في السنوات الأخيرة، لم يعد العنف في مجتمعنا حدثًا عابرًا بل زمنًا وواقعًا يفرض نفسه على تفاصيل الحياة اليومية، بيئة تُعيد تشكيل سلوكنا وتفكيرنا وعلاقاتنا. ومع تصاعد نفوذ العصابات وتراجع دور الدولة أو تواطؤها، تغيّر شكل العلاقات المجتمعية وطرق التنظيم المدني داخل بلداتنا العربية، وبدأت تظهر تحوّلات عميقة في طريقة تفاعلنا كجماعات وبلدات.
فبعد أن كنا نتحرك بوصفنا مجتمعًا واحدًا، قادرًا على إطلاق مبادرات واسعة تتخطّى حدود الجغرافيا والانتماء المحلي، بتنا نرى اليوم بلدات تعمل "كلٌّ في جزيرتها"، تحاول النجاة بقدراتها المحدودة وبوسائلها الخاصة.
هذا الانتقال من "العمل الجماعي" إلى "جزرٍ منفصلة" ليس مجرّد تبدّل في أسلوب التنظيم، بل هو انعكاس مباشر لمنسوب الخوف والإرهاق النفسي، وخوفٌ يتسرّب إلى البنية الاجتماعية أكبر بكثير مما نرى على السطح.
وهذا التحول لا يتعلق فقط بطريقة العمل والتنظيم، بل بالبنية النفسية والاجتماعية للمجتمع: اتساع دائرة الخوف، تآكل الثقة بالمؤسسات والهيئات التمثيلية، وإرهاق جماعي ممتد جعل المبادرات الواسعة تبدو صعبة، وربما مستحيلة.
ومع ذلك، فإن هذه الصورة ليست نهائية. فالمبادرات الصغيرة التي تظهر هنا وهناك تُذكّرنا بأن الروح الجماعية لم تختفِ، بل تنتظر لحظة مناسبة لتعود.
حين يتقدّم الخوف… وتتراجع الروح المشتركة
في مقدمة الأسباب يظهر الخوف كعامل مركزي؛ إذ أصبح الخوف الفردي أقوى من الشعور بالانتماء الجماعي، وبات كثيرون يتجنّبون المشاركة في مبادرات أو نشاطات خارج بلداتهم خشية الاستهداف أو التهديد.
وأحيانًا، وسط هذا الواقع، يتردد سؤال بسيط لكنه قاسٍ:
هل أصبح الخروج من البيت أو المشاركة في نشاط عام فعلًا من أفعال الشجاعة؟
هذا السؤال وحده يكشف حجم التحوّل الذي مررنا به، وكيف تغيّر معنى الحياة اليومية في مجتمعنا.
إلى جانب ذلك، تراجع الثقة بالمؤسسات الرسمية، وخاصة أجهزة تطبيق القانون، جعل العديد يشعرون بأنهم متروكون لمصيرهم، وأن كل بلدة لا تستطيع الاعتماد إلا على ذاتها. وفي بعض المناطق، تَحوّلت العصابات إلى ما يشبه السلطة الموازية، تفرض قواعدها وتحدد حدود الحركة الاجتماعية، مما خلق تفاوتًا في مستوى الأمان بين بلدة وأخرى.
تطبيع العنف
كما أسهم الإرهاق النفسي الناتج عن سنوات طويلة من العنف في إضعاف القدرة على الاستمرار في المبادرات الجماعية، وتحويل العمل العام إلى ردود فعل قصيرة وعابرة، بدل أن يكون نشاطًا طويل النفس ومبنيًا على تخطيط واستمرارية.
إلى ذلك، تشهد البنية الاجتماعية والتنظيمية تغيّرًا واضحًا؛ فضعف القيادات المحلية، وغياب الإطار الجامع أو اللجان الشعبية التي كانت تُشكّل مظلة عمل مشترك، جعل التنسيق بين البلدات أصعب وأكثر هشاشة.
ما زلنا قادرين
ورغم أن مشهد المجتمع اليوم يبدو أكثر تفككًا، وأكثر خوفًا، وأكثر انكماشًا داخل حدود البلدات، فإن التجربة أثبتت أن الروح الجماعية لا تختفي، بل تخفت ثم تعود مع اللحظة المناسبة. فكل موجة عنف مررنا بها كانت تُقابل دائمًا بمبادرات صغيرة تعيد التذكير بأننا ما زلنا قادرين على الوقوف معًا.
استعادة "النحن" ليست مهمة مستحيلة، لكنها تحتاج إلى بناء ثقة جديدة، وإلى مبادرات محمية، وإلى خطاب يربط البلدات بدل أن يعمّق عزلتها. كما تحتاج إلى قيادات مهنية، وشبكات تنظيم عابرة للبلدات، وأطر شبابية قادرة على خلق فعل جماعي آمن ومُستدام.
قد لا نعود غدًا إلى ما كنّا عليه قبل عشر سنوات، لكن كل خطوة صغيرة نحو التعاون - كل مبادرة مشتركة، كل مساحة آمنة للحوار، وكل منصة مدنية مستقلة - هي ترميم حقيقي لشعورنا بأننا مجتمع واحد، لا مجموعة جزر متباعدة.
وربما في قلب هذا الظرف الصعب بالذات، تتشكل البذرة الأولى لعودة الروح الجماعية، تلك التي لا تُمحى مهما اشتد العنف من حولنا. فالنجاة فرديًا قد تُبعد الخطر، لكن النجاة جماعيًا هي الطريقة الوحيدة لإنهائه ولنكن متأكدين: لن نحمي أنفسنا بالانعزال، بل بإعادة بناء ما تحطم بيننا.