعقلية الاستعمارية والاستعلائية التي بدورها ترسّخ في وعي المستوطن / المستعمر أن الفلسطيني ليس بشرًا، بل خطر ديموغرافي، وتهديد وجودي، وعدو فطري. يجب طرده أو سحقه.
وتُطرح تساؤلات متكررة حول غياب المحاسبة، خاصة في حالات يُشتبه فيها بتورط مستوطنين في حوادث عنف ضد فلسطينيين، دون أن تُستكمل بحقهم الإجراءات القانونية اللازمة.
يشير فرانز فانون إلى أن اللغة التي يستخدمها المستعمِر لوصف المستعمَر تشبه لغة وصف الحيوانات: "تنمّل الجماهير وقطعان الأهالي وتفريغ السكان".. فهذه المصطلحات تسهم في نزع انسانيتهم وتبرير الهيمنة عليهم. هذه اللغة نفسها تُستعاد اليوم في الخطاب الإسرائيلي الرسمي تجاه الفلسطينيين.
حيث يُصوّر الفلسطيني أحيانًا كخطر أمني، وهو ما قد يسهم في تطبيع العنف ضده أو تبريره كـ"دفاع عن النفس".
هل هناك إفلات من العقاب؟
وفي حادثة مقتل الناشط الفلسطيني عودة الهذالين، تم احتجاز جثمانه وأُفرج عن المستوطن المتهم بعد ساعات قليلة، دون استكمال تحقيقات جنائية علنية، والمستوطن الذي أطلق النار على فلسطيني في حقل أو على حاجز لا يُقدَّم للمحاكمة، وهو ما أثار ردود فعل غاضبة، خاصة في ظل ما تراه منظمات حقوق الإنسان كاتجاه متكرر للإفلات من العقاب.
من جهة أخرى، نرى أن هناك تغاضٍ أو صمت تجاه هذا النوع من العنف، وأن بعض القيادات السياسية تدعم بشكل مباشر أو غير مباشر التوسع الاستيطاني، وهو ما ينعكس على الأرض من خلال سلوكيات ميدانية وتصريحات رسمية. ففي يونيو 2023، دعا وزير الأمن القومي إيتمار بن غفير إلى "استيطان شامل" في جميع المناطق المحيطة، في تصريح اعتبره البعض تحريضًا مباشرًا على تصعيد ميداني.
إنّ تصوير المستوطنين كجهة منفصلة عن مؤسسات الدولة يسهم في تفكيك المسؤولية، وإبعاد الشبهات عن النظام السياسي نفسه، رغم أن العديد من التقارير توثق وجود علاقة وثيقة بين المستوطنين والمؤسسة الأمنية، سواء عبر التسليح أو التنسيق الميداني.
يتطرق الكاتب ممدوح عدوان في كتابه "حيونة الإنسان"، إلى عنصر آخر، يجعل هذا العنف مستساغًا، وهو اعتبار الجلاد الضحيةَ إنسانًا آخر أدنى منه، أو إنسانًا غير سوي، لتنفيذ هذا التعذيب.
لكن إذا كان المستوطن الذي يطلق النار يفلت من المحاسبة و يُعامل كبطل، والضحية الفلسطيني تُدان حتى في موته، فأي عدالة يمكن الحديث عنها؟ هل يكفي التوثيق والادانة حين يتحول العنف الى اداة لبسط السيطرة ويكون الهدف النهائي هو دفع الفلسطينيين إلى المغادرة، طوعًا أو قهرًا؟ ماهي الضمانات لعدم تحوّل هذا النمط إلى واقع دائم يصعب تغييره؟
تبقى الأسئلة مفتوحة، والإجابات على ما يبدو لا تزال مؤجلة.