لم يعُد الخطر في مجتمعنا العربي يقتصر على الجريمة المتعمّدة، ولا على الصراعات بين العصابات أو الخلافات الشخصيّة. اليوم، يعيش الناس تحت ظلّ خوف من نوع آخر: رصاصة قد تُطلق على الشخص الخطأ، من يد جاهلة أو سلاح غير آمن، لتُصيب شخصًا لا علاقة له بأي شيء.
أصبح الشخص يشعر بالخوف إذا خرج من بيته، لشراء شيء ما، أو يقف بصف، أو يمرّ بجانب بيت، لأن لحظة عبث بالسلاح أصبحت كفيلة بقلب حياة عائلات كاملة.
أخطر ما في انتشار السلاح أنَّه لا يُهدّد الحياة فحسب، بل يهدم شعور الإنسان بالأمان والثقة بالدولة والمجتمع.
حين يرى المواطن سلاحًا يُعرض في كل مكان، بلا رقيب، بلا عقاب، يتملكه شعور أن حياته مجرد احتمال، وأن حمايته مستحيلة.
تصبح الحوادث العشوائية طبيعية، والدم يُراق دون مساءلة، ويعيش الناس في خوف دائم، مستسلمين لواقعٍ مأساوي لم يُختَر لهم.
الرصاصة العابرة
الرصاصة العابرة لا تسأل عن هوية، ولا تعرف عُمر الضحية، ولا تبالي بأحلامه أو خططه.
في لحظة واحدة، يمكن أن تُزهِق روحًا بريئة، وتُحوّل حياة أسرة بأكملها إلى حُزن دائم.
طفل كان يلعب على عتبة بيته، عاملة كانت عائدة من السوق، شاب كان يقف عند محله… كلهم أصبحوا تحت رحمة رصاصة عمياء لا تميّز بينهم، وبين هدفها الحقيقي.
هذه الرصاصة لا تُخلف آثارًا جسدية فقط، بل تُخلف ندوبًا في القلوب والذاكرة، تحفر الألم في كل زاوية من حياة من تبقّى من أحبائهم.
الرصاصة التي لا تميز بين القصد والبراءة
ليس كل قتيل هو هدف الجاني؛ أحيانًا يكون القتل قصديًا لشخص ما، لكن الرصاصة تختار ضحيةً بريئة.
شاب كان مارًّا من الشارع، طفل دخل متجرًا بسيطًا، امرأة كانت واقفة قرب منزلها… فجأة يجدون أنفسهم ضحايا رصاصة لم تكن لهم، ولم يرتكبوا أي خطأ.
في هذه اللحظة، يتحوّل العنف إلى عبث قاتل. الجاني كان يقصد شخصًا آخر، لكن الطلقة لم تُفرق بين القصد والبراءة، وحياة بريئة تُزهَق بلا ذنب.
وهكذا، يتحوّل المكان العادي إلى مسرح مأساوي، وتترك الرصاصة آثارًا أعمق من الجسد: خوف دائم، ألم لا يشفى، وذكريات محفورة في كل زاوية من حياة من تبقّى من أحبائهم.
هذا النوع من الجرائم خلق حالة خوف عميق، الناس أصبحت تشعر أن الخطر لا عنوان له.
لا خلاف، لا مشكلة، لا عداوة… ومع ذلك، يمكن أن تخسر حياتك صدفة أو عن طريق الخطأ.
أصبح الشخص يفكر مرتين قبل أن يدخل مكانًا ما، أو قبل أن يقترب من تجمّع، أو حتى قبل أن يمرّ بجانب مكان صدر عنه صوت صراخ.
الخوف أصبح يوميًا… عشوائيًا… ومُرهقًا.
انتشار الأسلحة
تزايد انتشار الأسلحة غير المرخّصة خلق بيئة خطيرة، ليس فقط للجريمة، بل للحياة اليومية.
في مناسبات، وبيوت، وحفلات، وحتى في ورش عمل، السلاح موجود، مكشوف، وفي أيدٍ غير مؤهلة.
طلقة واحدة ليست في مكانها تُحوّل مشهدًا عاديًا إلى كارثة.
في السنوات الأخيرة، شهدت بلداتنا العربية عديدة حالات قتل "بالخَطأ":
طفل يُصاب حين يعبث أحد أفراد العائلة بالسلاح.
امرأة تتلقى رصاصة طائشة وهي داخل بقالة.
شاب يُقتل وهو في عمله
إطلاق نار عشوائي في مناسبة ينتهي بضحايا ومصابين .
وفي كل مرة يتكرر السؤال: كيف وصل السلاح إلى هنا؟ ولماذا لم يكن مؤمّنًا؟
مسؤولية المجتمع قبل القانون
التغيير الحقيقي لن يأتي من القانون وحده، بل يبدأ من المجتمع نفسه.
حين يرفض الأهالي وجود السلاح في بيوتهم، وحين تُجرّم المناسبات إطلاق النار، وحين يُدرك الشباب أن السلاح ليس رمز قوة، بل أداة موت، هنا فقط يمكن أن نتوقّع مجتمعًا أكثر أمانًا.
كلمة "لا" واحدة، موقف شجاع، وعقل واعٍ قد تُنقذ حياة، وتُعيد للشارع معناه الطبيعي: الأمن، والحياة، والسلام.
أخصائيون نفسيون يؤكدون أنّ هذا النوع من الحوادث يخلّف ندوبًا طويلة الأمد:
• اضطرابات ما بعد الصدمة.
• شعور دائم بالذنب.
• تشتت اجتماعي وعائلي.
• انهيار العلاقات داخل البيوت.
السلاح له أهمية… لكن لِمَن وفي أي موقف؟
لا ننكر أنّ للسلاح دور مهم في مواقف معيّنة، مثل عمل الشرطة، والحراسة، وحماية مواقع حسّاسة، أو مهام أمنية واضحة ومحدّدة. هنا يكون السلاح وسيلة لضبط الأمن ومنع الخطر، ويكون في أيدي مختصّين مدرَّبين يعرفون كيف يستخدمونه وكيف يؤمّنونه.
لكن خارج هذه المواقف، وجود السلاح بين الناس ليس له أي ضرورة، ولا يضيف أية قوة أو حماية… بالعكس، يتحوّل لسبب مباشر لحوادث "الخطأ"، ولقتل ناس ليست لهم علاقة بأي خلاف.
وهذ الجرائم تتكرر يوميًا، وتُسفر عن شلال دم لا يتوقف في مجتمعنا العربي!
أين القانون؟ محاسبة غائبة وسلاح بلا رقيب
من الناحية القانونية، يُفرّق القانون بين القتل المتعمّد والقتل غير المتعمّد، لكن الفجوة الكبرى تكمن في عدم ضبط السلاح أساسًا، ولا حتى القبض على المجرمين.
السلاح المتداول بين الناس بلا رخص، بلا تدريب، بلا ثقافة أمان.
ومهما كانت العقوبة لاحقًا، هي لا تعيد الحياة، ولا تعالج أصل المشكلة: وجود السلاح في كل مكان.
كيفية الحد من هذه الظاهرة؟
الحلول موجودة، لكن الإرادة ناقصة:
1. جمع السلاح غير المرخّص بشكل فعلي وليس إعلامي.
2. تجريم إطلاق النار في المناسبات بصرامة وملاحقة.
3. برامج توعية في المدارس عن مخاطر السلاح.
4. حملات مجتمعية ترفض ثقافة "السلاح رجولة".
القتل عن طريق الخطأ ليس حادثًا عابرًا، بل رسالة خطيرة:
طالما السلاح في كل زاوية، سنظل نخسر أرواحًا بلا سبب.
ولن يصبح المجتمع آمنًا إلا عندما تتحوّل ثقافتنا من قبول السلاح… إلى محاسبته، ومن السكوت على الخطر… إلى مواجهته.